المشاركة.. بين الضرورة والرفاهية.. بقلم ــ عبدالمحسن سلامة
أمس الأول انطلقت عملية تصويت المصريين فى الخارج، وأمس بدأ المصريون فى الداخل التصويت على التعديلات الدستورية التى وافق عليها البرلمان بعد العديد من الخطوات والإجراءات القانونية اللازمة لذلك، طبقا لما حدده الدستور بشأن كيفية إجراء التعديلات عليه، وقد عقد مجلس النواب العديد من جلسات الاستماع بشأن المواد المطلوب تعديلها أو إضافتها، واستمع إلى كل الآراء، مؤيدة أو معارضة، بحيادية تامة، ولأننى شاركت فى جلسات الاستماع، فقد شاهدت مساحة الاتفاق والاختلاف التى أبداها المشاركون فى هذه الجلسات حول المواد المطروحة للتعديل سواء بالموافقة أو المعارضة، ولم يتدخل رئيس المجلس د. على عبد العال من قريب أو بعيد فى الضغط أو التوجيه أو الرغبة فى «سلق» التعديلات، لكنه أعطى الفرصة كاملة لكل المشاركين فى إبداء آرائهم بحرية كاملة، وحينما جاء الدور على المجلس فى المناقشة شارك كل الأعضاء فى المناقشات بمساحة الحرية نفسها التى كانت موجودة فى جلسات الاستماع وخرجت التعديلات بعد موافقة الأغلبية عليها، حيث صوت 531 نائبا لمصلحة التعديلات، بينما رفضها 22 نائبا، وامتنع نائب واحد عن التصويت.
المشاركة فى التصويت على التعديلات الدستورية ضرورة وليست رفاهية، فالشعوب لا تصنع مستقبلها بالسلبية، وإنما تصنعه بالمشاركة الإيجابية، فى إطار من الالتزام بالتقاليد الديمقراطية، والإيمان بحق الآخر، فيجب ألا يصادر من يؤيد التعديلات رأى المعارضين، وفى الوقت نفسه يجب ألا ينصب المعارضون أنفسهم وصاة على الشعب، فالشعب هو صاحب الكلمة العليا، ولابد من احترام إرادته، ويكفى ما حدث فى دول المنطقة، من خراب وتدمير وعودة إلى الوراء، وللأسف الشديد لا تزال الرياح الساخنة تهب على المنطقة، وبنظرة بسيطة نجد أن دولتى الجوار ليبيا والسودان، غارقتان فى بحور الفوضى والقلاقل التى نتمنى لشعبيهما سرعة التعافى وعودة الهدوء والاستقرار إليهما مع الاحترام الكامل لإرادة الشعبين الشقيقين فى اختيار ما يناسبهما.
بفضل الله أولا وبحكمة الجيش وصمود الشعب، نجحت مصر فى الإفلات من دوامة الفوضى والعنف التى كادت تعصف بها إلى سلة الدول الفاشلة، بعد أن كانت مؤسسات الدولة كلها مهددة بالانهيار، وكادت الأمور تتحول إلى اقتتال أهلى فى الشوارع، وفى خضم الفوضى والانفلات ترعرع الإرهاب وازدهر، وخرج من حالة الكمون إلى حالة النشاط فى سيناء وغيرها من المناطق، إلا أن سرعة «إفاقة» الشعب المصرى فى 30 يونيو، وثورته على تلك الأوضاع الصعبة والمعقدة، وأصطفافه مع جيشه وشرطته كان له أكبر الأثر فى بدء «تعافي» الدولة المصرية، وعاش الشعب المصرى أصعب اللحظات، ولأنه شاهد وعايش على الطبيعة ما لم يكن يتخيله من اضطرابات وفوضى وأوضاع مؤلمة وقاسية، فقد كان الشعب هو حائط الصد القوى المساند لكل خطوات الإصلاح السياسى فى البداية ليظهر الدستور الجديد فى 18 يناير عام 2014، بعد تعديل المواد الخلافية التى كانت موجودة فى دستور 2012، وبعدها بدأت مسيرة استكمال مؤسسات الدولة من انتخابات رئاسية وبرلمانية، وعلى الجانب الآخر انطلقت مسيرة الإصلاح الاقتصادى اللازمة والضرورية لإنقاذ الدولة من «شفا الإفلاس والانهيار»، ويجب ألا ننسى أبدا تلك الظروف القاسية التى كنا ننتظر فيها وصول شحنة البترول أو الغاز من الدول العربية الشقيقة، لكى نطمئن على تشغيل محطات الكهرباء أو توفير أسطوانات الغاز فى المستودعات، ولايزال عالقا بذاكرتى موقف دولة عربية شقيقة أمرت سفنها المحملة بالبترول والغاز بالعودة من حيث أتت وهى فى عرض البحر، فى محاولة للضغط بعد أن نشب سوء فهم فى بعض المواقف السياسية.
