عناق المساجد والكنائس فى مصر المحروسة.. بقلم ــ عبدالمحسن سلامة
فى بيت الأسرة القديم فى قريتى التى نشأت فيها - ومازلت أعيش - كان منزلنا يجاور منزل أحد الإخوة المسيحيين، وكان بين المنزلين «شباك» مشترك يفتح فيما بينهما، وظل هذا الحال قائمًا حتى حانت لحظة هدم المنزل وتجديده، وجاء «عم فوزي» الجار المسيحى يسأل والدى (رحمهما الله) عن الحائط المشترك، فيما بين المنزلين، وهل سيتم هدمه أم لا؟!
على الفور تلقى «عم فوزي» الإجابة بأنه لا مشكلة على الإطلاق، وأن الحائط سيستمر حتى «لا ينكشف» منزل «عم فوزي»، وشربا الشاى معًا وانصرف كل إلى حال سبيله.
كان الشباك المشترك مصدرا لتبادل الأحاديث بين سيدات الأسرتين، وتبادل الهدايا فى الأعياد وغيرها، ولم يكن أبدًا مصدرًا «للمنغصات» أو المشكلات بين الأسرتين بدليل أنه ظل موجودًا حتى حان موعد هدم المنزل لتجديده.
تلك هى الروح التى كانت ومازالت سائدة فى مصر المحروسة فترات طويلة من التاريخ منذ الفتح الإسلامى لمصر فى العام 21 هجرية الموافق 642 ميلادية، على يد عمرو بن العاص، إلا أنه للأسف الشديد هناك من يريد إحداث الوقيعة والفتنة بين الشعب الواحد (مسلمين وأقباطا)، وعلى مدى الفترات التاريخية المتعاقبة، استطاع الشعب المصرى عبور كل الأزمات التى يحاول البعض افتعالها وإثارتها، وقد تزايدت وتيرة محاولات بث الفتنة منذ نهاية السبعينيات بظهور الجماعات المتطرفة، واستمرت تلك النبرة البغيضة بعد ذلك، حتى أصبحنا نسمع من يحرم تهنئة الأقباط بعيدهم ناسيًا أن الدين الإسلامى لا يمنع زواج المسلم بأهل الكتاب (المسيحيين ــ اليهود)، فكيف لزوجين يعيشان معًا تحت سقف بيت واحد ألا يهنئ أحدهما الآخر.
نبرة بغيضة ليس لها علاقة بروح الإسلام السمحة، وإنما تتعلق بروح التعصب والكراهية وضيق الأفق، وهى الآفة التى لا تتعلق بالفتنة بين المسلمين والمسيحيين فقط، وإنما تنتشر وتمتد إلى أهل الدين الواحد نفسه، بعد أن تم تقسيم الدين الواحد إلى شيع وطوائف، كما هو الحال فى المسلمين (سنة، وشيعة، وأخري)، والمسيحيين (أرثوذكس، كاثوليك، وأخري) وبغض النظر عن التقسيم والاختلافات فى وجهات النظر، فإن من يشعل الفتنة بين المسلمين والمسيحيين هو ذاته من يشعل الفتنة بين السنة والشيعة، وهو نفسه من يحرض على أعمال القتل والعنف وسفك الدماء لأتفه الأسباب لهدف واحد هو تدمير الدولة وإضعافها.
فى فترة من الفترات وجدنا من يطالب بهدم الأهرامات، وتحطيم أبوالهول، لكونها أوثانا وأصناما تعبد من دون الله.
تلك نوعية من العقول الغريبة التى لا يتوقف أصحابها عن الشطط، والتى تسيء لنفسها أولا، لكنها تشوه صورة المسلمين فى العالم كله، وهؤلاء ينسون أن الإسلام جاء لمحاربة الجهل والفقر والتخلف، بدليل أنه استطاع أن يجعل من الصحراء الجرداء (الجزيرة العربية) دولة إسلامية قوية استطاعت أن تمتد شرقا وغربا، وأن تحمل لواء الحضارة فترات طويلة من عمر الزمان، وقت أن كانت أوروبا تغط فى عصور الظلام، وظلت هذه الحضارة قائمة ومزدهرة، حتى بدأت أعراض التعصب وضيق الأفق والجهل والتخلف تنتشر بين العرب والمسلمين لينتقل لواء الحضارة إلى الغرب، ولن يعود مادامت تلك الأمراض منتشرة وموجودة، وتجد من يستمع لها، ويتبناها، ويرددها، ويحاول نشرها.
فى الأسبوع الماضى أصدر الرئيس عبدالفتاح السيسى قرارا بتشكيل اللجنة العليا لمواجهة الأحداث الطائفية برئاسة مستشار رئيس الجمهورية لشئون الأمن ومكافحة الإرهاب، وعضوية ممثلين عن هيئة عمليات القوات المسلحة، والمخابرات الحربية، والمخابرات العامة، والرقابة الإدارية، والأمن الوطني.
