الصحفيون بين النقابة والحزب

د. عبد المنعم سعيد

تنجح المجتمعات والدول فى إدارة نفسها وتتقدم إلى الأمام حينما يجرى فى داخلها عمليات لتقسيم العمل بحيث يقوم كل فرد فيها أو جماعة بالوظيفة

المؤهل لها حسب ما يجرى توصيفه من مهام تقدرها القوانين أو التقاليد. ويكون الفشل جاريا عندما تجرى عملية القفز ما بين الوظائف والأعمال، فتختلط الأوراق والمهام، وبدلا من فصل السلطات فى الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية تقوم كل سلطة بالتعدى على السلطة الأخرى بالاستحواذ على وظائفها. صحيح أنه كثيرا ما تكون هناك مناطق رمادية تتلامس فيها الوظائف والسلطات، ولكن المجتمعات الناضجة تتحوط لهذه الحالة بوجود قواعد ومؤسسات (المحكمة الدستورية العليا) لفض الاشتباك ورسم الحدود التى تقف عندها سلطة وتبدأ عندها سلطة أخري.

وفى البلدان النامية عامة فإنه من أصعب المهام فى مراحل التحول من أنظمة سلطوية أو مركزية إلى أخرى ديمقراطية التعرف على الحدود الفاصلة بين السلطات، وبين مهام ووظائف المؤسسات المختلفة. وعادة ما تكون «السياسة» هى أهم ساحات الخلط والاشتباك لأنها تتعلق بالشأن العام من ناحية، وهدفها تحقيق المصالح العليا للجماعة السياسية فى جميع أركانها من ناحية أخري. ويصبح من الصعب على كثير من المؤسسات أن تبعد نفسها عن الوظيفة السياسية باعتبارها الوظيفة التى يتشارك فيها أركان المجتمع السياسي. وفى مصر فإن هذا الخلط شائع، بل أن جهدا فكريا وقانونيا كثيرا ما يبذل من أجل تبرير تدخل كل سلطة فى أعمال السلطات الأخري، أو قيام مؤسسات بالتداخل مع أعمال المؤسسات الأخرى من أجل تحقيق ما تراه «المصلحة العامة». مثل ذلك يتنافى بالضرورة مع القاعدة التى أرسيناها فى أعلى المقال والتى جوهرها أن تقسيم العمل، والفصل بين السلطات، هو الذى يجعل المجتمع والدولة أكثر كفاءة فى تحقيق أهدافها، وفى الدول الديمقراطية فإن تحقيق هذه الغاية هو الضمان الذى يحمى النظام الديمقراطى من التدهور إلى عالم الفوضى الذى ينتهى دوما إما إلى حروب أهلية دامية، أو إلى التحول إلى نظام ديكتاتوري.

 

عملية التحول الديمقراطى فى مصر تعانى أمراض خلط الأوراق، واختلاط الوظائف والمهام، وتعدى السلطات على بعضها عن قصد أو عن غير قصد. ولكن ما يهمنا هنا جانب منها فقط والمتعلق بعملية الخلط بين «النقابة» و»الحزب السياسي»؛ والمناسبة هى انتخابات نقابة الصحفيين التى عادة ما تجسد هذا الخلط. فالنقابة هى تجمع للمصالح بين أفراد تجمعهم فقط المهنة أو الوظيفة الاجتماعية التى يقومون بها، فليس من الضرورة أن يجمعهم دين واحد، أو أيديولوجية واحدة، أو حزب سياسى واحد، وفى العادة فإن لديهم مهمتين: الأولى حماية الأعضاء والدفاع عنهم ضد الأخطار المتعلقة بممارسة المهنة؛ والثانية تحسين أوضاع العاملين فيها بوسائل متنوعة لرفع المستوى المهنى أوالحصول على حقوق العمل من أرباب الأعمال. الحزب السياسى له وظيفة أخري، فأعضاؤه على العكس لا تجمعهم مهنة واحدة، وإنما يجمعهم توجه أو أيديولوجية تتعرف على المصلحة العامة ووسائل إنجازها، ومن ثم فإنها تسعى إلى السلطة السياسية لتحقيق هذا الغرض من خلال الانتخابات العامة.

تاريخ نقابة الصحفيين المصريين كان فيه دوما كثير من الخلط بين النقابة المهنية والحزب السياسى على اختلاف وظائفهما فى المجتمع. وأحيانا فإن الأمر لم يكن تدخلا من جانب حزب سياسى بعينه، بل كان من جانب تيار أو جماعة فيه باتت تضع الحدود والقيود على ما تعتبره مناصرة للحرية أو عداء لها، أو ما يعتبر وطنيا أو خائنا، أو واقفا فى صف الصحفيين أو منتميا للسلطة العامة. وبات جزءا من الثقافة العامة للانتخابات الصحفية تقسيم المرشحين ما بين مرشح «الخدمات» ومرشح «الحريات»، الأولى تقوم على الحصول على المميزات من الحكومة (من المساكن إلى المقابر)، والثانية تتوقف على التيار السياسى السائد وأحكامه على القضايا المعروضة وانتماءات الصحفيين السياسية. مثل هذا التمييز كان ممكنا التعايش معه خلال مراحل سابقة رغم ما فيه من خلل، أما الآن فإن مصر قد بات لها دستور واضح، وهناك توافق على أنه من أعظم الدساتير التى عرفتها مصر. ولعل وظيفة المصريين جميعا أن يضعوه موضع التطبيق من خلال التفسير والتحليل والحرص الشديد فلا يجتزأ ولا يجرى تفصيل كلماته على أهداف سياسية محددة مسبقا. ومع الدستور يوجد مجلس النواب، وسلطة قضائية محصنة، وفيها محكمة عليا مسئولة عن تفسير وتحكيم الدستور.

 

مثل هذا النظام السياسى لا يصبح ديمقراطيا وحده من خلال آلية ذاتية؛ وإنما يكون ذلك من خلال « السوابق» والتقاليد التى يجرى تفعيلها فى الواقع السياسى نفسه. وهذا لا يحدث إذا ما استمر الخلط والتجاوز بين حدود المؤسسات فتقوم النقابة بدور الحزب السياسي، أو تيار فيه، أو تقوم السلطة القضائية بأعمال السلطة التنفيذية، أو العكس. بمعنى آخر فإن إقامة النظام الديمقراطى لا تكون من خلال «تسييس» المؤسسات، وإنما من خلال قيام كل مؤسسة بالمهمة والوظيفة الموكلة لها من قبل المجتمع السياسي، أما السياسة فهى تكون من خلال الأحزاب السياسية، أو التكتلات التى تعلن عن نفيها باعتبارها تكتلا سياسيا يسعى إلى السلطة أى تبوؤ أعمال السلطة التنفيذية نيابة عن المجتمع من خلال انتخابات عامة، حرة ونزيهة. أما أن تتكاسل جماعات منا عن واجبها الانتخابي، أو تتشرذم إلى شظايا سياسية ذات اليمين واليسار، وبعد ذلك تجرى إلى الاستحواذ على نقابة وتغيير وظيفتها إلى وظيفة الحزب السياسى الذى لم ينجح فى مهامه، فإن ذلك لا يبنى نظاما ديمقراطيا، وبالتأكيد فإنه لا ينمى أمة، ولا يحمى دولة، فضلا عن أمل فى التقدم. فى معركة نقابة الصحفيين الانتخابية نريد نقابة وليس حزبا، ونقيبا وليس زعيما سياسيا؛ تلك هى المسألة!.

رابط المقال

http://www.ahram.org.eg/NewsQ/581325.aspx

Back to Top