مصر ليست بعيدة عن القرن الإفريقى... بقلم : عبدالمحسن سلامة

فى خطوة تاريخية قام رئيس الوزراء الإثيوبى آبى أحمد يوم الأحد الماضى بزيارة تاريخية إلى العاصمة الإريترية أسمرة فى أول زيارة رسمية لمسئول إثيوبى رفيع المستوى منذ أكثر من عقدين من الزمن، ليضع حدا للخلافات المشتعلة بين البلدين منذ إعلان استقلال إريتريا عن إثيوبيا، واندلاع الصراع فيما بينهما بعد ذلك فى نهاية التسعينيات بسبب الخلاف على الحدود المتنازع عليها وبلدة «بادمى» الواقعة على الحدود فيما بينهما.

السلام بين إثيوبيا وإريتريا يأتى تمهيدا لرؤية إستراتيجية متكاملة حول موقع القرن الإفريقى فى منظومة أمن البحر الأحمر.

هذه الرؤية الإستراتيجية للقرن الإفريقى والبحر الأحمر تهدف إلى الحفاظ على أمن الشرق الأوسط وشرق إفريقيا عقب قرار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بالانسحاب التدريجى من المنطقة، وفى الوقت نفسه مواجهة خطر الطموحات الإيرانية التوسعية على حساب الدول العربية، وإصرار إيران على اختراق الأمن العربي، والوصول إلى مياه البحر المتوسط من جهة، وإلى مياه البحر الأحمر من جهة أخرى من خلال نافذة اليمن والحوثيين ومحاولة السيطرة على ميناء الحديدة الذى تم طردهم منه أخيرا.

الحالة نفسها تنطبق على مواجهة الطموحات التركية فى المرابطة العسكرية فى البحر الأحمر والخليج، والتى بدأت تركيا فى تنفيذها من خلال جزيرة سواكن السودانية، وقاعدتها العسكرية فى قطر.

لقد عادت مصر وبقوة إلي المجال الإفريقي وفور استقرار الأوضاع بها، وتولي الرئيس عبدالفتاح السيسي مقاليد الحكم بعد أن ضعف الدور المصري وتراجع في إفريقيا منذ أكثر من خمسة عقود منذ أن اتجهت مصر غربا وأهملت مجالها الإفريقي بحجة زيادة أعبائه وانخفاض عوائده، إلا أن الأحداث والأيام أثبتت قصور هذه الرؤية، فالفراغ دائما يبحث عمن يشغله، ومصر كانت حاضرة وبقوة هناك، وحينما انسحبت تركت فراغا هائلا شغلته قوي إفريقية وليدة، وقوي أجنبية عديدة، ودخلت إسرائيل وإيران وتركيا إلي المسرح بقوة مستغلين في ذلك الفراغ الناتج عن تراجع الدور المصري خلال تلك الفترة.

الاهتمام المصري بإفريقيا له مبرراته العديدة أهمها وأخطرها علي الإطلاق ما يتعلق بنهر النيل شريان الحياة في مصر، وهو ما تنبه إليه منذ القدم حكام مصر وأبرزهم في هذا الإطار محمد علي باشا الذي أدرك أهمية السودان والبعد الإفريقي لمصر فقام بضم السودان إلي مصر في عام 1822 لتصبح مصر والسودان أرضا واحدة وشعبا واحدا، وامتد النشاط المصري إلي عمق إفريقيا ووصل إلي الصومال وإثيوبيا، وحاول الاحتلال الإنجليزي تفتيت وحدة مصر والسودان، وتمكن الاستعمار الإنجليزي من فرض اتفاقية 1899 التي نصت علي أن يتولي الإشراف علي السودان ممثل لحاكم مصر، وممثل آخر للإنجليز، وأن يتم رفع العلم الإنجليزي إلي جانب العلم المصري، ورغم وجود قوات للجيش المصري هناك، إلا أن إنجلترا حاولت الانفراد بحكم السودان، وزرع الفتنة بين الشعبين الشقيقين، واستمر هذا الوضع حتي قيام ثورة 23 يوليو 1952، وتولي اللواء محمد نجيب رئاسة الجمهورية وتم إعلان الاتحاد بين البلدين الشقيقين، وبعد إعفاء اللواء محمد نجيب من منصبه، دب الجفاء والتباعد في العلاقة بين البلدين حتي تم إعلان الانفصال بين الدولتين.

