الحديث هنا لا يخص مهنة الصحافة بعينها بقدر ما يخص مستقبل أمة تريد أن تبنى حاضرها وتتقدم نحو مستقبلها، وتعوض ما فاتها، وتحارب إرهابا لا يزال يعشش فى بعض العقول، وينخر فى بعض النفوس، ويبحث عن سنتيمتر واحد لكى يخترقه ويزداد نفوذا وتوغلا.

كانت الصحافة ــ ولا تزال ــ تقوم بدور توعوى وتنويرى مهم جدا لا ينافسها فيه أى وسيلة أخري، ورغم تعددية الوسائل وكثرتها ومحاولاتها الحلول محل الصحافة، فإنها ربما تكون قد نجحت فى جذب عدد من رواد الصحافة، إلا أنها فشلت فشلا ذريعا فى أن تكون بديلا لها، لأن معظم هذه المنصات تحولت إلى منصات أكاذيب وشائعات، ويكفى أن مارك زوكر بيرج مؤسس الفيس بوك اعترف أكثر من مرة بأن الفيس لايصلح أن يكون وسيلة إعلامية، واعتذر أكثر من مرة أيضا عن تحول الفيس إلى وسيلة لنشر الشائعات والأكاذيب وانتهاك الخصوصية.

ربما لا تكون أزمة الصحافة الحالية أزمة محلية خاصة بمصر فقط، لكنها موجودة فى بعض بلدان العالم الأخري، لكن المشكلة تفاقمت هنا ــ نتيجة عدم الوعى والجهل المنتشر ــ فازدادت الأزمة على مثيلاتها فى الدول الأخري.

من هنا تأتى ضرورة دق جرس الإنذار لمحاولة تشخيص الأزمة والبحث عن حلول لها، لأنها أزمة تتعلق بوعى مجتمعى ومستقبل أمة، ويكفى أن نشير هنا إلى أن قراءة الصحف لا تزال قوية فى العديد من دول العالم المتقدمة تكنولوجيا والتى تسبقنا بمئات السنين فى هذا المجال مثل اليابان، أم التكنولوجيا التى يصل فيها التوزيع إلى أرقام كبيرة تصل إلى ما يقرب من 70 مليون نسخة يوميا وبمعدل يقترب من 60% من عدد السكان، حيث يبلغ عدد السكان هناك نحو 130 مليون نسمة، ولا تزال الصحف اليابانية هى الأكثر توزيعا فى العالم، ويكفى أن نعرف أن توزيع صحيفة واحدة هى «يوميوري» يصل إلى أكثر من 10 ملايين نسخة، أى نحو أكثر من 5 أضعاف الصحافة المصرية مجتمعة.

الحالة نفسها فى الهند حيث تصاعدت فيها أرقام التوزيع ونمت حتى وصلت إلى 310 ملايين نسخة ورقية يوميا، بما يوازى نحو 30% من عدد السكان تقريبا.

أرقام مهمة فى دول تنافس بقوة فى مجال التقدم التكنولوجى، وأظن أن العلاقة وطيدة بين ارتفاع معدل القراءة فى هذه الدول وتقدمها التكنولوجي، فالتقدم هو نتيجة تراكم ثقافى ومعرفى على مدى فترات طويلة، ولا يمكن لشعب غير مثقف ويعانى الأمية ويعزف عن القراءة أن يتقدم، ولذلك فإنه رغم التقدم التكنولوجى الهائل فى اليابان والهند، فلا تزال الصحافة هناك إحدى أهم أدوات التنوير، وحينما سألوا أحد قراء الصحافة الهندية عن سبب تمسكه بقراءة الصحف أجاب: لأن قراءة الصحف بالنسبة له استثمار فى المستقبل لأنها تعطيه وجبة ثقافية متكاملة فى مختلف المجالات تجعله قادرا على اتخاذ القرار الصحيح، والحكم على الأشياء بموضوعية ودقة، وتساعده فى حسن تربية أولاده.

احتياج مصر إلى الصحافة كأداة تنوير وتثقيف يفوق غيرها من الدول، لأننا فى مصر لا نزال نعانى الأمية الأبجدية، حيث تصل نسبة الأمية إلى معدلات كبيرة، وطبقا لبيانات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، فقد أظهر تعداد السكان لعام 2017 ارتفاع عدد الأميين فى مصر إلى 18.4 مليون شخص، بزيادة 1٫4 مليون شخص على تعداد 2006 لتصل النسبة إلى 25٫8% من عدد السكان.

