أحاديث المكاشفة والمصارحة فى قمم مكة المكرمة ... مكة المكرمة ــ عبدالمحسن سلامة

«إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون فى دين الله أفواجا، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا» صدق الله العظيم.. تذكرت هذه الآيات القرآنية الكريمة فى أثناء دخولى بيت الله الحرام، ورأيت أفواجا هائلة من البشر، قادمة من كل فج عميق، ومن كل الأجناس والألوان، لا فرق بينهم، الجميع قاصد بيت الله الحرام، ومن المستحيل أن تعرف بلد هذا أو جنسية ذاك.

هذا المشهد يستحيل أن تراه فى مكان آخر غير مكة المكرمة والمدينة المنورة، اللتين يقصدهما ملايين البشر فى مواسم الحج والعمرة، آملين التقرب إلى الله، وراجين رحمته ومغفرته.

لو أن هؤلاء الملايين من البشر حولوا الدين إلى سلوك حياتى يومى لانطلقت أمة الإسلام وسادت العالم، غير أنه ـ للأسف الشديد ـ الكثير من المسلمين يفصلون بين العبادة والسلوك، ويتشددون فى المظاهر، وينسون الجوهر والمضمون، وبعد أن كان المسلمون هم سادة العالم فى وقت كان الغرب يغط فى السبات العميق فى أثناء عصور الظلام، انقلبت أوضاع المسلمين بعد ذلك، وبدأت فى التدهور والتخلف ليسحب الغرب البساط من تحت أرجلهم مرة أخرى، بعد أن تخلصوا هم من عصور الظلام ليقع المسلمون فريسة لها، ولا يزال العالمان العربى والإسلامى يعانيان حتى الآن بدرجة أو بأخرى بعد أن أهملا العلم والحضارة، واهتما بالشكليات، وسادت الكثير من المفاهيم الخاطئة التى شوهت صورة المسلمين فى العالم.

وسط أجواء روحانية رائعة وفى البقعة المباركة، وفى قاعة اجتماعات تطل على الكعبة المشرفة وترى ملايين البشر المعتمرين الداعين بالخير والسلام والمحبة لبلادهم وأمتهم، جاءت اجتماعات القمم الثلاث الخليجية والعربية والإسلامية، لعل وعسى تكون تلك القمم الثلاث بداية جديدة لصفحة مضيئة فى تاريخ العمل العربى والإسلامى المشترك الرافض للإرهاب والتطرف، والداعى إلى الوحدة ولم الشمل ونبذ الخلافات، ومواجهة التحديات الخطيرة التى تواجه الأمتين العربية والإسلامية.

القمتان الخليجية والعربية كانتا ضروريتين قبيل القمة الإسلامية لتأكيد وحدة الصف العربى الرافض ما تقوم به إيران من تدخلات فى شئون بعض الدول العربية، وقيامها بدعم الميليشيات والجماعات المسلحة فى عدد من الدول العربية، بما يهدد وحدة واستقرار هذه الدول.

كانت الرسالة واضحة وهى وحدة العالم العربى كله، وتضامنه مع المملكة العربية السعودية والإمارات، وإدانة إطلاق الصواريخ التى تهدد المناطق الآمنة فى المملكة العربية السعودية، ورفض عمليات التخريب التى طالت بعض السفن الإماراتية، والوقوف ضد تهديد الملاحة وحركة التجارة العالمية.

المتحدثون جميعهم اجتمعوا على كلمة سواء، بدءًا من الرئيس عبد الفتاح السيسى، ومرورا بالرئيس الحالى للقمة العربية الباجى قائد السبسى، رئيس الجمهورية التونسية، وكذلك رئيس القمة الطارئة الملك سلمان بن عبد العزيز، وانتهاءً بالأمين العام لجامعة الدول العربية السفير أحمد أبو الغيط.

