عودة الوعى إلى العلاقات المصرية ـ الروسية... موسكو بقلم: عبدالمحسن سلامة
كان الرئيس عبدالفتاح السيسى بعيد النظر حينما تنبه مبكرا إلى أهمية وجود علاقة إستراتيجية مع روسيا فقام بزيارتها وقت أن كان وزيراً للدفاع، وبعد توليه مسئولية السلطة زارها من قبل 3 مرات وهذه هى المرة الرابعة التى يقوم فيها بزيارة روسيا، كما زار الرئيس الروسى فلاديمير بوتين مصر مرتين عامى 2015 و 2017 بالإضافة إلى العديد من اللقاءات التى جمعت الزعيمين فى اجتماعات مجموعة العشرين وقمة البريكس.
تعميق العلاقات المصرية ـ الروسية يأتى من منطلق حرص مصر على إقامة علاقات متوازنة وقوية مع القوى الكبرى فى العالم، أمريكا، وروسيا، والصين، والاتحاد الأوروبي، دون الوقوع فى فخ الانحياز الأعمى أو أحادية العلاقات كما كان يحدث من قبل.
للأسف الشديد فقد وقعت مصر على مدى عقود طويلة فى فخ الاستقطاب وأحادية العلاقة التى بدأت مع الاتحاد السوفيتي، حينما اتجهت مصر شرقاً فى الخمسينيات والستينيات وأوائل السبعينيات.
خلال تلك الفترة كان كل التعامل المصرى مع الاتحاد السوفيتى بشكل أساسى اقتصاديا وسياسياً وعسكرياً، وساند السوفيت مصر سياسياً فى قضية الصراع العربى ــ الإسرائيلي، كما كان الاتحاد السوفيتى هو المصدر الرئيسى ويكاد يكون الوحيد للتسليح، حيث اعتمد الجيش المصرى خلال تلك الفترة على السلاح السوفيتى وهو السلاح الذى خاض به الجيش المصرى حربى 1967 و1973، وإلى جوار السلاح كان معظم التبادل التجارى والتعاون الاقتصادى يتركز مع الاتحاد السوفيتى أو تلك الدول الاشتراكية والشيوعية التى تدور فى فلكه.
خلال تلك الفترة تجمدت العلاقات تماماً مع أمريكا بشكل خاص والغرب بشكل عام، وكان التوتر هو الذى يخيم على العلاقات مع تلك الدول على مختلف الأصعدة، ولم يكن هناك تعاون من أى نوع سياسيا كان أو عسكريا أو اقتصادياً بحكم العلاقات القوية والمتميزة مع الاتحاد السوفيتى والدول الشيوعية، وانتهاج مصر الفكر الاشتراكى فى سياستها العامة والاقتصادية.
بعد تولى الرئيس الراحل أنور السادات مسئولية السلطة بدأت المشاكل تتسلل إلى العلاقات مع الاتحاد السوفيتى إلا أن العلاقات ظلت كما هى حتى انتصرت مصر فى حرب أكتوبر المجيدة.
وبعدها بدأ الرئيس أنور السادات يتجه غرباً نحو الولايات المتحدة الأمريكية، وكان مؤمناً بأن أمريكا تملك 99% من أوراق حل قضية الشرق الأوسط، وبعد توقيع اتفاقية السلام انتقلت العلاقات المصرية ـ الأمريكية إلى مستوى آخر أكثر ازدهاراً وقوة فى جميع المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية، وأصاب الجمود العلاقات المصرية السوفيتية على مختلف الأصعدة.
