من التجميد والمقاطعة إلى رئاسة الاتحاد الإفريقى! .. أديس أبابا ــ عبدالمحسن سلامة
توقفت طويلا عند غياب مصر 26 عاما عن رئاسة الاتحاد الإفريقى وقبله منظمة الوحدة الإفريقية، حيث لم ترأس مصر الاتحاد الإفريقى منذ تأسيسه عام 2002 أى منذ 17 عاما، وكانت آخر مرة تولت فيها مصر رئاسة منظمة الوحدة الإفريقية عام 1993.
ترمومتر العلاقة المصرية ـ الإفريقية يشير إلى حالة من الصعود والهبوط على مدى الفترات الزمنية السابقة، ورغم أن مصر كانت ضمن المؤسسين لمنظمة الوحدة الإفريقية عام 1963، إلا أنها لم تتول رئاسة هذه المنظمة سوى عام 1964 رغم العلاقة المتميزة بين الزعيم الراحل جمال عبدالناصر والقادة الأفارقة.. وربما يكون الصراع العربى الإسرائيلى ونشوب حرب 1967 كان وراء ابتعاد مصر عن رئاسة المنظمة فيما تبقى من فترة ولاية الزعيم جمال عبدالناصر، أما فى فترة الرئيس الراحل أنور السادات فقد ابتعدت مصر عن إفريقيا طوال مدة رئاسته, وربما يرجع ذلك لانشغال مصر بمعاركها الحربية مثل حرب أكتوبر المجيدة أو معاركها السياسية فى معركة السلام مع إسرائيل، وظل هذا الأمر حتى جاء الرئيس الأسبق حسنى مبارك، وتولت مصر فى ولايته رئاسة منظمة الوحدة الإفريقية مرتين فى عامى 1989 و1993، بعدها ابتعدت مصر عن إفريقيا ودب الجفاء فى العلاقات المصرية ـ الإفريقية ليستمر هذا الوضع وتنسحب مصر من المشهد الإفريقى لمصلحة دول صاعدة أخرى فى المشهد آنذاك مثل ليبيا، وإثيوبيا، وجنوب إفريقيا، والجزائر، وبعدها تبنت ليبيا مقترح تحويل منظمة الوحدة الإفريقية إلى الاتحاد الإفريقى على غرار الاتحاد الأوروبي، وتحقق ذلك بالفعل عام 2002 كبديل لمنظمة الوحدة الإفريقية، وهو تطور مهم وخطير كانت له العديد من الآثار الإيجابية على الدول والشعوب الإفريقية، لكن لايزال أمامه العديد من الخطوات ليتحول الحلم إلى حقيقة نظرا لطبيعة المشكلات التى تواجه القارة الإفريقية والمختلفة تماما عن القارة الأوروبية.
الغريب فى الأمر أن مصر لم تتول رئاسة الاتحاد الإفريقى منذ تأسيسه عام 2002، أى منذ 17 عاما، مما يشير إلى حجم الجفاء والتباعد بين مصر والقارة السمراء، وهو ما ظهر بوضوح فى القرار الغريب والعجيب بتعليق عضوية مصر فى الاتحاد الإفريقى فى شهر يوليو عام 2013، واستمر هذا الوضع قرابة عام لتعود مصر مرة أخرى فى يونيو 2014 إلى الاتحاد الإفريقي.
سألت السفير بسام راضى المتحدث باسم رئاسة الجمهورية عن رأيه فى ذلك الغياب؟!
