هبوط الدولار ومؤشرات تعافى الاقتصاد .. بقلم ــ عبدالمحسن سلامة

الأمر المؤكد أن هبوط سعر صرف الدولار ليس هو المؤشر الوحيد على تعافى الاقتصاد المصري، لكنه ـ ضمن مؤشرات عديدة ـ يؤكد أن الاقتصاد المصرى بات على الطريق الصحيح، حيث شهدت أسعار الدولار حالة من الاستقرار فى معظم البنوك وشركات الصرافة لتتراوح بين 17.57 جنيه و17.61 جنيه للشراء، و17.67 جنيه و17.71 جنيه للبيع فى نهاية الأسبوع الماضى وسط هدوء فى حركة التعاملات بيعا وشراء بعد أيام من تراجع أسعار الدولار ليفقد نحو 35 قرشا من سعره أمام الجنيه على مدى عدة أيام وبنسبة وصلت إلى 3% من قيمته.

أسعار الدولار الآن تحكمها آليات العرض والطلب بدليل تحركه ارتفاعا وانخفاضا ببعض البنوك فى إطار معقول ومقبول بعد زيادة المعروض منه، وتراجع الطلب عليه من جانب كبار المضاربين أو غيرهم بعد أن توقفوا عن شراء الدولار لحين تصريف ما لديهم.

قرار تحرير سعر الصرف عام 2016 كان قرارا صادما لكنه كان ضروريا وإستراتيجيا لأنه ليس من المعقول أو المقبول أن يتم استنزاف الاحتياطى الإستراتيجى لصالح دعم الدولار، مما خلق عدة أسعار للعملة الخضراء، وجعلها وسيلة للتربح السريع والمضاربة، وهروب المستثمرين، وتوقف عجلة الاستثمارات، فلا يمكن لأى مستثمر أن يأتى باستثماراته إلى مكان ما لا يعلم فيه قيمة استثماراته الحقيقية، ولا كيف يقوم بتسعير منتجاته؟.

المشهد كان ضبابيا ومزعجا للغاية، وكان لابد من العلاج الحاسم، وإلا استمر التدهور الاقتصادى الذى كان من الممكن ـ لا قدر الله ـ أن يصل إلى حد الإفلاس، وانهيار الدولة.

لقد بلغ حجم تدفقات النقد الأجنبى من مختلف الموارد أكثر من 121 مليار دولار منذ تحرير سعر الصرف فى 3 نوفمبر 2016، وهى تدفقات مرشحة للزيادة خلال الفترة المقبلة بعد أن تخطى الاقتصاد المصرى أصعب المراحل وتجاوزها إلى التعافى والانطلاق نتيجة إجراءات الإصلاح الاقتصادي، وزيادة إقبال المستثمرين العرب والأجانب على الاستثمار فى مصر، باعتبارها الآن من أفضل الأسواق الناشئة، وتحسن تنافسية الاقتصاد المصري، مما جعل مصر تقفز عدة مواقع فى تقرير التنافسية الذى أشاد بالإصلاحات الاقتصادية فى مصر، وتوقع أن تحتل مصر المركز الـ 30 عالميا فى عام 2030 بعد سنوات من الاضطراب السياسى والعنف الذى أعقب ثورة 25 يناير وأدى إلى شلل فى الاقتصاد وهروب السائحين والمستثمرين الأجانب.

على الجانب الآخر فقد نجحت السياسة النقدية التى اتبعها البنك المركزى برئاسة المصرفى القدير طارق عامر، فى السيطرة على الضغوط التضخمية، حيث انخفض المعدل السنوى للتضخم العام ـ بحسب الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء ـ ليسجل 12% فى ديسمبر 2018 مقابل 15.7 فى نوفمبر 2018، وذلك بعد أن بلغ ذروته فى يوليو 2017 عند معدل 33%، وطبقا للتحليل الشهرى للتضخم الذى أعده البنك المركزى المصرى فقد حقق الرقم القياسى لأسعار المستهلكين فى ديسمبر 2018 معدلا شهريا قدره صفر، فى حين سجل المعدل السنوى للتضخم الأساسى 8.3%، وذلك بعد أن بلغ ذروته فى يوليو 2017 عند معدل 35.3%، وقد جاء الثبات النسبى للرقم القياسى لأسعار المستهلكين محصلة لانخفاض أسعار السلع الغذائية الأساسية وارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية والخدمات، حيث ساهمت أسعار السلع الغذائية الأساسية بنسبة سالبة بلغت 0.14 نقطة مئوية، بينما ساهمت أسعار السلع الاستهلاكية والخدمات بنسبة 0.07 و0.04 نقطة مئوية فى المعدل الشهرى للتضخم الأساسى على الترتيب.

وطبقا لتقرير السياسة النقدية الذى صدر أخيرا وأعده البنك المركزي، فقد ارتفع صافى تدفقات الاستثمار الأجنبى المباشر فى مصر على أساس سنوى خلال الربع الثانى من عام 2018، وذلك للمرة الأولى منذ الربع الثانى من عام 2017، فى حين سجل استثمار محفظة الأوراق المالية فى مصر صافى تدفقات للخارج خلال الربع الثانى من عام 2018، وذلك للمرة الأولى منذ الربع الثالث من عام 2016، كما سجلت اجمالى الاحتياطيات الدولية لدى البنك المركزى 44.5 مليار دولار أمريكى فى أكتوبر 2018 وهو أعلى مستوى لها تاريخيا ولأول مرة.