كان الاتجاه غربا للسياسة المصرية له العديد من المزايا أبرزها محاولات إنقاذ الاقتصاد المصرى الذى كان متدهورا لأقصى درجة، وإعادة بناء القوات المسلحة ومدها بأحدث الأسلحة والمعدات العسكرية فى محاولة لتحقيق التوازن العسكرى مع إسرائيل، بالإضافة إلى انتهاج مصر لسياسة الانفتاح الاقتصادي، و البدء فى محاولات لم تكتمل لانتهاج اقتصاد السوق وتحرير الأسعار، إلا ان ماحدث فى 18، 19 يناير 1977 من مظاهرات صاخبة، وما صاحبها من عمليات تخريب أوقف تلك المحاولات، لكن لم يمنع هذا استمرار التعاون القوى مع الغرب فى كل المسارات وتجمدت العلاقات المصرية ـ السوفيتية عند أدنى مستوى لها.
انهار الاتحاد السوفيتى فى 26 ديسمبر 1991 عقب إصدار مجلس السوفيت الأعلى الإعلان الذى اعترف فيه باستقلال الجمهوريات السوفيتية حينئذ، وإنشاء رابطة الدول المستقلة لتحل محل الاتحاد السوفيتى، وأعلن الرئيس ميخائيل جورباتشوف استقالته فى خطاب وجهه إلى الشعب السوفيتى عبر التليفزيون الرسمى للاتحاد السوفيتي، وأعلن فيه تسليم جميع سلطاته الدستورية بما فيها السلطة على الأسلحة النووية إلى الرئيس الروسى بوريس يلتسين ليتم إنزال علم الاتحاد السوفيتى عن مبنى الكرملين للمرة الأخيرة، ويتم رفع العلم الروسى ثلاثى الألوان.
بعد صعود فلاديمير بوتين إلى سدة الحكم فى روسيا، تغيرت الأوضاع هناك، وعادت روسيا مرة أخرى كقوة عظمى مؤثرة سياسيا واقتصاديا فى العالم، ونجحت إلى حد كبير فى إيجاد توازن فى العلاقات الدولية، بعد أن انفردت أمريكا بالساحة الدولية لفترة طويلة ومنذ انهيار الاتحاد السوفيتى حتى نهاية حكم بوريس يلتسين.
ولأن مصر قد مرت بتجارب الانحياز مرة إلى الاتحاد السوفيتى القديم، ومرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فقد حرص الرئيس عبدالفتاح السيسى منذ بداية توليه السلطة على إيجاد علاقات متوازنة مع أقطاب القوى الدولية الكبري، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا بعيدا عن تجارب الانحياز لهذه الدولة أو تلك.
فى نهاية شهر سبتمبر الماضى كان الرئيس فى الولايات المتحدة الأمريكية فى واحدة من أنجح الزيارات التى قام بها إلى هناك، صحيح أنها كانت زيارة هدفها حضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلا أنها شهدت لقاء شديد الأهمية بالرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى إطار اللقاءات المتعددة التى جمعت الرئيسين، بالإضافة إلى اللقاءات الأخرى مع مجالس الأعمال المصرية ـ الأمريكية، والعديد من المسئولين والدبلوماسيين ورجال المال والأعمال هناك.
عودة الدفء إلى العلاقات المصرية ـ الأمريكية بعد فترة من الجمود ليس معناه العودة مرة أخرى إلى فخ الاستقطاب والانحياز فى العلاقات مع القطبين الأمريكى ، والروسي، فقوة العلاقات مع أحدهما لا تعنى إهمال القطب الآخر.
مصر الآن لها علاقات شديدة التميز مع كل من أمريكا، وروسيا، وهذه أكبر شهادة نجاح للدبلوماسية المصرية خلال الفترة الأخيرة، لأنها نجحت فى معالجة العوار الذى أصاب الدبلوماسية المصرية خلال عقود طويلة بالانحياز مرة إلى الاتحاد السوفيتى وأخرى إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
مصر الآن تملك قرارها وتتمتع بعلاقات قوية ومستقرة مع كل الأقطاب الدولية وليس أمريكا وروسيا فقط بل إنها لها نفس قوة العلاقات مع الصين والاتحاد الأوروبى وغيرهما من القوى الدولية والإقليمية.