ووفقا للقرار، فإن للجنة أن تدعو لحضور اجتماعاتها من تراه من الوزراء أو ممثليهم وممثلى الجهات المعنية، وذلك عند نظر الموضوعات ذات الصلة، وتتولى اللجنة العليا لمواجهة الأحداث الطائفية وضع الإستراتيجية العامة لمنع ومواجهة الأحداث الطائفية، ومتابعة تنفيذها، وآليات التعامل مع الأحداث الطائفية حال وقوعها.
الأحداث الطائفية لا تزال تمثل مشكلة موجودة فى بعض المناطق، وبالذات فى صعيد مصر، ومعظم هذه الأحداث تنتهى بأعمال عنف ووقوع ضحايا ما بين وفيات وإصابات.
صحيح أن معظم هذه الأحداث تنتهى بالتصالح والجلسات العرفية التى يشارك فيها أولياء الدم ورجال الأمن والشيوخ والقساوسة، إلا أن هذه الجلسات ـ رغم أهميتها ـ لا تنجح فى استئصال العنف الطائفى من جذوره، وأعتقد أن ذلك الأمر كان أحد الأسباب القوية التى دفعت الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى تشكيل اللجنة العليا لمواجهة الفتنة الطائفية، والعمل على استئصال تلك المشكلة بقواعد وضوابط واضحة بعيدا عن «جبر الخواطر» والاكتفاء بالجلسات العرفية.
الجلسات العرفية مهمة وسيظل دورها باقيا ومؤثرا، ولكن إلى جانب تلك الجلسات لابد من حلول طويلة المدى لاستئصال الفتنة الطائفية من جسد المجتمع المصرى كله فى إطار من التطبيق العادل والصارم للقانون.
المادة 53 من الدستور المصرى نصت على أن المواطنين لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعي، أو الانتماء السياسى أو الجغرافي، أو لأى سبب آخر، التمييز والحض على الكراهية جريمة، يعاقب عليها القانون، تلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كل أشكال التمييز، وينظم القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض،
أظن أن تشكيل اللجنة العليا لمواجهة الفتنة الطائفية يأتى اتساقا مع المادة 53 من الدستور، لاقتلاع الفتنة الطائفية من جذورها بالقانون وعلى المدى الطويل.
إلى جوار اللجنة، فهناك عمل دءوب جرى لإزالة كل أشكال التوتر بين المسلمين والمسيحيين، وتغيير ثقافة العنف التى تسكن عقول البعض على طريقة «مصاصى الدماء» فالدم يستهويهم ويضعفون أمامه، وهى عملية معقدة تدخل فيها الثقافة والنشأة والتركيبة النفسية والاجتماعية، وتحتاج إلى عمل متكاتف من كل الأجهزة المعنية بدءا بالأمن ومرورا بالثقافة والصحافة والإعلام، وانتهاءً بالأوضاع الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية.
أيضا فإن الحرص على ترسيخ مبادئ المساواة والتسامح جزء مهم تجاه التحرر من العنف والتعصب، وأعتقد أن ما يجرى على قدم وساق لافتتاح «مسجد الفتاح العليم» بالعاصمة الإدارية الجديدة، وكذلك افتتاح «كاتدرائية ميلاد المسيح» هناك يسيران فى نفس الاتجاه من غرس قيم التسامح وقبول الآخر ومنع التمييز والمساواة بين أفراد الشعب الواحد بمسلميه ومسيحييه.
مسجد الفتاح العليم هو أكبر مسجد فى مصر مقام على مساحة 250 ألف متر مربع، ويتسع لأكثر من 15 ألف مصل، ويضم أكبر قبة وأطول مئذنة، وهو مركز إسلامى متكامل تم إنشاؤه على أحدث المواصفات العالمية.
أما كاتدرائية ميلاد المسيح فهى مقامة على مساحة 63 ألف متر مربع، وتتسع لأكثر من 8500 فرد، ومجهزة على أحدث المواصفات، ومن المقرر أن تكون مزارًا سياحيًا باعتبارها أكبر كنيسة فى الشرق الأوسط، لتعكس رؤية مصر والمساواة بين مواطنيها بلا استثناء.
مسجد الفتاح العليم، وكاتدرائية ميلاد المسيح يعكسان روح التسامح الجديدة التى أصبحت سائدة فى السلوك الرسمى للدولة فى التعامل بين أبناء الشعب المصرى الواحد، والأهم أن ينتقل ذلك السلوك إلى المواطن المصرى «مسلما كان أو مسيحيا» فى كل أفعاله وتصرفاته بعيدا عن الشطط وروح الكراهية والتعصب.