إعلان الحرب على العدو الأول فى إفريقيا.. بقلم ــ عبدالمحسن سلامة
توقفت طويلا أمام ما قاله اللواء أركان حرب شريف سيف الدين فى افتتاح المنتدى الإفريقى لمكافحة الفساد عن أن الفساد هو العدو الأكبر للقارة السمراء، والذى تقدر خسائره بمليارات الدولارات سنويا، موضحا أن قضية محاربة الفساد واحدة من أهم القضايا التى توافقت عليها الدول الإفريقية كإحدى أولويات الأجندة التى اعتمدها الاتحاد الإفريقى كخطة عمل للقارة حتى عام 2063.
منذ أربع سنوات أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسى الحرب ضد العدو الأكبر للتنمية والرخاء فى مصر ألا وهو الفساد، من خلال سلسلة من الإجراءات والإصلاحات التشريعية التى تتوافق وأحكام الاتفاقيات الأممية والإفريقية والعربية، لمنع الفساد ومكافحته، وكذلك استحداث إدارات مختصة لمكافحة صور الفساد المالى والإداري، واتخاذ خطوات سريعة ومتلاحقة لتعزيز الحوكمة المالية والإدارية والقضاء على البيروقراطية، والسير قدما فى إجراءات التحول الرقمى والشمول المالي. وحينما تولت مصر رئاسة الاتحاد الإفريقى الدورة الحالية، نقل الرئيس عبد الفتاح السيسى الحرب على الفساد من مصر إلى إفريقيا، فأطلق فكرة إقامة المنتدى الإفريقى الأول لمكافحة الفساد، والذى عقد على مدى يومى الأربعاء والخميس الماضيين، وتحول إلى ورشة عمل ضخمة ضمت العديد من اللجان، والجلسات، والمناقشات، والمشاورات بين المشاركين من كل دول القارة السمراء، من أجل التوصل إلى رؤية مشتركة، للقضاء على العدو الأول للتنمية فى إفريقيا، وتدعيم سبل التعاون بين دول القارة المختلفة بما يؤدى فى النهاية إلى نجاح الدول الإفريقية فى كسب معركتها ضد الفساد، لنصل فى النهاية إلى قارة خالية من الفساد، وهو الحلم الذى أطلقه المنتدى، ووضع اللبنات الأولى لتحقيقه خلال الأعوام القليلة المقبلة.
إقامة المنتدى الإفريقى الأول لمكافحة الفساد تأتى تتويجا لما قامت به مصر أخيرا فى هذا الإطار وتتوافق مع رئاسة مصر الاتحاد الإفريقى لتعزيز العمل الإفريقى المشترك لاستئصال الفساد من القارة السمراء
تحولت جلسات المنتدى إلى ورش عمل ساخنة وقوية، لبلورة تلك الرؤية، وخلال الجلسات لم يتوان الكثير من المشاركين عن إطلاق قذائفهم بقوة ضد كل أشكال الفساد، فها هو وزير الأمن فى دولة أوغندا يتحدث بمنتهى الصراحة عن أوضاع الفساد فى القارة، مشيرا إلى إنفاق ما يقرب من 20 إلى 30% من الموازنات فى أوجه إنفاق غير سليمة، وأن الأزمة فى القارة السمراء ليست أزمة موارد بقدر ما هى أزمة فى كيفية إدارة هذه الموارد، وأنه من الضرورى أن يكون هناك تعاون قوى وفعال بين الدول الإفريقية فى الحرب على الفساد، لأن الحروب الفردية نتائجها أقل جدِّا من الحروب الجماعية، مشيرا إلى تغلغل الفساد فى العديد من أماكن مكافحة الفساد نفسها، وهو الأمر الذى يحتاج إلى إعادة رؤية وتنسيق متكامل، حتى يمكن كسب المعركة ضد الفساد.