خلال الفترة الماضية نجحت مصر فى توقيع العديد من الاتفاقيات لتزويد الجيش المصرى بالمعدات العسكرية الروسية ومنها سفينة الصواريخ «آر ـ 32» وشراء 50 مقاتلة روسية من طراز ميج 35 المتطورة التى تحمل على ظهرها الصواريخ الموجهة «جو ـ جو» و«جو ـ سطح» كما تحمل أيضا صواريخ غير موجهة ومزودة بمدفع جوى عيار 30 مم، كما انها طائرة متعددة المهام القتالية، وإلى جوار ذلك فقد تم توقيع عقد لتوريد 50 مروحية حربية من طراز «كا ـ 52» أو التمساح.
كما أعلن الجيش الروسى أنه بصدد توقيع اتفاقية لتزويد الجيش المصرى بما يقرب من 500 دبابة من نوع «تى ـ 90» تمهيدا لتجميع الدبابة محليا فى مصر، هذا بالإضافة إلى العديد من الصفقات العسكرية اللازمة لسلاح الدفاع الجوي، فى إطار حرص مصر على تنويع مصادر السلاح وتزويد الجيش المصرى بأحدث الأسلحة والمعدات فى العالم بغض النظر عن الدولة المنتجة سواء كانت أمريكا أو روسيا أو غيرهما.
التعاون المصرى الروسى لايقتصر على مجال التسليح لكنه يمتد إلى التعاون الاقتصادى حيث وصل حجم التبادل التجارى بين الدولتين فى العام الماضى إلى حوالى 6.7 مليار دولار، وبلغ عدد المشروعات التى تم إنشاؤها باستثمارات روسية فى مصر 363 مشروعا بإجمالى رأس مال حوالى 148٫7 مليون دولار يتركز معظمها فى قطاع السياحة والخدمات.
وتعتبر العلاقات السياحية نموذجا للعلاقات المتميزة بين البلدين، وتصدرت مصر قائمة البلدان التى زارها السياح الروس حتى عام 2014، وبلغت نسبة السياحة الروسية فى المدن الشاطئية حوالى 65% من تعداد الحركة السياحية الوافدة إلى مصر، إلا أن الأعداد تراجعت فى أعقاب حادث تحطم الطائرة الروسية فى سيناء، ووقف حركة الطيران، وحتى الآن لم تعد حركة الطيران إلى معدلاتها الطبيعية مما يستدعى ضرورة إنهاء تلك المشكلة من الجانب الروسي، خاصة مع تطبيق سلطات الطيران المدنى المصرى كل الضوابط الأمنية، والالتزام بالمعايير الدولية فى السلامة والأمن، مما يتطلب ضرورة عودة حركة الطيران المباشر إلى المدن الساحلية المصرية، وعدم الاكتفاء بالطيران المباشر بين موسكو والقاهرة.
على الجانب الآخر فإن مشروع انشاء المفاعل النووى فى الضبعة يعتبر من أهم المحطات فى العلاقات المصرية ـ الروسية فى الفترة الأخيرة مما يفتح الباب واسعا أمام توسيع التعاون بين البلدين خلال المرحلة المقبلة فى الكثير من المجالات خاصة فيما يتعلق بالطاقة النووية، وإنشاء المناطق الصناعية الروسية فى شرق قناة السويس، إلى جانب العديد من المشروعات المتنوعة بين الدولتين.
أعتقد أن زيارة الرئيس موسكو غدا، والقمة الروسية المصرية فى سوتشي، سوف يكون لهما مردود ايجابى قوى على العلاقات المصرية ـ الروسية خلال المرحلة المقبلة لمواجهة التحديات الخطيرة المتعلقة بمكافحة الإرهاب، أو تلك المتعلقة بالمصالح الاقتصادية المشتركة، وتبادل الدعم السياسى على المستويين الإقليمى والدولى، بما ينعكس ايجابيا على كليهما وعلى كل دول منطقة الشرق الأوسط، والإسهام فى إيجاد عالم جديد متعدد الأقطاب بعيد عن التشرذم ولغة الاستقطاب.