قصة مدينتين وملفات الشرق الأوسط الساخنة.. بقلم عبدالمحسن سلامة

 

كان الشرق الأوسط ولا يزال يعوم فوق بحيرة من البارود الملتهب بفعل فاعل من القوى الدولية والإقليمية التى ترى ضرورة استنزاف موارد تلك المنطقة، وغرس شعوبها فى مستنقع الصراعات حتى تظل دول المنطقة غارقة فى تلك الصراعات الداخلية والخارجية على السواء.

هكذا تعيش دول المنطقة منذ احتلالها فى القرن الثامن عشر، وبعد أن تحررت ولدت إسرائيل لتكون شوكة فى ظهر المنطقة تستنزف مواردها وقدراتها، ثم جاءت أحدث موجات الفوضى التى صاحبت ثورات الربيع العربى لتحوله إلى خريف ساخن يأكل الأخضر واليابس فيها، ويجرها إلى مستنقع أخطر من حروب الاحتلال، وهو مستنقع الاقتتال الداخلى والحروب الأهلية، والفتن الطائفية، والإرهاب.

ولأن المنطقة لا تزال تغلى وتعانى تبعات ما حدث خلال السنوات السبع الماضية فقد كانت ملفات الشرق الأوسط حاضرة وبقوة إلى جوار ملفات العلاقات الثنائية فى كل مباحثات الرئيس عبد الفتاح السيسى سواء تلك التى أجراها فى موسكو مع رئيس الوزراء الروسى ميدفيديف أو فى مجلس الفيدرالية الروسى «الغرفة الأعلى فى البرلمان الروسى»، أو تلك التى أجراها فى سوتشى مع الرئيس الروسى فلاديمير بوتين.

إلى جوار أن روسيا تعتبر واحدة من أكبر الدول العسكرية والاقتصادية فى العالم فإنها هى الأكبر فى العالم من حيث المساحة الجغرافية، حيث تصل مساحتها إلى 17 مليونا و75400 كيلو متر مربع، وهو ما يمثل ثمن مساحة العالم قاطبة، ونتيجة تلك المساحة الشاسعة فالمسافات هناك طويلة وممتدة، حيث تقطع الطائرة المسافة بين سوتشى وموسكو فى نحو ساعتين ونصف ساعة مما جعل الرحلة صعبة ومرهقة إلا أن حفاوة الاستقبال، والنتائج الإيجابية للمباحثات، وتطابق السياسات والإستراتيجيات تجاه العديد من القضايا غطت على مشقة الترحال وطول المسافات فى رحلة روسيا.

  • حضرت الملفات الساخنة لقضايا منطقة الشرق الأوسط والإرهاب جنبا إلى جنب مع قضايا التعاون الثنائى فى المباحثات بين الرئيسين السيسى وبوتين

قضايا الشرق الأوسط الساخنة تصدرت مباحثات الرئيس عبد الفتاح السيسى فى موسكو وسوتشى خاصة قضية الصراع العربى الإسرائيلى وضرورة إيجاد حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية، حيث تحدث عن تلك القضية أمام مجلس الفيدرالية الروسى وهو الغرفة الأعلى فى البرلمان الروسي، مشيرا إلى عجز المجتمع الدولى عن إيجاد حل عادل ودائم لهذا الصراع مطالبا بضرورة إيجاد حل لهذا الصراع الممتد يحفظ للشعب الفلسطينى حقوقه المشروعة.

فى سوتشى وبعد انتهاء محادثات الزعيمين وخلال المؤتمر الصحفى جدد الرئيس عبد الفتاح السيسى مطالبته بحل الأزمة الفلسطينية، مشيرا إلى التقارب الكبير بين مواقف مصر وروسيا إزاء عملية السلام الفلسطينية ـ الإسرائيلية، لاسيما التأكيد على الثوابت المتمثلة فى ضرورة التوصل إلى حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين وفقا لحدود 1967، وطبقا لأحكام القانون الدولي، ومبادرة السلام العربية.

