الإهمال مع سبق الإصرار والترصد .. بقلم عبد المحسن سلامة
لم يعد ممكنا الصمت على «الإهمال» أكثر من ذلك بعد أن حصد أرواح نحو 22 قتيلا وأكثر من 40 مصابا فى حادث جرار القطار بمحطة مصر يوم الأربعاء الماضى فى جريمة بشعة هزت وجدان الشعب المصرى كله.
هى جريمة إهمال سائق، لكنها تفتح الباب واسعا أمام ضرورة محاربة ظاهرة الإهمال «المتفشية» فى قطاعات عديدة بسبب «مورثات» خاطئة، وتراكمات زائفة، وسلوكيات معيبة، فهناك من يبرر الإهمال بمقولة «على قد فلوسهم»، والأخطر أن هناك من اعتاد الإهمال ولا يشعر بوخزة ضمير أو إحساس بالمسئولية مثل ذلك السائق الذى ارتكب جريمة الحادث الأخير حينما قفز من الجرار ليتشاجر مع سائق الجرار الآخر وترك الجرار يسير وحده دون أن يوقفه، والأخطر أنه غادر موقع الحادث، وذهب إلى منزله فى برود قاتل، وأنانية مفرطة، وغيبوبة عقلية وضميرية ليس لها مثيل.
المتهمون الآن فى قبضة العدالة، وهناك ثقة مطلقة فى معاقبتهم بما يستحقون غير أن هناك مشكلة فى النصوص التى تعاقب جريمة الإهمال، مما يستدعى ضرورة إعادة النظر فى عقوبات تلك الجريمة وتعديلها بما يتوافق مع الآثار المترتبة عليها، وما إذا كان هناك ضحايا فى حالة وقوع تلك الجريمة كما فى حادث جرار السكك الحديدية أم لا، وأيضا التفرقة بين الإهمال غير المقصود، والإهمال مع سبق الإصرار والترصد كما حدث فى الجريمة الأخيرة، بحيث يضع المشَّرعْ تفاصيل كثيرة حول تلك الجريمة ليكون أمام القاضى درجات متعددة للعقوبة بحسب نوعية الجريمة وأسبابها وتبعاتها ودرجة التعمد والقصد فى ارتكابها.
د. مصطفى مدبولى رئيس مجلس الوزراء يسترجع قصة الحادث الأليم قائلا: الحادث وقع فى التاسعة وأربعين دقيقة تقريبا، وكان موعد اجتماع مجلس الوزراء فى تمام العاشرة، وهناك مركز لمتابعة الأزمات وإدارتها قامت الحكومة بإنشائه ويعمل على مدى الساعة وطوال الـ 24 ساعة يوميا، ومع توالى الأنباء عن الحادث اضطررت إلى مغادرة اجتماع مجلس الوزراء، ومعى الوزراء المختصون تباعا وهم وزراء النقل والصحة والداخلية والتضامن لكى نقوم بمتابعة الحادث من الموقع نفسه رغم المخاطر التى كانت موجودة هناك، مشيرا إلى أن توجيهات سيادة الرئيس عبدالفتاح السيسى كانت تركز على ضرورة السيطرة على الحادث بأقصى سرعة ممكنة وكشف ملابساته ونقل الضحايا وعلاج المصابين، ومعاقبة المقصرين والمتسببين فيه.
وأضاف د. مصطفى مدبولى رئيس مجلس الوزراء قائلا: تابعت مع الزملاء المختصين الموقف لحظة بلحظة من داخل محطة مصر حتى تم نقل جميع المصابين إلى مستشفى الهلال الأحمر ومستشفى السكك الحديدية، ونقل جثث الضحايا، وإطفاء الحريق بالكامل، وبعدها غادرت الموقع إلى مستشفى الهلال للاطمئنان على المصابين، وهناك أبلغونى أن المستشفى غير مجهز لاستقبال مصابى الحروق، وكذلك مستشفى السكك الحديدية، ليتم على الفور نقل المصابين بالحروق إلى معهد ناصر، ومستشفى دار الشفا، ثم عدت مرة أخرى لاستكمال اجتماع مجلس الوزراء، واتخاذ باقى الإجراءات من صرف التعويضات وكل ما يتعلق بعلاج آثار الحادث الأليم.
سألت د.مصطفى مدبولى رئيس مجلس الوزراء عن أسباب الحادث، وهل انتهت التحقيقات؟
أجاب: المعلومات والتحقيقات الأولية كلها تشير إلى أنها جريمة إهمال قاتلة، وهى الجريمة التى يجب أن نتوقف أمامها طويلا، لأنه من غير المعقول أن يتم بذل كل هذا الجهد الرهيب فى كل المجالات الآن ثم يأتى من يرتكب بحماقة جريمة إهمال قاتلة يعيدنا بها خطوات إلى الوراء، وللأسف هناك بعض القوانين الموجودة الآن تحمى هؤلاء المهملين ولا تسمح بمعاقبتهم بشكل واضح وحاسم، وبالتالى لابد أن تكون هناك تعديلات تشريعية سريعة سوف نبحثها مع الزملاء فى مجلس الوزراء، ودفعها إلى البرلمان لإيجاد حلول رادعة لهذه النوعية من العاملين المهملين فى مختلف المجالات، سواء فى السكك الحديدية أم غيرها من المجالات، لأن استمرار هذا النوع من الإهمال لم يعد مقبولا، ثم بعد ذلك تتحمل القيادات أخطاء هؤلاء المهملين رغم كل الجهود التى يتم بذلها.
