المستحيل«ممكنا» فى الصين!... بكين – بقلم عبدالمحسن سلامة
لأن العمل فى الصين عقيدة لدى كل المواطنين، ولأنهم أيضا يعملون «ولايتبرمون»، فقد استطاع الشعب الصينى تحقيق معجزة حقيقية، وتحويل المستحيل إلى «ممكن»، وجعل الصين دولة عصرية متقدمة تنافس الآن العملاق الأمريكى بقوة على صدارة المشهد الاقتصادى بعد أن نجحت فى إزاحة دول عملاقة: كاليابان، وألمانيا، وروسيا، لتحتل المركز الثانى اقتصاديا على مستوى العالم.
من المهم التوقف أمام التجربة الصينية، والاستفادة منها فى التجربة المصرية الناشئة الآن التى بدأت بالإصلاح الاقتصادى وإنقاذ الاقتصاد المصرى من «كبوته»، التى كادت تدمره تماما بعد سنوات من الفوضى وتوقف عجلة العمل والإنتاج.
الحديث عن التجرية الصينية لا يعنى الإعجاب بكل ما فيها ونقله إلى مصر، لأن كل دولة لها ظروفها، وكل شعب له خصوصيته، لكن تبقى القواسم المشتركة التى تصلح لكل الأماكن والشعوب.
أبرز تلك القواسم هو عقيدة العمل، فلا يمكن لشعب أن يتقدم دون أن يعمل ويكد ويجتهد، وهذا هو سر نجاح الصين، فالكل يعمل، ويخلص فى عمله، ولا شيء آخر فى حياته إلا العمل منذ أن يستيقظ حتى ينام، والسيدات يعملن مثل الرجال فى كل المهن بدءا من الزراعة، مرورا بالنظافة والأمن، وانتهاء بكل الأعمال الإدارية والفنية والتكنولوجية المتخصصة وغير المتخصصة.
حياتهم كأنها عقارب ساعة لا تعرف التوقف، لكنها فقط تعمل وتنتقل من محطة إلى أخرى طبقا للتوقيتات المحددة والأهداف المرسومة بعناية فائقة.
غدا تعقد قمة منتدى التعاون الصينى الإفريقى فى بكين تحت عنوان «التعاون المربح للجانبين.. التكاتف لبناء مجتمع أقرب لمستقبل مشترك للصين وإفريقيا» ومن المقرر أن تبحث القمة تعزيز المشاركة الصينية الإفريقية من خلال الاستفادة من البناء المشترك لخطة «الحزام والطريق»، وخطة التنمية المستدامة 2030، للأمم المتحدة، بهدف تحقيق التعاون المربح وفتح آفاق جديدة للتنمية المشتركة.
لقد شهدت الفترة الماضية تحركات دبلوماسية مكثفة من جانب الصين لحشد الدول الإفريقية فى مواجهة الحرب التجارية الأمريكية، وقام الرئيس الصينى شي. جين بينج بجولة إفريقية ناجحة فى يوليو الماضي، شملت كلا من: «السنغال، ورواندا، وموريشيوس»، وشارك فى قمة البريكس التى عقدت فى مدينة جوهانسبرج بجنوب إفريقيا، وذلك فى إطار التحضير للقمة الإفريقية الصينية، التى تعقد غدا، التى تعتبر من أضخم وأكبر الأحداث التى تشهدها العاصمة الصينية هذا العام.
على الجانب الآخر فإن مصر الآن هى مفتاح إفريقيا والعالم العربى بعد أن استعادت دورها الريادى مرة أخرى منذ تولى الرئيس عبد الفتاح السيسى مقاليد الحكم، وبعد أن كانت مصر معزولة ومحاصرة أصبحت الآن حاضرة وبقوة فى كل الفعاليات الإفريقية والإقليمية والعالمية، كما أن مصر سوف تتولى رئاسة الاتحاد الإفريقى فى العام المقبل، وتضع القارة الإفريقية آمالا كبيرة على قيادة الرئيس السيسى للاتحاد الإفريقى لتحقيق نجاح مماثل لما تحقق فى مصر خلال توليه رئاسة الجمهورية.
أما الجانب الصينى فهو يحمل تقديرا خاصا لمصر طوال الوقت، وازداد هذا التقدير عمقا نتيجة العلاقات المتميزة بين الرئيسين عبد الفتاح السيسي، وشى جين بينج، حيث تعتبر الزيارة التى يقوم بها الرئيس عبد الفتاح السيسى للصين هى الزيارة الخامسة لحضور فعاليات دولية مختلفة هناك، والزيارة الرسمية الثانية على المستوى الثنائي.
فى مثل هذا التوقيت من العام الماضى تقريبا كانت قمة «بريكس» التى عقدت فى مدينة «شيامن» الصينية وشارك فيها الرئيس عبد الفتاح السيسي، وهو أول رئيس عربى يحضر تجمع «بريكس»، وتم استقباله آنذاك بحفاوة بالغة، وتمت ترجمة تلك الحفاوة إلى توقيع العديد من الاتفاقيات بين الجانبين من بينها اتفاقية بين وزارة الاستثمار ووزارة التجارة الصينية لتنفيذ مشروع القطار الكهربائي، وثانية لتنفيذ مشروع القمر الصناعى «مصر سات 2» بمنحة صينية قدرها 300 مليون يوان صيني، وثالثة للتعاون الأمنى بين وزارة الداخلية المصرية ووزارة الأمن العام الصينية، كل ذلك فى إطار العلاقات المتميزة المصرية الصينية فى كل المجالات حيث تعمل الحكومة على الاستفادة من التجربة الصينية فى مختلف المجالات، وخاصة ما يتعلق بتوطين التكنولوجيا والتصنيع، والتنمية الاقتصادية، والعمرانية، وغيرها من المجالات.