كما حظيت الأوضاع فى سوريا بمساحة كبيرة فى المباحثات حيث تلعب روسيا الدور الأكثر تأثيرا فى الملف السوري، ولا أحد يستطيع إنكار الدور الروسى فى الحفاظ على ما تبقى من كيان الدولة السورية، كما أن مصر لها رؤيتها التى تتفق فى الكثير من النقاط مع الموقف الروسى من حيث الحفاظ على كيان الدولة السورية، وتفادى المزيد من التصعيد الميدانى هناك، والبحث عن حل سياسى للأزمة السورية من خلال تشجيع المبعوث الأممى على إطلاق عمل لجنة صياغة الدستور تمهيدا لاستئناف المفاوضات وصولا إلى الحل السياسى الشامل الذى يحقق طموحات الشعب السورى ويحافظ على وحدة الدولة السورية.

أما الأوضاع فى ليبيا فقد حظيت هى الأخرى بالكثير من الاهتمام، لأن ليبيا هى العمق الإستراتيجى لمصر، ولاتزال ليبيا تعانى التفكك وسيطرة الميليشيات على أجزاء كبيرة منها مما يجعلها بيئة خصبة لاحتضان البؤر الإرهابية، ولمصر رؤية واضحة بخصوص الأزمة الليبية تقوم على ضرورة توحيد المؤسسة العسكرية الليبية، لتمكينها من القيام بمهامها بفاعلية، وتقوية القوات الأمنية النظامية ودعم الجيش الليبى لتوفير الأمن للشعب هناك بعيدا عن الميليشيات التى أظهرت الاشتباكات الأخيرة فى طرابلس خطورة الاعتماد عليها.

أعتقد أنه بات من الضرورى دور روسى أكبر فى ليبيا لدعم الرؤية المصرية حتى يستطيع الشعب الليبى الخروج من النفق المظلم الذى يعانى منه منذ 7 سنوات وحتى الآن خاصة وأن الجيش الليبى بزعامة المشير خليفة حفتر بات مهيئا أكثر من أى وقت مضى لتحمل مسئولياته فى الحفاظ على أمن الشعب الليبى وسلامته والحفاظ على وحدة الأراضى الليبية.

أما قضية مواجهة الإرهاب فقد تصدرت هى الأخرى قائمة المباحثات، وكان الرئيس عبدالفتاح السيسى شديد الوضوح والصدق حينما أشار فى كلمته أمام مجلس الفيدرالية الروسى فى موسكو إليها قائلا: «لقد أصبحنا جميعا فى خندق واحد، فلم يعد أحد بمنأى عن الخطر، ولم يعد بالإمكان تخطى تلك الأزمات فرادي، أو بدون تحمل كافة أعضاء المجتمع الدولى مسئولياتهم، سواء عبر الإسراع بتحقيق التسوية السلمية للنزاعات، أو التصدى بحزم للأطراف التى تقف وراء الإرهاب، وتغذيه بالقول أو الفعل أو المال».

المعنى نفسه طرحه الرئيس خلال المؤتمر الصحفى مع الرئيس بوتين فى سوتشى مشيرا إلى أهمية تعزيز تبادل المعلومات بين الأجهزة المختصة للتصدى للإرهاب، خاصة فيما يتعلق بانتقال الإرهابيين من مناطق عدم الاستقرار إلى الدول الأخري، وارتكابهم أعمالا إرهابية فى تلك الدول، مؤكدا ضرورة منع الدول مرور الإرهابيين عبر أراضيها، وتبادل المعلومات بشأنهم مع جميع الدول الأخري.

