تعافى ليبيا.. بداية النهاية لأزمات المنطقة .... بقلم ــ عبدالمحسن سلامة
غدا إن شاء الله يهل علينا شهر رمضان المعظم.. كل عام وأنتم جميعا بخير، وفى الوقت الذى يستعد فيه المسلمون لاستقبال الشهر الكريم، نجد أن هناك مناطق كثيرة فى عالمنا العربى والإسلامى تعانى القلاقل، والتوترات، والاضطرابات، ويحبس فيها المواطنون أنفاسهم ليس انتظارا لمدفع الإفطار، وإنما خشية الهلاك فى أى لحظة. وما بين أصوات المدافع، وانفجارات القنابل، وأزيز الطائرات والصواريخ، يعيش هؤلاء أقسى لحظات حياتهم، ولا يرون ضوءا فى نهاية النفق للخروج من هذا الواقع الأليم، والصراع المرير، بعد أن اختلط الحق بالباطل، واشتعلت الفتن والمؤامرات من الداخل أحيانا ومن الخارج أحيانا أخري.
يحدث هذا فى فلسطين، وليبيا، وسوريا، واليمن، ونتمنى السلامة للسودان والجزائر الشقيقتين، واجتياز ما تمران به من مرحلة صعبة، وكل الثقة فى قدرة الشعبين الشقيقين على تخطى أزماتهما والوصول إلى بر الأمان.
ربما تكون ليبيا أكثر الدول المرشحة للخروج من مأزقها الصعب إذا نجح الجيش الليبى فى بسط سيطرته على طرابلس، لتتوحد قوات الجيش والأمن تحت مظلة واحدة بعيدا عن بارونات الحرب، والجماعات المسلحة، وبقايا الإرهابيين الفارين من الدول الأخري، إلا أن المشكلة لاتزال معقدة بسبب ألاعيب بعض الدول التى تريد استمرار الأزمة الليبية كما هى دون حل، خاصة تركيا وقطر اللتين تدعمان بقوة جماعات طرابلس المسلحة تحت مسمى دعم حكومة الوفاق لإيجاد واقع مأساوى جديد قائم على تقسيم ليبيا على غرار «حماس» فى غزة، و«فتح» فى الضفة.
منذ نحو 8 سنوات انزلقت ليبيا إلى مستنقع الفوضى والانفلات بعد الإطاحة بحكم الرئيس الراحل معمر القذافي، وسيطرة الجماعات المسلحة والميليشيات على الأراضى الليبية، لتتحول ليبيا إلى أشلاء دولة، ومأوى للإرهابيين من كل دول العالم بعد فقدانها السيطرة على حدودها، ونزوح عدد كبير من مواطنيها، ولجوء أعداد كبيرة من الجماعات الإرهابية والمسلحة إليها بعد هزيمتها فى سوريا والعراق.
الجيش فى ليبيا هو المؤسسة الوحيدة التى يتوافق عليها الليبيون لإعادة الأمن والاستقرار إلى ليبيا، ومن هنا جاء دعم الليبيين الجيش الليبى منذ أن بدأ عملية الكرامة فى عام 2014 حتى أصبح الآن يسيطر على ما يقرب من 75% من الأراضى الليبية، ويبقى نجاح مهمته فى طرابلس الذى لو تحقق فسوف تتغير الخريطة على الأرض تماما لتبدأ ليبيا رحلة التعافى والخروج من الأزمة إلى خريطة طريق جديدة تكون قادرة على لمِّ شمل الشعب الليبي، وإعادة إطلاق عملية سياسية متكاملة ليصبح الشعب الليبى من خلالها قادرا على وضع دستوره الجديد، وإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، واختيار ممثليه بكل حرية.
نجاح جهود توحيد ليبيا يرتطم بتدخل بعض الأطراف الدولية لإبقاء الوضع المأساوى الحالى على ما هو عليه، وربما تكون ثروة ليبيا النفطية أحد الأسباب المهمة للصراع الداخلى والخارجى الدائر الآن هناك، حيث يبلغ العائد السنوى لثروة ليبيا النفطية ما يقرب من 15 مليار دولار، بمتوسط 90 ألف دولار للفرد سنويا تقريبا، مما جعل الصراع فى ليبيا يتحول إلى صراع على الثروة بعد أنهيار سلطة الدولة وتزايد دور الميليشيات المسلحة والجماعات الإرهابية.