انتهت تصريحات د.مصطفى مدبولى رئيس مجلس الوزراء، ومعه كل الحق فى أنه لم يعد مقبولا استمرار هذه النوعية من العاملين الذين يتسبب إهمالهم فى كل تلك الكوارث وغيرها، وللأسف هناك الكثير من التشريعات الحالية تقف حجر عثرة أمام سرعة معاقبة المخطئين واتخاذ الإجراءات الرادعة تجاههم، لأن معظمها قوانين موروثة منذ أكثر من خمسين عاما، وكلها تتعلق بالنظم الاشتراكية المستمدة من الفكر الشيوعى الذى لم يعد موجودا الآن، حتى فى تلك الدول التى لاتزال ترفع شعارات الشيوعية والاشتراكية كالصين التى تطبق قوانين أكثر صرامة من القوانين الرأسمالية.
تعديل التشريعات الخاصة بجريمة الإهمال باتت ضرورة ملحة لمواكبة حجم التطورات الهائلة التى تحدث على أرض مصر الآن فى مختلف المجالات، والحفاظ على المكتسبات التى تحققت خلال الفترة الأخيرة.
على الجانب الآخر فإن البعض يحاول اختزال حجم التطورات فى السكك الحديدية فى الحادث الأخير رغم أن تقرير التنافسية الدولية لعام 2018 ـ وهو تقرير دولى موثوق به، أشار إلى أنه حدث تحسن كبير فى مستوى السكك الحديدية فى مصر وقفزت من المركز الـ 71 عام 2015 على مستوى العالم إلى المركز الـ 50 عام 2018، أى أنها قفزت 21 مركزا دفعة واحدة فى أقل من 3 سنوات، وفى السياق نفسه ايضا قفزت مصر فى مجال جودة الطرق من المركز 118 عام 2015 إلى المركز 75 ، أى أن الطرق فى مصر قفزت 43 مركزا فى السنوات الثلاث الأخيرة، أما فى مجال البنية التحتية فقد قفزت مصر 54 مركزا دفعة واحدة خلال الفترة نفسها لتحتل المركز الـ 71 بعد أن كانت فى المركز الــ 125.
سكك حديد مصر هى ثانى سكك حديدية على مستوى العالم بعد المملكة المتحدة، ويبلغ طولها نحو 9 آلاف كيلو متر، وتربط بين محافظات مصر المختلفة فى شبكة هائلة ومتسعة من الطرق الحديدية الحديثة ويعمل بها أكثر من 86 ألف عامل من جميع التخصصات الفنية والإدارية والعمالية، وتقوم بنقل نحو مليون ونصف مليون راكب يوميا فى أسطول يضم 3500 عربة منها 850 عربة مكيفة، وتتراوح سرعة القطارات من 90 كيلو مترا إلى 120 كيلو مترا، وقد شهدت السكك الحديدية طفرة هائلة خلال السنوات الأربع، حيث تم التجديد الشامل لخط القاهرة ـ أسوان بطول 297كم وبتكلفة 650 مليون جنيه، وايضا تجديد بعض الخطوط الأخرى بطول 171كم وبتكلفة 600 مليون جنيه.
أما فيما يخص عربات الركاب فقد تم توريد 212 عربة مكيفة بتكلفة 2.86 مليار جنيه، وكذلك التعاقد على توريد 1300 عربة جديدة مع التحالف المجرى الروسى بتكلفة مليار و16 مليون يورو.
امتد التطوير أيضا إلى العديد من المجالات مثل توريد جرارات جديدة، وتأهيل الجرارات القديمة، وتطوير المزلقانات، واستحداث نظام الإشارات، وبلغت التكلفة الإجمالية لكل هذه الأعمال مايزيد على 50 مليار جنيه.
ليس معنى ذلك ان سكك حديد مصر فى أحسن أحوالها، وأن أمورها «وردية» فالحقيقة أن ماحدث من تطوير ماهو إلا بداية مشوار طويل لتطوير السكك الحديدية تحتاج فيه ربما إلى أكثر من الـ 50 مليارا التى تم إنفاقها خلال السنوات الأربع الماضية من أجل استكمال خطط تطوير عربات الركاب وتحويلها إلى عربات آدمية لائقة على جميع الخطوط، وكذلك تطوير المزلقانات، وتحويلها إلى مزلقانات إلكترونية لا يتدخل فيها العنصر البشري، واستكمال جهود تطوير وتحديث باقى خطوط السكك الحديدية.
هذه الجهود لا يمكن أن يتم تحقيقها فى يوم وليلة، لكنها تحتاج إلى تمويل ضخم وبعض الوقت، وهو ما يجب تفهمه والصبر عليه بعيدًا عن التهوين والتهويل، ومحاولات نشر الشائعات والتشويش وقلب الحقائق.