لقد نجحت مصر فى كسر شوكة الإرهابيين خاصة بعد أن أطلقت العملية الشاملة ضد الإرهاب «سيناء 2018» واستطاعت هذه العملية تحقيق نجاحات كبيرة ومتعددة ضد الإرهاب والإرهابيين، وهو ما يجعل من التجربة المصرية فى التصدى للإرهاب نموذجا يمكن الاهتداء به فى الحرب على الإرهاب للمجتمع الدولى كله، خاصة أن مصر تؤمن بضرورة العمل الدولى المشترك ضد آفة الإرهاب، لأن الإرهاب لا لغة، ولا دين، ولا وطن له، وإنما هو آفة عالمية يحتاج إلى تكاتف النظام الدولى لمكافحته واستئصاله، وهناك تقارب شديد بين الموقفين المصرى والروسى فى هذا الإطار، ومن هنا جاء استعراض الرئيس عبدالفتاح السيسى لنتائج العملية الشاملة سيناء 2018 والنجاحات الفائقة التى حققتها أمام الرئيس الروسى بوتين.

 

لم تكن الملفات الساخنة فى الشرق الأوسط وحدها الحاضرة على موائد المباحثات والمفاوضات المصرية ـ الروسية فى موسكو وسوتشى فقط بل تصدرت ملفات التعاون الثنائى بين الجانبين تلك المحادثات خاصة فى ظل تطور التعاون الثنائى ووصوله إلى مستويات غير مسبوقة منذ أكثر من 40 عاما حين اتجهت مصر غربا فى السبعينيات، الآن عادت العلاقات الثنائية إلى سابق عهدها فى المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية.

فى الملفات الثنائية أصبحت عودة رحلات الطيران المباشر من المدن الروسية المختلفة إلى المدن المصرية المختلفة مسألة وقت بعد أن تصدرت تلك المسألة المباحثات الثنائية، وأشار إليها الرئيسان فى كلمتيهما خلال المؤتمر الصحفى وأثنى الرئيس الروسى بوتين على الموقف المصرى فى هذا الإطار، مشيرا إلى أن السلطات المصرية قد فعلت أقصى ما يمكن لتطبيق نظم الأمن والسلامة مما يعنى ببساطة أنه فتح الباب أمام الجهات الفنية المعنية لإصدار قرارها بعودة الرحلات المباشرة بين المدن الروسية والمدن المصرية، وعدم الاكتفاء بالطيران المباشر بين القاهرة وموسكو، لأن المشكلة فى أن روسيا مساحتها شاسعة والطيران غير المباشر يستهلك أوقاتا طويلة ويصعب على الكثيرين تحمله ماديا وجسديا ولابديل عن عودة الطيران المباشر حتى تعود حركة السياحة كما كانت فى ظل تعطش السائح الروسى للمقاصد السياحية المصرية، وتحقيقا للمصلحة المشتركة بين البلدين لتعود السياحة الروسية رقم واحد فى السياحة الأجنبية، كما كانت قبل حادث الطائرة الروسية.

أتمنى ترجمة ما جاء فى مباحثات الزعيمين بشأن عودة الطيران المباشر، وما جاء فى كلمة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين تحديدا حول تلك القضية إلى قرارات تنفيذية لعودة الطيران المباشر خلال الأيام المقبلة، لكى تستطيع شركات السياحة المصرية والروسية الاستفادة من تلك القرارات فى موسم السياحة الشتوى الذى يشهد إقبالا كبيرا من السائحين الروس على المقاصد السياحية المصرية.

قضية عودة الطيران المباشر بين المدن المصرية والروسية كانت واحدة من بين قضايا ثنائية عديدة تم التباحث بشأنها فى المسائل الاقتصادية والعسكرية.

فى بهو الفندق المخصص لإقامة الوفد المصرى التقيت الوزير هشام عرفات وزير النقل الذى أشار إلى دخول اتفاق توريد 1300 عربة قطارات حيز التنفيذ فى إطار خطة تطوير وتحديث هيئة السكك الحديدية، وهو اتفاق مصرى روسى مجرى يضمن تصنيع تلك العربات طبقا لأحدث المواصفات العالمية، والأهم من كل ذلك أن هذا الاتفاق يضمن نقل تكنولوجيا تصنيع عربات القطارات إلى المصانع المصرية فى إطار الاهتمام بتوطين تكنولوجيا الصناعات المختلفة فى مصر لكى تتحول مصر إلى مركز اقليمى لتصنيع عربات القطارات للاستهلاك المحلى والتصدير إلى الأسواق العربية والإفريقية.