أما المراقب العام النيجيرى فقد فجر مفاجأة من العيار الثقيل حينما أشار إلى أن هناك ما يقرب من تريليون دولار يتم وضعها سنويا فى شكل «رشى» فى حين يتم إهدار 2.5 تريليون دولار سنويا فى قضايا فساد،
مبالغ ضخمة يتم إهدارها ليس عن طريق السرقات التقليدية والمجرمين التقليديين، وإنما من خلال «ذوى الياقات البيضاء» المتعلمين، وبعضهم فى أوضاع اجتماعية ووظيفية شديدة التميز، لكنهم مجرمون فاسدون مثلهم فى ذلك مثل «البلطجية» وقطاع الطرق، وربما أسوأ، وذلك لأن هناك بيئة محيطة تشجع على الفساد، وتتعايش معه، وتتعاطف معه أحيانا، والغريب أن الفساد فى القطاع الخاص ربما يكون أكبر جدِّا من فساد القطاع الحكومى والعام. وقد أثبتت الدراسات التى أشار إليها بعض المتحدثين أن فساد القطاع الخاص أعلى جدِّا وأضخم وأخطر لأنه يتحرك بحرية أكبر، وفى معظم الحالات يكون القطاع الخاص شريكًا أساسيًا فى معظم جرائم الفساد، بما فيها الجرائم التى تقع فى القطاع الحكومى والعام، لأنه إما أن يكون هو سبب الفساد أو المستفيد منه. ولأن جرائم الفساد الكبرى يرتكب معظمها أصحاب الياقات البيضاء وذوو المراكز الاجتماعية المرموقة، فإنه لا بديل عن مواجهة تلك الجرائم بالتكنولوجيا الحديثة والمتقدمة، وهو ما تضعه هيئة الرقابة الإدارية ضمن خطتها لمحاصرة الفساد والقضاء عليه، كما أشار اللواء أكرم عبدالباسط ممثل هيئة الرقابة الإدارية من خلال تعظيم استخدام تكنولوجيا المعلومات فى القضاء على الفساد. بحيث يتم توفير البيانات اللازمة وتحويلها إلى معلومات ووضعها أمام متخذ القرار، لمساعدته فى اتخاذ القرار السليم، ومحاصرة التلاعب من جانب بعض متخذى القرار.
الأمر المؤكد أن استخدام التكنولوجيا الحديثة يمكن أن يحد بدرجة كبيرة من الفساد من خلال ميكنة الخدمات واعتبار التكنولوجيا أداة من الأدوات الفاعلة للحوكمة المالية والإدارية بهدف تعزيز الشفافية، وقد خطت مصر خطوات عديدة فى هذا المجال، منها إنشاء أول منصة للبيانات والبدء فى التحول الرقمى والحوكمة الإلكترونية.
أما تجربة إنشاء الأكاديمية الوطنية لمكافحة الفساد، فقد كانت ضمن الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد بمرحلتيها الأولى والثانية، التى أطلقها الرئيس عبدالفتاح السيسي، وهى أكاديمية تتبع هيئة الرقابة الإدارية، وتهدف إلى تعزيز قيم الشفافية والنزاهة، كما يشير اللواء هشام زعلوك، مدير الأكاديمية.
سألته عن نشاط الأكاديمية، وهل بدأت بالفعل؟!
أجاب: الأكاديمية بدأت حينما أطلقها الرئيس فى المرحلة الثانية من إستراتيجية مكافحة الفساد، وبدأت النشاط بالفعل فى 9 ديسمبر 2018، وقامت بتخريج 5500 خريج من المصريين ونحو 434 خريجًا من إفريقيا فى مختلف التخصصات، وفى كل المجالات، مشيرا إلى أن هناك وحدتين رئيسيتين فى الأكاديمية، الأولى خاصة بمكافحة الفساد، والثانية خاصة بمنع الفساد، بالإضافة إلى مركز للدراسات يختص بإقامة الدورات التدريبية والبحوث فى المجالات ذات الصلة خاصة ما يتعلق بالنزاهة والشفافية، والمجتمع المدني.
قلت: وما مدة الدورة ونوعية الدارسين؟
أجاب اللواء هشام زعلوك: مدة الدورة تتراوح ما بين أسبوع وشهرين بحسب نوعية الدورة، ونوعية الدارسين، وبالنسبة للدارسين من مصر، فمن ضمنهم دارسون من جميع الوزارات والهيئات وشركات قطاع الأعمال العام، والمرأة، حتى ذوو الاحتياجات الخاصة من الصم والبكم كان لهم نصيب أيضا فى الدراسة والتأهيل.