لهذه الأسباب وغيرها كان الإصلاح الاقتصادى هو «الدواء المر»، لكنه العلاج الذى لا بديل له لإنقاذ مصر ومستقبلها، وبفضل الله أولا، ووعى الشعب المصرى ومساندته قيادته، نجحت خطة مصر فى الإصلاح الاقتصادي، ومرت أصعب مراحل الإصلاح، وبدأ الاقتصاد المصرى يتعافى بسرعة، ويسترد ثقة المؤسسات الدولية، ويتقدم تصنيفه الائتماني، ويصبح مستقبله «مستقرا» و«متفائلا»، وانعكس ذلك على قوة الجنيه المصرى الذى بدأ يستعيد بعض ما فقده أمام الدولار، الذى سجل يوم الخميس الماضى هبوطا آخر أمام الجنيه وتراجع نحو 12 قرشا ليسجل الدولار 17.14 جنيه للشراء، و17.24 للبيع، بعد أن كان يلامس الـ18 جنيها، ويُعزى هذا التراجع المستمر للدولار إلى زيادة تدفقات النقد الأجنبى بالبنوك خلال الفترة الأخيرة، وتحسن تصنيف مصر الائتمانى من جانب مؤسسة «موديز» العالمية.
وكان من نتيجة نجاح خطة الإصلاح الاقتصادى إعلان الرئيس عبدالفتاح السيسى حزمة الإجراءات الاقتصادية الخاصة برفع الحد الأدنى للأجور وزيادة المعاشات اعتبارا من بداية العام المالى الجديد فى يوليو المقبل، ليكون ذلك بداية شعور المواطن بثمار الإصلاح الاقتصادى الذى يحتاج إلى بعض الوقت والكثير من الجهد، لاستكمال خطواته حتى تتوافر كل الشروط اللازمة للانطلاقة الاقتصادية الكبرى ويتحول الإصلاح المالى إلى إصلاح اقتصادى متكامل يتضمن توسيع قاعدة الإنتاج، وخلق المزيد من فرص العمل بما يؤدى إلى تخفيض مستويات البطالة، وتحول الاقتصاد المصرى من الاقتصاد الريعى إلى الاقتصاد الإنتاجى المتكامل.
هذه التطورات السياسية والاقتصادية الهائلة واكبتها رؤية لإجراء تعديل دستورى على دستور 2014 الحالي، لضمان استمرار وتيرة الإصلاح الاقتصادى والسياسي، والحفاظ على ما تحقق خلال الفترة السابقة، وانتهت تلك الرؤية إلى طرح بعض التعديلات بهدف زيادة فترة الرئاسة من أربع إلى ست سنوات، وزيادة مشاركة المرأة والشباب فى مقاعد البرلمان، وعودة الغرفة الثانية للبرلمان تحت مسمى «مجلس الشيوخ»، وغيرها من التعديلات التى أقرها البرلمان، والتى هى معروضة الآن بين أيدى الشعب المصرى ليقول رأيه فيها بصراحة ووضوح فى رسالة واضحة وقوية للعالم كله تؤكد استمرار مسيرة الإصلاح السياسى والاقتصادي، حتى نصل إلى تحقيق حلم إقامة الدولة الديمقراطية العصرية الحديثة.
التعديلات الدستورية ليست جريمة، وهى ليست مقصورة على مصر وحدها، وإنما هى موجودة فى كل دول العالم، شرقه وغربه، فالدساتير ليست كتبا مقدسة، وإنما هى من صنع البشر، ومن الطبيعى إعادة النظر فيها بما يتماشى مع الظروف والمستجدات التى تمر بها الشعوب، والمهم فى كل الأحوال وعى الشعب، ومشاركته الإيجابية، والبعد عن السلبية، ودعوات المقاطعة الهزلية، فالشعوب لا تُبنى بالمقاطعة، وإنما تتقدم وتنمو وتستقر بالمشاركة والاحترام الكامل لرأى الشعب وإرادته بعد إعلان النتيجة.
كل المؤشرات، التى جاءت من خارج مصر خلال اليومين الماضيين ومن داخل مصر أمس، تشير إلى الإقبال الكبير من المواطنين على التصويت، وهو الأمر الذى ينبغى أن ينعكس أكثر وأكثر اليوم وغدا فى إقبال كل المواطنين بكل اتجاهاتهم على صناديق الاستفتاء، لإعلان رأيهم بوضوح وبكل حرية فى تلك التعديلات، فالمشاركة الآن ليست رفاهية، وإنما هى ضرورة مُلحة تقتضيها الظروف الحالية التى تمر بها مصر والمنطقة العربية كلها، لاستكمال مسيرة «التعافي» و«الإصلاح» فى مختلف المجالات، لتصبح مصر هى قاطرة الإنقاذ للمنطقة كلها.