هناك محاولات بذلتها الأمم المتحدة ومبعوثها الأممى غسان سلامة لحل الأزمة سياسيا، وكانت آخر تلك المحاولات زيارة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش ليبيا فى مارس الماضي، إلا أن كل تلك الجهود تعثرت على أرض الواقع بسبب رغبة بارونات الحروب فى إفشال تلك الجهود، ورفض الجماعات المسلحة إلقاء سلاحها والانضواء تحت رايات الجيش الليبى الموحد، مما جعل أمد هذه المحاولات يطول ويمتد منذ اندلاع الأزمة الليبية حتى الآن، وهو ما جعل المبعوث الأممى غسان سلامة يعلن فى تصريحات منشورة له من قبل صعوبة التسوية السياسية، وأنها لن تكون سهلة أو قريبة الموعد بسبب تحول الدولة الليبية إلى شظايا عديدة، وسيطرة الميليشيات المسلحة على كثير من المدن الليبية.
الواقع يشير إلى أن الموقف العالمى أصبح أكثر تفهما واستيعابا لمفردات الواقع فى الأزمة الليبية، فى ضوء تفهم أمريكا تلك الأزمة ودعمها الجيش الليبي، وإجراء مباحثات هاتفية بين الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، والمشير خليفة حفتر أخيرا، وتكرار الموقف نفسه بالنسبة لروسيا، وكذا تغير موقف العديد من الدول المؤثرة فى الأزمة الليبية خاصة فرنسا وإيطاليا.
الوضع العربى أيضا أصبح أكثر وضوحا فى ظل تطابق الرؤى المصرية والإماراتية والسعودية تجاه الأزمة، واتفاقها على ضرورة توحيد المؤسسات الأمنية تحت راية الجيش الليبى وحده، ودعم التوصل إلى رؤية سياسية للأزمة هناك بعيدا عن جماعات العنف المسلحة، والميليشيات، والجماعات الإرهابية التى تريد أن يكون لها دور فى هذا المسار، وهو الأمر المرفوض شكلا ومضمونا من معظم دول العالم، باستثناء تركيا وقطر بما لهما من علاقات ووشائج مع تلك الجماعات والميليشيات.
أعتقد أن المشير خليفة حفتر الآن هو الشخص الوحيد القادر على إعادة توحيد ليبيا من جديد إذا نجحت قواته فى دخول طرابلس ـ سلما أو حربا ـ وبسط نفوذها على العاصمة، وذلك بعد أن نجح فى السيطرة على معظم المدن الإستراتيجية الرئيسية، والأهم من ذلك السيطرة على حقول النفط. من ثم فإن المسافة باتت قصيرة أمام توحيد ليبيا، فى حال نجاح دخول القوات الليبية طرابلس، وأتمنى أن ينجح رئيس حكومة الوفاق فائز السراج فى التخلص من ضغوط الميليشيات والجماعات المسلحة، والدخول فى تفاوض مباشر مع قائد الجيش الليبى خليفة حفتر، لتسهيل دخول الجيش إلى طرابلس، وتوحيد المؤسسة العسكرية، حقنا لدماء الأبرياء فى شهر رمضان المعظم وتمهيدا للعودة إلى العملية السياسية التى ترعاها الأمم المتحدة.
نجاح توحيد ليبيا، وعودة مؤسسات الدولة مرة أخرى للعمل بكفاءة يعنى سيطرة الدولة الليبية على حدودها، وطرد جميع الميليشيات المسلحة من أراضيها، بما يضمن عودة الاستقرار إلى تلك المنطقة الحيوية من العالم، وضمان السيطرة على الهجرة غير الشرعية إلى دول أوروبا، وتأمين الحدود الليبية مع مصر والسودان والجزائر وتونس، خاصة فى ظل عدم الاستقرار فى تلك المناطق، والمحاولات الحثيثة والمستمرة للجماعات والميليشيات الإرهابية للتحرك والنفاذ إليها.
على الجانب الآخر، فإن عودة ليبيا القوية والموحدة سوف تكون بداية النهاية للعديد من أزمات المنطقة، وتسهم فى إعطاء دفعة معنوية هائلة لحل أزمتى اليمن وسوريا، والدفع بكل قوة لعودة الكيانات الشرعية للدولتين ومؤسساتهما مرة أخرى بعد ما تحقق من نجاح على الأرض فى الدولتين مما يبشر بإمكانية التوصل إلى حلول نهائية للأزمة فيهما.
أخيرا يبقى السؤال: هل يكون قدوم شهر رمضان المعظم فرصة لمراجعة المواقف والاستفادة من التجارب الخاطئة، وإعلاء مصالح الدول والشعوب على مصالح بارونات الحروب، والمتاجرين بالدين من أجل وقف نزيف دماء الأبرياء، وعودة الأمن والسكينة إلى شعوب تلك الدول، أم مازال مشوار المعاناة طويلا؟.
الإجابة تحملها لنا الأيام المقبلة.