ومن المستهدف انخفاض العجز الكلى للموازنة العامة للدولة إلى 8.4% من الناتج المحلى الإجمالى خلال العام المالى 2018/ 2019 مقارنة بـ 9.8% خلال العام المالى 2017/ 2018، و10.9% خلال العام المالى 2016/ 2017.. أى أن هناك انخفاضا منتظما فى العجز الكلى للموازنة، ومن المتوقع استمرار هذا الانخفاض مستقبلا، وفى الوقت نفسه من المستهدف تحقيق فائض أولى يبلغ 2% من الناتج المحلى الاجمالى خلال العام المالى 2018/ 2019، مع الاستمرار فى تحقيق هذا الفائض بعد ذلك، مقارنة بفائض قدره 0.1% من الناتج المحلى الإجمالى خلال العام المالى 2017/ 2018، وعجز بلغ 1.8 من الناتج المحلى الإجمالى خلال العام المالى 2016/ 2017.

هذه التطورات الاقتصادية الإيجابية دفعت كريستين لاجارد المديرة العامة لصندوق النقد الدولى أخيرا إلى اعترافها بأن مصر حققت تقدما اقتصاديا كبيرا يؤكد نجاحها فى تحقيق الاستقرار الاقتصادى الكلى مشيرة إلى أن معدل النمو فى مصر من أعلى المعدلات المسجلة فى المنطقة، كما يسير عجز الميزانية فى اتجاه الانخفاض الدائم، وانخفاض التضخم إلى معدلات غير مسبوقة مما انعكس على انخفاض معدل البطالة إلى 10% تقريبا، وهو أدنى معدل له منذ عام 2011، مما جعل خبراء الصندوق يشيدون بما تحقق من إنجاز فى وثيقة المراجعة الرابعة لأداء الاقتصاد المصري، تمهيدا لرفعها إلى مجلس إدارة الصندوق والموافقة عليها.

ليس هذا فقط بل إن مؤسسات التصنيف الائتمانى التى هى شركات خاصة مستقلة تقوم بتقييم الجدارة الائتمانية للدول أشادت هى الأخرى بما تحقق من طفرة هائلة فى الاقتصاد المصري، وأبرز هذه الوكالات وكالة موديز لخدمة المستثمرين، ووكالة ستاندرد آندبورز، ووكالة فيتش للتصنيف، وكل منها يمارس نشاطه فى تقويم قدرة الدول والشركات والمؤسسات المالية على الوفاء بالتزاماتها المالية بصورة دورية فيما يزيد على 100 دولة.

هذه الوكالات رفعت تقييمها للتصنيف الائتمانى لمصر من تقييم سالب وضعيف إلى نظرة مستقبلية إيجابية، وموقف ائتمانى قوى نتيجة الإصلاحات الاقتصادية والمالية التى أدت إلى زيادة الإنتاج المحلى الإجمالي.

ما حدث من تطورات اقتصادية خلال السنوات الثلاث الأخيرة يعتبر نجاحا كبيرا، لكنه يحتاج إلى استكمال لكى يجتاز الاقتصاد الوطنى مرحلة عنق الزجاجة التى مر بها، ولذلك فإن الرئيس عبد الفتاح السيسى حريص دائما على الإشادة بموقف الشعب المصرى وقدرته على تفهم متطلبات الإصلاح الاقتصادى وتحمل تبعاته.

لم يتبق إلا القليل حيث من المقرر أن ينتهى برنامج التمويل الذى اتفقت عليه مصر مع صندوق النقد الدولى والذى بدأ فى نوفمبر 2016 ويستمر 3 سنوات، وتحصل مصر خلال الفترة المتبقية على انتهاء البرنامج على آخر شريحتين من قرض الصندوق بـ 4 مليارات دولار، لتكون مصر بذلك قد أنجزت برنامج الإصلاح الاقتصادى والمالى الذى تم بالتعاون مع المؤسسات الدولية، ليبدأ مشوار طويل آخر من الاهتمام بالعنصر البشري، وزيادة الطاقة الإنتاجية، والحد من الاستيراد، وزيادة الصادرات، والأهم هو تحويل الاقتصاد المصرى من الاقتصاد الريعى إلى الاقتصاد الإنتاجي.

الاقتصاد الريعى مطلوب وهو الاقتصاد القائم على الخدمات والسياحة، لكنه لابد أن يكون إلى جوار الاقتصاد الإنتاجى القائم على التوسع فى الانتاج بمختلف أشكاله (صناعي، زراعي، تكنولوجي)، لتتحول مصر إلى صين العرب وإفريقيا من خلال تصدير منتجاتها إلى جميع دول العالم خاصة الدول الإفريقية والعربية التى تربطنا بها علاقات سياسية واقتصادية متميزة، وهناك العديد من الخطوات التى بدأت فى هذا المجال مثل مشروع المليون ونصف المليون فدان، ومشروعات الاستزراع السمكي، ومدينة الأثاث فى دمياط ومدينة الجلود فى الروبيكى ، بالإضافة إلى تحويل منطقة شرق بورسعيد إلى قلعة إنتاجية تصديرية لكل دول العالم.

أعتقد أن الفترة القليلة المقبلة سوف تشهد طفرة اقتصادية هائلة فى مختلف المجالات لاستكمال خطوات الإصلاح التى تحققت لتبدأ بعدها مرحلة حصاد ثمار الإصلاح لكل المواطنين.

 

Back to Top