أجاب: ترمومتر العلاقة بين مصر وإفريقيا شديد الحساسية، ومصر تتمتع بمكانة خاصة فى قلب كل إفريقي، وعلى قدر هذه المكانة هناك حساسية مفرطة تجاه مصر باعتبارها الشقيقة الكبرى لكل الأفارقة، وللأسف انشغلت مصر بعض الوقت بهمومها ومشكلاتها الداخلية والخارجية، فكانت النتيجة هذا الفتور نتيجة ذلك التباعد، ومنذ ولاية الرئيس عبدالفتاح السيسى وضعت مصر إفريقيا فى قمة أولوياتها، والواقع يشير إلى ذلك حيث حدثت طفرة هائلة فى العلاقات المصرية ـ الإفريقية، وقام الرئيس خلال الفترة الماضية بالعديد من الزيارات إلى العديد من الدول الإفريقية، كما استقبلت القاهرة معظم الرؤساء الأفارقة فى زيارات ودية متبادلة ومتكررة، وهو ما انعكس على ترمومتر العلاقة المصرية ـ الإفريقية، وفى اجتماع قمة الاتحاد الإفريقى فى العام الماضى قرر انتخاب الرئيس عبدالفتاح السيسى بالإجماع رئيسا للاتحاد الإفريقى فى الجلسة المغلقة التى تسبق عقد اجتماع القمة.
سألته عن كواليس اختيار مصر لرئاسة الاتحاد الإفريقي؟
أجاب: مصر قدمت نموذجا رائعا فى الأمن والتنمية والاستقرار، وخلال فترة وجيزة تحولت مصر من دولة مهددة بالانهيار إلى دولة مستقرة سياسيا وقوية أمنيا وعسكريا وواعدة اقتصاديا، وهو النموذج الذى يسعى العديد من الدول الإفريقية للاستفادة منه، وخلال الاجتماع الوزارى لوزراء خارجية دول الاتحاد الإفريقى فى العام الماضى دارت مناقشات كثيرة بين الدول الأعضاء فى ذلك الاتجاه، وأسفرت المناقشات فى النهاية عن انتخاب مصر رئيسا للاتحاد الإفريقى فى الدورة الجديدة التى تبدأ اليوم فى أديس أبابا.
وأضاف: مصر عادت إلى إفريقيا بقوة لأن الرئيس عبد الفتاح السيسى يؤمن بالبعد الإفريقي، وأن إفريقيا هى العمق الإستراتيجى لمصر، لذلك فقد استعدت الحكومة بحزمة كبيرة من السياسات والمشروعات التى سوف يتم الدفع بها فى مختلف المجالات فى إطار سياسة العودة إلى الجذور الإفريقية التى تنتهجها مصر الآن وتضع إفريقيا ضمن أولويات السياسة الخارجية المصرية.
على الجانب الآخر فقد نجحت مصر فى الفوز باستضافة وكالة الفضاء الإفريقية بعد أن اتخذ المجلس التنفيذى للاتحاد الإفريقى قرارا بهذا المعني، ومن المنتظر أن يعرض هذا القرار على القادة الأفارقة خلال اجتماعاتهم الحالية هنا فى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا لاعتماده، لتضع مصر بعدها كل إمكاناتها فى خدمة الوكالة الإفريقية للفضاء الجديدة بهدف خدمة القارة السمراء فى مجال علوم الفضاء وتكنولوجيا الاستشعار عن بعد، لدفع جهود التنمية الوطنية والإقليمية الإفريقية وفقا لأجندة إفريقيا 2063.
أعتقد أن مصر مؤهلة الآن لتقديم خبراتها فى مجالات عديدة إلى دول القارة الإفريقية، أبرزها ما يتعلق بتجربة الإصلاح الاقتصادي، حيث استطاعت مصر خلال فترة وجيزة تحقيق برنامج اقتصادى ناجح راعى التوافق بين ضرورات الإصلاح الاقتصادى والبعد الاجتماعى بما يجعله نموذجا يصلح للتطبيق فى العديد من دول القارة، ولعل التقرير الذى أصدره صندوق النقد الدولى خلال اجتماعاته فى نهاية الأسبوع الماضى والذى أشاد فيه بنجاح تجربة الإصلاح الاقتصادى يؤكد اجتياز مصر أصعب المراحل اقتصاديا بعد أن أكد خبراء الصندوق فى تقريرهم استمرار النظرة الإيجابية لأداء الاقتصاد المصرى الكلي، مدعوما بتطبيق قوى للسياسات والإصلاحات.
