قراءة هادئة فى التعديلات الدستورية.. بقلم ــ عبدالمحسن سلامة
الأمر المؤكد أن الدساتير ليست كتبا مقدسة، لكنها تظل فى البداية والنهاية اجتهادا بشريا قابلا للتعديل والتغيير حسب مقتضيات الظروف والمواقف ومصالح الشعوب، وقد شهدت مصر ولادة العديد من الدساتير الدائمة والمؤقتة كان أولها ما صدر فى عهد الخديو توفيق سنة 1882 فى محاولة لتأكيد عدم تبعية مصر للدولة العثمانية، وبموجبه حصلت معه تقريبا على استقلالها الذاتى ليصبح لديها مجلس للنواب، وآخر للنظار (الوزراء) كأدوات رقابية وتنفيذية
وظل هذا الدستور محلا للإبقاء تارة والإلغاء تارة أخرى حتى صدر دستور 1923، وظل قائما حتى ألغى فى 1930 ثم عاد للحياة مرة أخرى عام 1935 ليظل قائما حتى قيام ثورة يوليو 1952 ليصدر بعدها بأربع سنوات دستور جديد عام 1956، وتم تعديله بعد قيام الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، وبعد انهيار الوحدة صدر دستور مؤقت استمر العمل به حتى عام 1971 حينما صدر الدستور الدائم للبلاد والذى استمر العمل به حتى تم تعديله فى 30 أبريل 1980، وتعديله مرة أخرى عام 2005، ثم مرة ثالثة عام 2007، وبعد قيام ثورة 25 يناير صدرت عدة إعلانات دستورية غريبة وعجيبة حتى صدر دستور 2012 الذى تباينت ردود الأفعال حوله ما بين مؤيد ومعارض فى جو مشحون وملبد بالغيوم ليتم تعديله بعد قيام ثورة 30 يونيو وتعديل بعض المواد الخلافية فى الدستور ويتم إقرار هذه التعديلات فى 18 يناير عام 2014.
التعديلات الدستورية ليست مقصورة على مصر، وإنما هى موجودة فى كل دول العالم وآخرها ما حدث فى تركيا فى العام قبل الماضى حينما تم إدخال 18 تعديلا مقترحا على الدستور التركي، وأيضا فإن الدستور الفرنسى الحالى صدر فى 4 أكتوبر 1958 لكنه شهد العديد من التعديلات كان آخرها عام 2008، وعلى مدى 60 عاما تم إدخال 24 تعديلا جديدا على فترات متقاربة أحيانا ومتباعدة أحيانا أخرى وأول تعديل طال الدستور الفرنسى كان بعد عامين من إقراره وذلك فى عام 1960، وفى عام 1993 تم إدخال تعديلات جديدة عليه، وبعدها بست سنوات شهد الدستور الفرنسى ثلاثة تعديلات فى عام 1999. وتكررت التعديلات بعد ذلك فى عامى 2003 (تعديلان)، و2007 ثلاثة تعديلات، والآن تشهد فرنسا حالة من النقاش العام حول الرغبة فى اجراء تعديلات دستورية جديدة من بينها تخفيض عدد أعضاء البرلمان، والاعتراف ببطاقات الاقتراع البيضاء فى الانتخابات، والحد من عدد الولايات النيابية للحد من عدم الجمع بين صفتين نيابيتين مثل عضوية البرلمان والمجالس المحلية، وغيرها من تلك التعديلات التى ترغب الحكومة الفرنسية فى الدفع بها خلال الشهور القليلة المقبلة والتى من المحتمل إجراء الاستفتاء عليها فى مايو المقبل بحسب المصادر الفرنسية وما تتداوله الصحف ووسائل الإعلام هناك.
خلاصة القول إن الدساتير دائما وأبدا سوف تظل قابلة للتعديل والتغيير مادامت قد اقتضت المصلحة العامة ذلك، وفيما يخص الدستور الحالى الذى تم وضعه عام 2012 فقد كان مثارا للجدل ورفضه حوالى 36% من الذين ذهبوا إلى لجان الاقتراع رغم كل الظروف المحيطة، وعدم الاستقرار والشحن، والإرهاب الفكري، وتقسيم المواطنين إلى فسطاطين «الجنة والنار»، ورغم كل ذلك فقد بلغ عدد الرافضين للدستور أكثر من ثلث الذين وافقوا عليه، وفى عام 2014 تم اجراء تعديلات جديدة على الدستور اقتضتها ظروف المرحلة بعد قيام ثورة 30 يونيو.