أكثر من ربع عدد السكان لا يقرأ ولا يكتب، فما بالنا بالنوعية الأخرى من الأمية غير الأبجدية، وتلك هى الأزمة التى يعانيها المجتمع، والتى لابد من الوقوف أمامها، ووضع خطة صارمة للقضاء على الأمية، لأنها عار يجب محوه، فلا يمكن لشعب أن يتقدم، وأكثر من ربع عدد سكانه أمى لا يقرأ ولا يكتب.

إذن الحديث عن أن التقدم التكنولوجى باعتباره هو سبب أزمة الصحافة ربما يكون مبالغا فيه بدرجة أو بأخرى، بدليل اليابان والهند، ونسبة الأمية المنتشرة فى مصر.

صحيح هناك تأثير على صناعة الصحافة من الوسائل التكنولوجية الحديثة مثل المواقع الإلكترونية، ومنصات التواصل الاجتماعي، لكن المشكلة لها أبعاد أخرى لابد من البحث عنها ومحاولة إيجاد الحلول لها.

 

كانت المؤسسات الصحفية مزدهرة حتى قبل 25 يناير بدرجة أو بأخري، سواء كانت قومية أو حزبية أو خاصة، وفى سوق الصحافة الخاصة ظهر العديد من المؤسسات الصحفية قبل 25 يناير، كما ظهر الكثير من الصحف الحزبية، أما الصحافة القومية، فقد بلغت قمة تألقها الاقتصادى، وفى مؤسسة «الأهرام» كنموذج للمؤسسات الصحفية القومية وصل حجم الودائع الموجودة فى المؤسسة قبل 25 يناير إلى 525 مليون جنيه، بعد تسديد جميع مديونيات المؤسسة باستثناء الضرائب، نتيجة ازدهار الأوضاع الاقتصادية، وزيادة نسبة الإنفاق الإعلانى، وزيادة موارد المؤسسات الصحفية منها بدرجة كبيرة.

الأمر نفسه كان موجودا فى معظم المؤسسات الأخرى مثل مؤسستى أخبار اليوم، ودار التحرير، وكذا معظم الصحف الحزبية والخاصة التى لم تكن بها مشكلات ضخمة، بل إن معظمها كان يربح ويحقق فائضا فى الإيرادات.

بعد 25 يناير انقلبت الأوضاع رأسا على عقب، كما حدث فى قطاعات عديدة من الدولة، وتم تجريف الودائع بالكامل خلال 3 سنوات، وتحولت الأرباح إلى خسائر بعد ذلك، والأغرب أنه تم تحميل المؤسسات بأعداد هائلة من العمالة لم تكن فى حاجة إليها، كما حدث فى مؤسسة «الأهرام» التى تم تعيين ما يقرب من 2500 عامل وإدارى وصحفى فى قطاعاتها المختلفة، دون أى ضرورة لتعيين كل هؤلاء، وتم تعيينهم تحت ضغط الأفعال الثورية والشعارات، والحالة التى كانت تعيشها مصر فى كل القطاعات.

صاحب ذلك محاولات هدم الصحافة كما حدث فى كل مؤسسات الدولة المصرية، ووصف مرشد الإخوان «محمد بديع» الصحفيين بأنهم «سحرة فرعون» لضرب الصحافة والصحفيين، ودخلت الصحافة نفق المعاناة نتيجة انحسار الإعلانات بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة التى عاشتها مصر بعد 25 يناير، مما أسهم فى انحسار أهم مورد اقتصادى للصحافة وهو الإعلانات.

بعد ذلك جاء تحرير سعر الصرف ليضاعف تكاليف صناعة الصحافة 3 أضعاف، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار الورق عالميا بنسبة 100% تقريبا، مما أسهم فى زيادة التكاليف مع ثبات الموارد وربما انخفاضها فى كثير من الأحيان.

هذه هى المعادلة الصعبة التى تعيشها الصحافة الآن (قومية وحزبية وخاصة) والتى لابد من الوقوف أمامها طويلا، والبحث عن حلول موضوعية بالتعاون بين المجلس الأعلى للإعلام والهيئة الوطنية للصحافة، باعتبارهما الهيئتين التنفيذيتين المسئولتين عن أوضاع الصحافة المطبوعة والإلكترونية (قومية وحزبية وخاصة).