ميزة تجربة الإصلاح الاقتصادى المصرى رغم قسوتها ـ أنها تجربة راعت التوافق بين ضرورات الإصلاح وضرورات الحماية الاجتماعية ــ فكانت شبكة الأمان الاجتماعى المتمثلة فى بطاقات التموين، ومعاشات الضمان وتكافل وكرامة، والإبقاء على دعم الخبز وعدم المساس به، والتدرج فى تطبيق خطوات الإصلاح.
كل هذه المقومات أسهمت فى نجاح هذا البرنامج بما يجعله قابلا للتنفيذ بالخبرات المصرية فى الدول الإفريقية، التى يعانى الكثير منها مشكلات اقتصادية متنوعة.
ميزة إفريقيا أنها سوق ضخمة تضم أكثر من 1.2 مليار نسمة، مما يعد حافزا كبيرا لزيادة معدلات التجارة البينية، وزيادة فرص الاستثمار، كما أن اتفاقية التجارة الحرة القارية سوف تدخل حيز التنفيذ هذا العام بعد توقيع 49 دولة إفريقية عليها، بما يجعلها واحدة من أكبر مناطق التجارة الحرة فى العالم، وبما يسهم فى تطوير وازدهار اقتصادات الدول الإفريقية إذا تعافت من أمراضها ومشكلاتها، مما يتيح مجالات أكبر للتجارة والاستثمار، وينعكس إيجابيا فى إيجاد ملايين الوظائف للشباب الإفريقى فى مختلف المجالات.
أيضا هناك تجمع «الكوميسا» الذى يضم 21 دولة إفريقية وهو التجمع الأكبر اقتصاديا فى إفريقيا، وفيه يتم تطبيق الإعفاءات الجمركية على الواردات اعتبارا من 1999على أساس مبدأ المعاملة بالمثل.
الأهم من هذا كله أن إفريقيا تتميز بمساحاتها الشاسعة، وتنوع اقتصاداتها، ووفرة الأراضى الخصبة القابلة للزراعة فيها بكثافة، وكذلك وفرة الأمطار فى العديد من الدول بها، بما يؤهلها لأن تكون سلة الغذاء فى العالم، ما دامت قد توافرت الأراضى والمياه والأيدى العاملة الرخيصة، والأمر فقط يحتاج إلى إرادة سياسية، ورؤية مستقبلية مشتركة للنهوض اقتصاديا بكل دول القارة.
أعتقد أن الأجندة الاقتصادية لها الأولوية، ومصر لديها برنامج طموح فى هذا المجال يمكن أن يسهم فى تنفيذ الأجندة الإفريقية 2063، وهى الأجندة الطموحة للتنمية المستدامة فى القارة.
إلى جانب التعاون الاقتصادى هناك ملف الحرب على الإرهاب ومواجهة التنظيمات المتطرفة فى القارة السمراء، وقد استطاعت مصر إحراز تقدم هائل فى هذا الملف، بما يسهم فى قيامها بدور محورى فى هذا المجال لاستئصال شأفة الإرهاب من كل ربوع القارة، خاصة منطقة الساحل الممتد من شمال النيجر إلى أجزاء من مالي، وهى المناطق التى تموج بالاضطرابات وانتشار التنظيمات المتطرفة بها مثل جماعة «بوكو حرام» المتمركزة فى شمال نيجيريا، بالإضافة إلى المشكلات والاضطرابات الموجودة فى جنوب ليبيا وشمال تشاد.
الآمال كبيرة والتحديات أكبر فى الملف الإفريقي، لكن إصرار الزعماء الأفارقة على مواجهة تلك التحديات سيظل هو العامل الحاسم فى تفعيل مؤسسات الاتحاد الإفريقى وسباق الزمن لتحقيق الحلم الإفريقى فى التنمية والاستقرار.