وفى الوقت الذى تحدث فيه الملك سلمان بن عبد العزيز عن مخاطر التهديد الإيرانى، وتدخل إيران السافر فى شئون بعض الدول العربية، ودعم الميليشيات التى تستهدف زعزعة استقرار المملكة العربية السعودية والإمارات وباقى دول الخليج، فقد ركز أيضا الرئيس التونسى باعتباره رئيس الدورة الحالية ـ على رفض الدول العربية وإدانتها التدخل الإيرانى فى شئون الدول العربية، وإدانة استهداف المدن الآمنة فى المملكة العربية السعودية، ورفض أى تهديد للملاحة العالمية. أما الأمين العام للجامعة فكانت كلمته مؤثرة وواضحة وقوية فى أن العرب لا يبتغون الحرب، ويريدون السلام وحسن الجوار، لكنهم ليسوا مستضعفين، ويرفضون المساس بأمنهم والعيش تحت ظلال الخوف، مشددا على وحدة الأمن القومى العربى، ومنددا بالموقف الإيرانى فى دعم الميليشيات والجماعات المسلحة، خاصة جماعة الحوثيين التى أخذت الشعب اليمنى رهينة لأهواء تلك الميليشيات، مشيرا إلى أن الميليشيات لا تدخل بلدا إلا خربته، محذرا فى النهاية من المصير المظلم لهؤلاء العابثين، قائلا: «وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون».

ولأن مصر هى رأس العالم العربى ومصدر قوته، فقد كان الموقف المصرى واضحا وشديد القوة، وأعتقد أن كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسى كانت هى الأقوى والأكثر وضوحا فى القمة العربية، لأنها تضمنت رؤية إستراتيجية شاملة للوضع فى المنطقة تضع فى الاعتبار المخاطر والتحديات التى تواجه المنطقة، وكيفية مواجهة تلك التحديات والمخاطر، فى ضوء أربعة محددات رئيسية هى:

أولا: إدانة الهجمات التى تعرضت لها المملكة العربية السعودية والإمارات، واعتبارها أعمالا إرهابية صريحة تتطلب المواجهة والمحاسبة لمنع تكرارها، وضرورة تفعيل آليات التعاون العربى فى مواجهة الإرهاب، ومواجهة أى محاولة للمساس بالأمن القومى العربى بشكل سريع وحاسم.

ثانيا: ضرورة تبنى رؤية إستراتيجية لأزمات المنطقة تجمع بين الإجراءات السياسية والأمنية، بحيث يظل السلام خيارا إستراتيجيا للدول العربية فى التعامل مع جيرانها، وفى الوقت نفسه عدم التسامح مع أى تهديدات تواجه الأمن القومى العربى.

ثالثا: تأكيد ضرورة إيجاد حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية من خلال إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس، وكذلك وضع تصور لمعالجة أزمات سوريا وليبيا واليمن، بما يضمن استعادة وحدة هذه الدول وسيادتها، لتحقيق طموحات شعوبها.

رابعا: التعامل بحزم مع كل أوجه التدخلات الإقليمية والخارجية، بما يضمن التصدى للأطراف الإقليمية التى تهدد الأمن القومى العربى، أو تحاول التدخل فى الشئون الداخلية للدول العربية، وفى الوقت نفسه تصحيح مسار الأطراف العربية التى تتورط وتشارك فى التدخلات فى الشئون الداخلية العربية.

أتمنى أن تقوم الأمانة العامة لجامعة الدول العربية بدراسة خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسى أمام القمة العربية الطارئة، وتحويله إلى منهاج عمل للجامعة خلال الفترة المقبلة، إذا كانت الجامعة والدول الأعضاء فيها جادين فى إيجاد رؤية شاملة للمأزق العربى الحالى، بعيدا عن المعالجات الجزئية القاصرة التى تفرضها الأحداث، فقد آن الأوان للعالم العربى أن يصنع هو الأحداث، لا أن يظل مفعولا به طوال الوقت كما هو الآن.