يوم الخميس الماضى صوت البرلمان لصالح اجراء تعديلات دستورية على الدستور فى جلسة استغرقت 6 ساعات تم خلالها التصويت بالاسم لتتم الموافقة على مبدأ تعديل بعض مواد الدستور الذى تقدم به أكثر من خمس أعضاء المجلس لتعديل 12 مادة من مواد الدستور وهى المواد (102 ، 140، 160، 185، 189، 190، 193، 200، 204، 234، 243، 244)، وقد رفضت لجنة الثقافة والإعلام برئاسة النائب أسامة هيكل رئيس اللجنة مقترح إلغاء المادتين 212، و213 الخاصتين بالهيئتين الوطنية للصحافة، والوطنية للإعلام، وقد استجاب ائتلاف دعم مصر صاحب الأغلبية فى البرلمان لذلك المقترح، وأعلن النائب عبدالهادى القصبى رئيس الائتلاف سحب التعديل المقدم بإلغاء المادتين لتجنب العوار والفراغ الذى كان يمكن أن يحدث حال إلغاء الهيئتين دون وجود بديل لهما فى التعديلات المقترحة، وهو الأمر الذى يؤكد أن النقاش فى البرلمان كان مفتوحا ومرنا وقابلا للإضافة والحذف، وهو ما ظهر بوضوح أثناء مناقشة هاتين المادتين. كما أن مناقشات الأعضاء تطرقت إلى بعض المواد الاخرى مثل نسب تمثيل المرأة والشباب والعمال والفلاحين وذوى الاحتياجات الخاصة، وتحفظ عليها البعض فى حين أيدها البعض الآخر لينتهى المجلس إلى الموافقة على مبدأ التعديلات الدستورية فى المواد المقترحة بالأغلبية ولتبدأ اللجنة التشريعية جلسات استماع على مدى الاسبوعين المقبلين فى استطلاع آراء الجهات المختلفة فى تلك التعديلات، بعدها يتم صياغة المواد المقترحة ووضع التقرير النهائي، وذلك فى إطار المدة التى حددها الدستور، لذلك الغرض وهى مدة الستين يومًا.
بعد انتهاء تلك الإجراءات سيكون الشعب هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة فى إقرار التعديلات الدستورية من عدمه بعيدًا عن الوصاية أو الإرهاب الفكري، وهذا هو المهم فالشعب هو صاحب الكلمة العليا، وله الحق كاملًا فى الموافقة على تلك التعديلات من عدمه بعيدًا عن حملات الفيس بوك أو المتاجرة بالمواقف.
لقد شهدت السنوات الثمانى الماضية العديد من التطورات السريعة والمتلاحقة على الساحة المصرية، وبعد قيام ثورة 25 يناير للأسف الشديد تحولت الثورة إلى فوضى وانفلات وحرق وتدمير للممتلكات العامة والخاصة، لتدخل مصر مرحلة كانت تستهدف تقويض وهدم أركان الدولة، وتحويلها إلى دولة فاشلة، ومفلسة، وكان من المستحيل أن يستمر هذا الوضع لأن استمراره ببساطة كان يعنى ضياع الدولة إلى الأبد، كما حدث فى اليمن وليبيا، وسوريا، خاصة ان مصر دولة كبيرة ولها ظروفها الاقتصادية الخاصة لكن وعى الشعب كان هو الحارس الأمين لتنفجر ثورة 30 يونيو وتبدأ مسيرة طويلة فى إصلاح ما أفسده الزمن، وبدأت العجلة فى الدوران فى إزالة التشوهات التى كانت قائمة حينذاك، بدأت بمرحلة انتقالية ثم تعديلات دستورية، وانتخابات رئاسية وبرلمانية لتعود بعدها مؤسسات الدولة للحياة مرة أخرى رويدًا رويدًا، ثم كان التحدى الصعب وهو الإصلاح الاقتصادى بعد أن وصل الاقتصاد إلى حافة الافلاس والانهيار.
كان القرار قرارًا صعبًا وعسيرًا لكنه الدواء المر الذى لابد منه، ونجح الشعب المصرى فى الاختبار الصعب وبصبر وحكمة اجتاز أصعب مراحل الإصلاح وأقساها، والآن تبدأ مرحلة جديدة للانطلاق والتنمية عنوانها الاستقرار والبداية من التعديلات الدستورية التى تعتبر حلقة من حلقات استكمال إعادة تثبيت أركان الدولة وانطلاقها واستكمال مسيرة طويلة من الإنجازات التى تحققت فى فترة قياسية قصيرة، والشعب صاحب الكلمة العليا فى الحكم عليها؛ بعد أن عانى طويلًا من الفوضى والضياع.