أما الأفارقة فقد وافق الرئيس عبد الفتاح السيسى على إعطاء منحة لـ 250 متدربا من إفريقيا، وخلال المنتدى وافق الرئيس على مضاعفة المنح المقدمة للأشقاء الأفارقة إلى 500 منحة، وخلال الفترة الماضية استقبلت الأكاديمية ما يقرب من 434 متدربا إفريقيا من العاملين فى البورصات والبنوك والسفارات والضباط والإعلاميين ومختلف التخصصات، حيث يتم إعداد دورة خاصة لكل فئة بحسب عملها ومدة المشاركة فى الدورة التدريبية.
وأضاف: مجلس إدارة الأكاديمية، برئاسة اللواء شريف سيف الدين، رئيس هيئة الرقابة الإدارية، وضع خطة لزيادة التعاون مع كل الجهات المحلية والعالمية، حيث توجد بروتوكولات تعاون مع العديد من الجامعات والأكاديميات والمعاهد التعليمية والمتخصصة فى مصر، بالإضافة إلى تعاون مع الأكاديمية الدولية لمكافحة الفساد فى فيينا، وقد قمت بعقد لقاء موسع مع مدير الأكاديمية الدولية أثناء مشاركته فى المنتدي، لزيادة أوجه التعاون بين الأكاديمية الوطنية والأكاديمية الدولية.
على الجانب الآخر، فقد كانت هناك مشاركة فاعلة للجهاز المركزى للمحاسبات فى المنتدي، باعتباره أقدم مؤسسة رقابية فى مصر وإفريقيا، حيث أنشئ عام 1942، ويباشر دورا رئيسيا الآن فى العديد من السياسات، لتحقيق أهداف الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد.
وحذر المستشار هشام بدوي، رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات، من مخاطر الفساد باعتباره سلوكا اجتماعيا تتورط فيه قطاعات واسعة من المجتمع، ولا يقتصر على موظفى الجهاز البيروقراطي، وإنما يشمل فئات أخرى يظهرون كوسطاء وأصحاب مصالح نتيجة وجود ثقافة مجتمعية متسامحة مع الفساد إما من منظور توافق المصالح، أو من منظور انعدام الوعى الجماهيرى بالظاهرة وتداعياتها المدمرة، مشيرا إلى أن مصر قطعت شوطا كبيرا فى مكافحة الفساد، وامتلكت تجربة رائدة فى هذا المجال تصلح لتعميمها فى إفريقيا، انطلاقا من اتفاقية الاتحاد الإفريقى لمكافحة الفساد، باعتبارها الصك القانونى الأساسى لدى إفريقيا فى هذا الشأن.
لقد أجمع المشاركون فى الجلسات والمناقشات على خطورة الفساد، واعتباره العدو الأكبر للتنمية والاستقرار والإصلاح فى الدول الإفريقية، لأنه يؤدى إلى إهدار موارد الدولة لمصلحة أصحاب المصالح الخاصة، ويعرقل خطط التنمية بإيجاد بيئة غير مواتية للتطور، ويسهم فى هروب الاستثمارات المحلية والأجنبية نتيجة الضغوط والممارسات غير المشروعة التى يتعرض لها المستثمرون.
المشكلة الأكبر التى نبه إليها المنتدى هى أن العقوبات وحدها لا تكفى لاستئصال الفساد، وإنما الأهم هو إيجاد بيئة صحية لمنع وقوع الفساد، تبدأ مع مراحل الدراسة منذ بدايتها حتى نهايتها، وإدخال الوسائل التكنولوجية الحديثة التى تحد من التعامل المباشر بين الراغب فى الخدمة ومقدمها، مع متابعة الطرق المستحدثة فى ارتكاب جرائم الفساد وغسل الأموال، بما يتيح للأجهزة الرقابية تتبع تلك الجرائم ومعاقبة المتورطين بها، والعمل على اجتثاثها من المنبع.
10 توصيات مهمة أطلقها اللواء شريف سيف الدين، رئيس هيئة الرقابة الإدارية، فى ختام المنتدي، للقضاء على العدو الأول والأكبر فى إفريقيا والعالم العربي، منها ما يتعلق بالإستراتيجيات المجتمعية فى الدول المختلفة، ومنها ما يتعلق بالتعاون بين دول القارة لتبادل المعلومات والتنسيق بين الأجهزة المعنية، وكذلك المطالبة بوضع آلية منتظمة لعقد المنتدى بصفة دورية، لضمان متابعة الموقف التنفيذى للتوصيات، ومواصلة الجهود، حتى نضمن تحقيق حلم «قارة خالية من الفساد» قريبا.