الإستراتيجية المصرية فى معالجة الأزمة الراهنة تعيد زمام المبادرة إلى الدول العربية بعيدا عن سياسة رد الفعل، كما أنها أيضا تفتح الباب أمام الأطراف الإقليمية والعربية المتورطة فى الأزمات العربية، وعلى رأسها إيران وتركيا وقطر وإسرائيل، لإعادة النظر فى مواقفها مرة أخرى، وإيجاد صيغة للسلام والتعايش تتسع للجميع فى المنطقة طالما التزمت تلك الدول أو غيرها بعدم التدخل فى الشئون الداخلية للعالم العربى، واحترام خصوصية ومقتضيات الأمن القومى العربى، وقبول سيادة الدول العربية على أراضيها، بعيدا عن الاحتلال المباشر، كما يحدث فى فلسطين، أو الاحتلال غير المباشر كما يحدث فى اليمن ولبنان وسوريا والعراق.

 

هناك فرصة تاريخية أمام إيران لمراجعة موقفها، فى ضوء البيان الختامى للقمة العربية الطارئة فى مكة المكرمة إذا كانت راغبة بحق فى السلام وحسن الجوار مع الدول العربية، إلا أن ذلك يقتضى عدة خطوات ضرورية من جانبها لعل أبرزها:

أولا: أن تعلن إيران قولا وفعلا سحب دعمها ميليشيات الحوثى فى اليمن، وتأييد الحكومة الشرعية ورئيس اليمن الشرعى عبد ربه منصور هادى، وقطع خطوط الإمدادات عن تلك الميليشيات التى خربت اليمن وأخذت الشعب اليمنى رهينة لمخططاتهم الشيطانية.

ثانيا: ابتعاد إيران عن المشهد فى سوريا، وضرورة أن تترك إيران مصير الشعب السورى للسوريين أنفسهم، وكذلك الحال فى لبنان والعراق.

ثالثا: إعلان طهران احترامها سيادة الدول فى السعودية والإمارات، والانسحاب من الجزر الإماراتية المحتلة، وكذلك تأكيد احترام سيادة مملكة البحرين على أراضيها.

الخلاصة أن تعود إيران إلى داخل حدودها، وتوقف برامجها فى تصنيع السلاح النووى والصواريخ الباليستية، بحيث تظل منطقة الشرق الأوسط خالية من الأسلحة النووية، وأن تكف عن محاولاتها المستميتة لتصدير ثورتها، وتمويل جماعات العنف والإرهاب والميليشيات داخل بعض الدول العربية من خلال تغذية النزعات الطائفية والعنصرية، وإيجاد وكلاء لها فى بعض الدول العربية، كما هو موجود الآن فى اليمن ولبنان والعراق وسوريا.

لو استجابت إيران إلى صوت العقل وعادت إلى صوابها؛ فإنها بذلك سوف تطوى صفحة سوداء من تاريخ المنطقة، وبذلك يمكن تجنيب المنطقة ويلات الحرب وشرورها، ووقف استنزاف موارد المنطقة فى الصرف على تلك الميليشيات والجماعات الإرهابية.

 

أظن أن رسائل القمتين العربية والخليجية كانت واضحة وصريحة هذه المرة عن غيرها من القمم السابقة، مما أسهم فى خروج البيان الختامى بهذه القوة وسط إجماع من كل الدول العربية، باستثناء العراق ـ أحد ضحايا النظام الإيرانى الذى تحفظ على البيان.

فعلى إيران اغتنام تلك الفرصة إذا كانت جادة فى احتواء الموقف، وفى الوقت نفسه على الدول العربية أن تستعيد زمام المبادرة، تحسبا لكل الاحتمالات، لتحقيق آمال وطموحات الشعوب العربية فى تلك الأيام المباركة، ليعود زمن الانتصارات، وتطوى الانكسارات فى العالمين العربى والإسلامى.

Back to Top