وأضاف أن الاتفاق يتضمن دخول مصنع 200 الحربى التابع لوزارة الإنتاج الحربى ضمن خطة تصنيع جزء من هذه العربات، وحق استغلال تكنولوجيا التصنيع بعد ذلك بالاتفاق مع الشركات الموردة لتتحول مصر إلى مركز إقليمى لتلك الصناعة، مما يوفر العديد من فرص العمل، ويسهم فى زيادة الصادرات المصرية إلى الدول المختلفة.

أما فيما يخص محطة الضبعة النووية التى تعتبر نقلة نوعية هائلة لمصر فى مجال الطاقة النووية وتوليد الكهرباء فقد أكد المهندس محمد شاكر وزير الكهرباء والطاقة أن الاتفاق المصرى الروسى يسير وفق معدلاته الطبيعية ووفق برنامجه الزمنى وهو من المشاريع العملاقة التى تمثل نقلة نوعية فى مستوى العلاقات بين البلدين، وهو المشروع الأضخم فى مجال التعاون الثنائى وسوف يسهم فى توفير الطاقة الكهربائية بعيدا عن البترول والغاز فى إطار خطة مصر تنويع مصادر الطاقة وعدم الاكتفاء بالمصادر التقليدية فقط.

إلى جوار محطة الضبعة، وتصنيع عربات القطارات هناك مشروع المنطقة الصناعية الروسية فى شرق بورسعيد والتى أشار إليها الرئيسان خلال المؤتمر الصحفى باعتبار انها تمثل مرحلة جديدة من مراحل التعاون بين البلدين لتنتقل الشراكة التجارية إلى شراكة فى التصنيع مما يؤدى إلى طفرة حقيقية فى حجم ونوعية الاستثمارات الروسية المباشرة.

أعتقد أن حصيلة الزيارة على المستويين الخارجى والداخلى كانت اكثر من رائعة، والأهم أنها تؤكد حجم التغيير الذى طرأ على سياسة مصر فى مد الجسور مع كل القوى الدولية المؤثرة بما يخدم مصالح الشعب المصرى والشعوب العربية أولاً وأخيراً بعيداً عن لغة الاستقطاب والانحياز الأعمى الذى كان سائداً من قبل.

  • جندى يحب وطنه

 

حينما تابعت صور الرئيس عبدالفتاح السيسى وهو يرتدى زيه العسكرى باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة فجر أمس الأول الجمعة وهو يتفقد إحدى القواعد الجوية، تذكرت ما قالته رئيسة مجلس الفيدرالية الروسى فالنتينا ماتفيينكو أثناء تقديمها للرئيس لإلقاء خطابه حيث قالت: «إنه مخلص إخلاصاً كبيراً لبلاده، وانه أمضى الجانب الأكبر من حياته فى القوات المسلحة وحصل على رتبة المشير التى تعد الرتبة الأعلى فى الجيش المصري».

وحرصت رئيسة مجلس الفيدرالية على نقل بعض عبارات الرئيس التى كما قالت ـ تعكس شخصيته حيث قال: «لقد كنت وسأظل مدى حياتى جندياً يخدم وطنه، وعندما أترك الزى العسكرى سأظل اعتبر نفسى جندياً مكلفا بخدمة وطنه فى المستقبل»، واختتمت رئيسة مجلس الفيدرالية الروسى كلمتها قائلة: «إن هذه الأقوال هى لجندى يحب وطنه».

رغم مشقة السفر والاجتماعات حرص الجندى الذى يحب وطنه «عبدالفتاح السيسي» على استغلال يوم راحته فى تفقد إحدى القواعد الجوية ضارباً المثل والقدوة فى ضرورة العمل والإخلاص مهما كانت التحديات والمصاعب.

Back to Top