مشكلة الصحافة لها أبعاد متعددة، منها ما يتعلق بالمجتمع نفسه، ومنها ما يتعلق بالمحتوى، ومنها ما يتعلق بالحكومة والجهات التنفيذية.

فيما يتعلق بالمجتمع، من الغريب أن تجد سعر علبة السجائر يساوى أكثر من خمسة أضعاف سعر الصحيفة، ومع ذلك تجد ملايين علب السجائر تباع يوميا، وأيضا فإن كيس البطاطس المحمرة يبلغ ضعف ثمن الصحيفة.

كل هذا يوضح التناقض الذى يعيشه المجتمع ويكشف عن هشاشة التكوين الثقافى والفكرى لكثير من المواطنين، وتكون النتيجة تمسكهم بشراء السجائر مثلا، وعزوفهم عن شراء الكتب والمجلات والصحف، بما يؤكد أننا أمام خلل مجتمعى يحتاج إلى علاج.

أما فيما يتعلق بمسئولية المؤسسات الصحفية، فهناك دور لابد من القيام به، وهو ضرورة بذل جهد أكبر فى تطوير المحتوى الصحفي، ليصبح هذا المحتوي، أكثر جاذبية للقارئ، ويلبى احتياجاته، ويتماشى مع مواكبة التطورات التكنولوجية الحديثة.

أما فيما يتعلق بالحكومة والهيئات القائمة كالمجلس الأعلى للإعلام والهيئة الوطنية للصحافة؛ فلابد من الوقوف مع المؤسسات الصحفية للخروج من مشكلاتها الحالية، خاصة فيما يتعلق بالمشكلات البيروقراطية مع الأجهزة التنفيذية، وفيما يتعلق بإنهاء المشكلات المتراكمة للأراضى والأصول المملوكة للمؤسسات الصحفية، وإصدار التراخيص لها، وتيسير ذلك بعيدا عن التعقيدات التى تستهلك الوقت والجهد بلا طائل، فالمؤسسات الصحفية ليست أفرادا أو مستثمرين، وإنما هى جهات خدمية لابد من مساعدتها بتسهيل إصدار الموافقات لها وحل مشكلاتها المتراكمة منذ فترة طويلة من أجل مساعدة المؤسسات فى إيجاد مصادر تمويل أخرى..

 

أيضا من المهم الآن التفكير بسرعة فى إنشاء مصنع لورق الصحف، وتوجد فى مؤسسة الأهرام أرض مخصصة فى محافظة البحيرة لذلك الغرض، ومن الممكن أن يتم إنشاء شركة من كل المؤسسات الصحفية لتتولى هذا الأمر، بما يسهم فى خفض التكاليف، ويكفى أن إنشاء المصنع سوف يقوم بتوفير نولون الشحن، وعمولات الموردين، وبالتالى سوف تنخفض تكاليف الورق بنسبة كبيرة.

إلى جوار مصنع للورق، لابد من البحث عن أفكار توزيع جديدة تؤدى إلى توفير الصحف فى كل الأماكن، خاصة المدن والطرق الجديدة، لتصل الصحف إلى القراء فى كل مكان، كما يحدث فى كل دول العالم.

دعم صناعة الصحافة ومساندتها ليس مطلبا فئويا أو مطلبا يخص مهنة بعينها، وإنما يتعلق بمستقبل أمة تعمل جاهدة للخلاص من الإرهاب والانطلاق نحو المستقبل.

صحيح أن فاتورة علاج متاعب صاحبة الجلالة ربما تكون مكلفة وسط أعباء اقتصادية متنوعة، لكن حينما يتعلق الأمر بمستقبل أمة وعقلها ووعيها، فالأمر يستحق أن نتوقف أمامه، ونبذل أقصى جهد لعلاجه، فالفراغ دائما يبحث عمن يشغله، وترك الساحة خالية يعنى المزيد من نشر الشائعات والأكاذيب وأفكار التطرف والإرهاب، وهو الأمر غير المقبول وغير المعقول على الإطلاق فى هذا التوقيت، حتى تكلل جهود مكافحة الإرهاب بالنجاح، ويتحقق حلم إعادة بناء الإنسان المصرى ثقافيا وفكريا وحضاريا من جديد.