لسنا هنا بصدد البكاء علي اللبن المسكوب، ولكن من المهم الاستفادة من خبرات التاريخ، وعدم الوقوع في فخ الأخطاء مرة أخري، والآن لم يعد هناك تحدي نهر النيل وحده، وإنما هناك العديد من التحديات وخاصة الأطماع الإيرانية والإسرائيلية والتركية والمحاولات المستميتة لتوسيع نفوذهم علي حساب الأمن القومي العربي، ومن هنا تأتي أهمية التنسيق المشترك بين مصر والسعودية والإمارات في هذا المجال، والذي ظهرت تأثيراته واضحة ومبشرة خلال المرحلة الأخيرة في هذا المجال.

أما فيما يخص ملف سد النهضة، فقد جاءت زيارة رئيس الوزراء آبي أحمد خلال شهر رمضان الماضي لتفتح باب الأمل حول حل مشكلة سد النهضة بما يضمن حق مصر في حصتها من المياه، ويؤكد علي حق إثيوبيا في التنمية، وقد أكد رئيس الوزراء الإثيوبي علي ذلك خلال الزيارة، بل إنه لأول مرة أكد بشكل قاطع أن إثيوبيا سوف تحافظ علي حصة مصر من المياه، ليس هذا فقط ولكن سوف تعمل علي زيادتها.

تطور إيجابي ملحوظ في الموقف الإثيوبي الذي كان يتهرب من الحديث صراحة عن حق مصر في الحفاظ علي حصتها من المياه، ويلجأ إلي جمل من نوع »عدم الأضرار بمصر« أو »الاستخدام العادل للمياه« وهي ألفاظ مطاطية تحتمل أكثر من تفسير، وأكثر من معني، وهو ما كان يزيد الموقف غموضا ويسهم في تعميق الشكوك والقلق لدي المصريين.

 

الآن نحن أمام رئيس وزراء يسعي إلي السلام مع جيرانه، ويرفض لغة الصراع والتضارب بين الشعوب، وهو ما يزيد من لغة التفاهم والتقارب مع مصر، لأن الرئيس السيسي ومنذ توليه مسئولية السلطة في مصر، وهو يسعي جاهدا لفتح الجسور مع إثيوبيا، وإيجاد لغة حوار مشتركة مع رؤساء الوزراء السابقين، وقام بتوقيع اتفاق »إعلان المبادئ« بالخرطوم في 23 مارس 2015 ليؤكد حق الإثيوبيين في التنمية والرخاء، ويقطع خطوط الشك وعدم الثقة بين الدول الثلاث مصر والسودان وإثيوبيا، وفي الوقت نفسه يضمن حق مصر والسودان في حصيلتهما من المياه، وضرورة الاتفاق بين الدول الثلاث علي الخطوط الإرشادية الرئيسية، وقواعد الملء الأول للسد، وقواعد التشغيل، وضرورة التزام الجانب الإثيوبي بإخطار دولتي المصب بالإطار الزمني للتنفيذ، وأي ظروف غير منظورة أو طارئة تستدعي إعادة الضبط لعملية تشغيل السد.

هذه الروح الإيجابية التي ظهرت في اجتماع القاهرة الأخير بين الرئيس عبدالفتاح السيسي ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد يجب ترجمتها إلي واقع علي الأرض في ملف سد النهضة، والانتهاء من النقاط العالقة في هذا الإطار، سواء من حيث قواعد التشغيل، أو مدة الملء، أو الدراسات الفنية الخاصة بالسد، أو غيرها من تلك النقاط الخلافية التي تحتاج إلي حسم، وأخذت من المناقشات والمفاوضات ما يكفي، وأصبحت واضحة لدي الطرفين.

ليس هناك من مبرر لتأجيل الاجتماع التساعي الذي كان مقررا عقده بين وزراء الخارجية والري ورؤساء أجهزة المخابرات في الدول الثلاث عقب إجازة عيد الفطر، وحتي الآن لم يتم تحديد موعد معلن له، وذلك بسبب عدم الاتفاق علي الأسئلة المقدمة للاستشاري لإعداد تقريره طبقا لما كان مقررا من قبل.

المهم الآن الحفاظ علي قوة الدفع الموجودة في العلاقات بين الدول الثلاث والروح الإيجابية السائدة فيما بينهم، من خلال خطوات علي الأرض تؤدي إلي مزيد من الثقة والتقارب بين الدول الثلاث خلال المرحلة المقبلة بما يعود بالنفع علي شعوب مصر وإثيوبيا والسودان ودول حوض النيل ليكون نهر النيل مصدرا للخير للجميع وليس مصدرا للصراع.

Back to Top