الوضع فى مصر الآن أفضل كثيرا مما كانت عليه الصين قبل نهضتها، ومع ذلك استطاعت الصين تحقيق المعجزة، والانطلاق نحو بناء ثانى أكبر اقتصاد عالمي، وتدشين دولة عملاقة سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وحتى العنصر البشرى فقد كان يمثل عبئا رهيبا فى الصين، حيث يبلغ عدد السكان نحو مليار و400 مليون نسمة تقريبا، إلا أنهم نجحوا فى تحويل هذا العبء البشرى الرهيب إلى ماكينات للعمل والإنتاج، بالإضافة إلى تبنى سياسة سكانية صارمة ساهمت فى تخفيض النمو السكانى بشكل كبير مما ساعد خطط النمو والإصلاح الاقتصادي.
مصر الآن تسير فى طريق الإصلاح الاقتصادى واستطاعت بنجاح عبور عنق الزجاجة وأصعب المراحل، وبعد أن كان الاقتصاد المصرى على وشك الإفلاس والانهيار، بدأت علامات التعافي، وطبقا لآخر تقرير نشرته مؤسسة موديز للتصنيف الائتماني، فقد أعلنت المؤسسة عن رفع النظرة المستقبلية للاقتصاد المصرى من مستقر إلى إيجابى مع الإبقاء على التصنيف الائتمانى لمصر بكل من العملتين الأجنبية والمحلية عند درجة 3B وتعكس هذه النظرة احتمال رفع درجة التصنيف الائتمانى للاقتصاد المصرى خلال الفترة المقبلة، مما يؤكد نجاح برنامج الإصلاح الاقتصادى وعبور الاقتصاد المصرى مرحلة الخطر.
هذا الإنجاز يمنحنا قوة دفع هائلة للخطوات المقبلة لوضع الاقتصاد المصرى على المسار الصحيح بعيدا عن المعالجات المؤقتة، والمسكنات التى كان يتم العمل بها على مدار أكثر من ستين عاما منذ أن بدأ التوجه الاشتراكى وخضوع الاقتصاد للسياسة ثم التوجه الرأسمالى غير الرشيد أيضا.
الصين مثلا من الدول الشيوعية القليلة التى لاتزال ترفع شعار الشيوعية، لكنها استطاعت أن تتجاوز ذلك لتقيم نموذجا خاصا بها يراعى الظروف العصرية، وأصبحت تأخذ ما يلائمها من كل نظام بعيدا عن القوالب الجامدة، وأظن أن ذلك أصبح نهج معظم دول العالم، بما فيها الدول الرأسمالية التى أصبحت تطبق العدالة الاجتماعية بمفاهيم مختلفة كانت غائبة عنها لفترة طويلة.
النموذج المصرى الذى بدأه الرئيس عبد الفتاح السيسى بإطلاق قطار الاصلاح الاقتصادى يراعى كل ذلك فهو يبنى اقتصادا قائما على أسس عصرية حديثة تأخذ بعين الاعتبار سعر التكلفة وهامش الربح ومقتضيات العرض والطلب، وظروف السوق، وفى الوقت نفسه يراعى التدرج وعدم اللجوء إلى الصدمات العنيفة، وحماية الطبقات الفقيرة من خلال برامج للحماية الاجتماعية تأخذ أشكالا متعددة بدءا من البطاقات التموينية، ومرورا بالدعم النقدى مثل برامج تكافل وكرامة، وانتهاء بالتدرج فى خفض الدعم على مدد زمنية محددة لإعطاء المواطنين فترة لإعادة التأهيل، وحتى تستقر السوق بشكل طبيعي.
ولأن برنامج الإصلاح المصرى ليس برنامجا للإصلاح المالى فقط فإن أحد محاوره الرئيسية الأخرى التركيز على مشروعات البنية التحتية وانشاء شبكة للطرق العملاقة لأن هذه المشروعات هى الباب الملكى لجذب الاستثمارات الأجنبية، فلا يمكن لأى استثمارات أن تأتى دون وجود شبكة بنية تحتية قوية من طرق وصرف صحى وكهرباء ومياه، وهو ما تقوم به الحكومة الآن من أجل توفير البيئة اللازمة لجذب الاستثمارات وإقامة المشروعات المختلفة لفتح فرص العمل أمام الشباب، ولأول مرة تنخفض نسب البطالة إلى أقل من 10% منذ 7 سنوات مما يشير إلى زيادة فرص الاستثمار فى المجالات المختلفة.
إلى جوار ذلك فهناك حرب ضروس فى مكافحة الفساد، وتطوير قوانين الاستثمار، وإزالة كل المعوقات البيروقراطية القاتلة أمام الاستثمارات العامة والخاصة.
هذه الخطوات كلها تجعل مصر مرشحة وبقوة لتأخذ نصيبها العادل من مبادرة «الحزام والطريق» التى سوف تكون هى البطل الرئيسى على مائدة منتدى التعاون الصينى الإفريقي، حيث تعتزم الصين إقامة العديد من المشروعات فى إفريقيا خلال السنوات الثلاث المقبلة، وتعتبر مصر هى المحور الأساسى فى مبادرة «الحزام والطريق» فى الشرق الأوسط وإفريقيا، ولذلك فمن المتوقع جذب استثمارات صينية ضخمة خاصة فى المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، ومنطقة صناعية أخرى فى العين السخنة، بالإضافة إلى مشروعات العاصمة الإدارية الجديدة وغيرها من المشروعات لتصبح مصر واحدة من أكبر الدول الجاذبة للاستثمارات الصينية مستقبلا بعد أن تم رفع مستوى العلاقات بين البلدين إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية.