حلم 55 عاما يتحول إلى حقيقة.. بقلم عبد المحسن سلامة
على مدى 55 عاما ظل حلم الرعاية الصحية المتكاملة يراوج مكانه دون تقدم حقيقى على الأرض باستثناء بعض المحاولات الفئوية غير المكتملة والتى كانت تخص قطاعا أو فئة معينة حتى أصبح هناك عدة نظم تأمينية تكاد تكون متنافرة وغير متكاملة، فهناك تأمين صحي، للعاملين به الكثير من المشكلات والشكاوى بسبب نقص التمويل، وهناك تأمين صحى للتلاميذ، وآخر للمواليد، وكل نظام له شروطه الخاصة، وطرق تمويله المختلفة، وسقف التغطية العلاجية المسموح بها، والتى تختلف عن باقى النظم الأخري.
فى الأسبوع الماضى وبعد ترتيبات شاقة ومضنية قام د.مصطفى مدبولى رئيس مجلس الوزراء بإطلاق مشروع التأمين الصحى الشامل فى بورسعيد، تمهيدا لتعميمه تدريجيا على باقى المحافظات وفقا للخطة التى اعتمدها الرئيس عبد الفتاح السيسي.
فى البداية أوضح د.مصطفى مدبولى رئيس مجلس الوزراء أن إطلاق المشروع سبقه جهد رهيب من الحكومة وبمتابعة يومية من الرئيس للاطمئنان على كل خطوة من الخطوات الموضوعة بدءا من المستشفيات ومرورا بالأطباء وطاقم التمريض والكوادر البشرية، وانتهاء بالتمويل والمشكلات المالية، مشيرا إلى أن الحكومة انتهت من قانون التأمين الصحى الشامل منذ ما يزيد على عام مضى ثم أصدرت اللائحة التنفيذية للقانون ليبدأ التطبيق التجريبى على أرض الواقع فى بورسعيد تمهيدا للتعميم على باقى المحافظات بعد ذلك.
سألت د.مصطفى مدبولى رئيس مجلس الوزراء عن استعدادات الحكومة لمجابهة تحديات التطبيق على أرض الواقع خلال المرحلة المقبلة؟
أجاب د.مصطفى مدبولي: هذا هو المشروع الحلم الذى يراود الإنسان المصرى منذ 55 عاما وقد بدأ تطبيقه عمليا على الأرض فى الأسبوع الماضى بعد أن استعدت له الحكومة جيدا فى تناغم بين الوزارات المعنية، فالمشروع ليس مجرد مستشفى فقط، وإنما هو منظومة متكاملة يدخل فيها المستشفي، والكوادر البشرية، والتمويل ، والعلاج، مشيرا إلى أن المستشفيات ليست فنادق وإنما هى خدمة طبية، والحكومة وضعت فى اعتبارها جودة المستشفى وجودة الخدمة المقدمة، وكان التركيز الرئيسى على العنصر البشرى من الأطباء والتمريض والكوادر البشرية، وقد تم توفير أعلى معدلات التدريب لإكسابهم الخبرات، فى الوقت نفسه تم توفير مستوى دخل يليق بهم، ويمنعهم من العمل فى جهات أخري، فالتفرغ جزء أساسى من نجاح المشروع، وهناك تفرغ كامل للطواقم البشرية المشاركة فيه لكى يكون هناك تركيز كامل لمصلحة المرضى والمستفيدين من هذا المشروع الضخم.
سألت: هل ستتم الاستفادة من المستشفيات والعيادات والصيدليات الخاصة فى المشروع ضمن ما يعرف بشراء الخدمة؟
أجاب د.مصطفى مدبولى رئيس مجلس الوزراء: هناك تنسيق كامل مع المستشفيات الخاصة يصل إلى حد التوءمة مع المستشفيات الكبرى طبقا للبروتوكولات التى تم توقيعها وطبقا للتعريفة المحددة التى تم اعتمادها لكل خدمة طبية من أجل توفير أفضل خدمة طبية للمواطنين المشاركين فى المشروع، فالهدف هو توفير أفضل خدمة لكل المواطنين وبأعلى جودة ممكنة، وأفضل سعر أيضا.
· وهل تم تدبير التمويل اللازم حتى ينطلق المشروع ويتم استكمال كل مراحله؟
أجاب د.مصطفى مدبولى رئيس مجلس الوزراء: هناك خطة محكمة موضوعة لهذا الغرض، والدولة تقريبا سوف تتحمل ثلثى التكلفة بالكامل من مواردها ومن خلال توفير بند العلاج على نفقة الدولة، وكذلك توفير المبالغ التى يتم صرفها على التأمين الصحى حاليا، وأيضا من الرسوم السيادية المفروضة على السجائر والطرق وغيرها، ويبقى دور المواطن للمشاركة الإيجابية فى هذا المشروع الحيوى من خلال انتظامه فى سداد اشتراكاته المقررة، خاصة أن الحكومة وضعت نظاما للحماية الاجتماعية يكفل سداد اشتراكات غير القادرون، أما القادرين فعليهم الالتزام بدفع الاشتراكات المقررة فى مواعيدها، وإلا فإن غير الملتزم قد يخرج من المنظومة نتيجة عدم التزامه بسداد اشتراكاته المقررة، مشيرا إلى أنه جار الآن البحث عن طرق سداد تلقائية لاشتراكات المستفيدين الراغبين فى الاشتراك فى هذا المشروع حتى لا تتأثر الخدمة بعدم دفع الاشتراكات.
· وماذا عن التغطية الطبية المسموح بها للمشتركين؟
أجاب د. مصطفى مدبولى رئيس مجلس الوزراء: طموح الحكومة لا سقف له فى هذا المشروع القومى الحيوى والذى يتبناه الرئيس عبد الفتاح السيسي، ومن خلال التجربة سوف يتم التقييم وحل المشكلات التى تقع أول بأول، والهدف هو تقديم أفضل خدمة صحية لكل المواطنين طبقا للمستويات القياسية العالمية، ولكل الأمراض دون استثناء، مشيرا إلى أنه سوف يكون هناك ملف طبى لكل مواطن، وسوف تكون هناك متابعة من جانب الكوادر البشرية العاملة فى هذا المشروع للمرضى المستفيدين منه، ونأمل أن نصل فى مرحلة من المراحل إلى إرسال رسالة على "الموبايل" لكل مريض لتذكيره بمواعيد التحاليل الخاصة بحالته، وما تتطلبه حالته من متابعة معينة، ونساعده فى الحجز بالمستشفيات الجاهزة لاستقباله والمواعيد الخاصة بالأطباء الذين يتابعون حالته، وهكذا فالهدف هو تقديم أفضل خدمة للارتقاء بصحة المواطنين وحل مشكلاتهم.
فى الحقيقة إننى لم أكن أتخيل وأنا أشارك فى مؤتمر الشباب منذ عام وبالتحديد فى يوليو العام الماضى وفى جامعة القاهرة، حينما أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسى عن إطلاق مشروع التأمين الصحى الشامل وتكليف الحكومة به أن يتم التنفيذ بهذه السرعة، وبهذا المستوى الذى تحدث به د. مصطفى مدبولى رئيس مجلس الوزراء ليقترب من أحدث مشروعات الرعاية الصحية فى الدول المتقدمة التى سبقتنا فى هذا المجال، ويقضى على تعددية النظم التأمينية ومشكلاتها.
ولأن الإعداد الجيد لأى مشروع هو سبب مهم من أسباب النجاح فقد سبق إطلاق ـ مشروع التأمين الصحى الشامل، إطلاق عدة مشروعات للرعاية الصحية منها ما يتعلق بالقضاء على قوائم الانتظار للمرضى فى المجالات الصحية المختلفة، خاصة أمراض القلب والأورام والعمليات الجراحية، ومنها ما يتعلق بالقضاء على فيروس "سي" الذى كان واحدا من أخطر الأمراض التى تفتك بصحة المصريين، وتم ترويضه لتصبح مصر نموذجا للعالم كله فى هذا المجال، وقريبا سوف يتم الاحتفال بالقضاء نهائيا على ذلك الفيروس اللعين وإعلان خلو مصر منه نهائيا، كما أنه تم أيضا إطلاق مبادرة 100 مليون صحة للقضاء على الأمراض السارية وفيروس "سي" وكلها مشروعات مهدت الطريق لنجاح مشروع التأمين الصحى، وتخفيف الضغط عليه فى مراحل تطبيقه الأولى.
لقد بدأت مصر تجرية التأمين الصحى عام 1964 حينما تم تطبيق نظام التأمين الصحى على موظفى الحكومة والمؤسسات العامة ووحدات الإدارة المحلية، وكذلك تطبيق هذا النظام على العاملين بالقطاعين العام والخاص، وكان هناك ازدواج فى التطبيق بين الهيئة العامة للتأمين الصحي، والهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية، ثم صدر القرار الجمهورى بنقل مسئولية الهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية فيما يخص تطبيق نظام التأمين الصحى إلى الهيئة العامة للتأمين الصحي، واستمر الأمر على هذا النحو حتى عام 1975 حيث صدر قانون خاص للتأمين الاجتماعي، وأضاف إصابات العمل لمنظومة التأمين الصحي، وكذلك أضاف أصحاب المعاشات مقابل 1% من المعاش الشهرى لصاحب المعاش، و2% من معاش الأرملة فقط بدون حصة صاحب العمل.
فى عام 1992 صدر القانون 99 لتطبيق التأمين الصحى على طلاب جميع المراحل التعليمية من رياض الأطفال حتى المرحلة الثانوية، وقد ظل هذا النظام هو الأفضل فى النظم العلاجية التأمينية لتوافر موارد تمويلية له من الاشتراكات السنوية، ودعم الخزانة العامة، ومساهمات الطلبة فى العلاج، والرسوم المفروضة على علب السجائر.
فى عام 1997 صدر قرار وزير الصحة رقم 380 لسنة 1997 بشأن تطبيق نظام التأمين الصحى على الأطفال منذ لحظة الولادة وحتى سن المدرسة.
هكذا كانت هناك عدة نظم تأمينية وعلاجية مختلفة، كل منها له مشاكله الخاصة ونظم علاجه ورسومه المختلفة عن النظم الأخرى، وجميعها اشتركت فى المشكلات التى يعانيها المرضى والمستفدون من هذه النظم، حيث كان المرضى ولايزالون يعانون أشد المعاناة من سوء المعاملة، وتكدس المستشفيات، وطوابير الانتظار الطويلة، وعدم تفرغ الأطباء، ونقص جودة الخدمة الطبية المقدمة إلى المستفيدين، مما جعل أعدادا كبيرة من هؤلاء المستفيدين يتجنبون اللجوء إلى التأمين الصحى إلا للضرورة القصوي، ودون ذلك يفضلون البحث عن علاج لأمراضهم بطريقتهم الخاصة.
المشكلة الآن أن العلاج أصبح مكلفا للغاية نتيجة ارتفاع أسعار الأدوية والمستلزمات الطبية، وأصبح من الصعب على أحد ـ غنيا كان أم فقيرا ـ تحمل تكاليف العلاج خاصة إذا كان يعانى من الأمراض المزمنة، أو يحتاج إلى إجراء جراحة كبرى مثل عمليات القلب أو استئصال الأورام، أو زرع الكبد أو الكلى وغيرهما من العمليات الجراحية التى تحتاج إلى تكاليف مرتفعة، ومتابعة دائمة بعد ذلك تتطلب هى الأخرى تكلفة مرتفعة لا يقدر عليها إلا قليلون.
ارتفاع تكاليف العلاج ليس خاصا بمصر ولكنه ظاهرة عالمية، لذلك كان الاتجاه العالمى هو البحث عن مظلة للرعاية الصحية التأمينية تغطى هذه التكاليف، وهو ما حدث فى العديد من دول العالم، وكما حدث فى الولايات المتحدة الأمريكية حينما تبنى الرئيس السابق باراك أوباما مشروعا للرعاية الصحية أطلق عليه "أوباما كير" وأطلقه عام 2010 لتقديم رعاية صحية شاملة للأمريكيين بدلا من شركات التأمين الخاصة، ومن خلاله يتم الالتزام بتقديم خدمات التأمين الصحى لكل الأمريكيين بأسعار معقولة، ويضم كل الأشخاص والأفراد بمن لديهم أمراض خطيرة.
هذا المشروع مازال من أهم إنجازات الرئيس الأمريكى السابق رغم كل محاولات ترامب لعرقلته أو إدخال تعديلات عليه كما حدث فى مشروع الرعاية الصحية الأمريكية الجديد.
ولأن مشكلات الرعاية الصحية فى مصر قد تفاقمت مؤخرا فقد التزم الرئيس عبدالفتاح السيسى فى بداية ولايته الثانية بحل مشكلاتها والنهوض بها ضمن منظومة رعاية الإنسان المصرى تعليميا وصحيا وثقافيا، وتنفيذا لما التزم به تم إطلاق مشروع التأمين الصحى الشامل لتغطية كل المواطنين فى مصر صحيا وعلى أعلى مستوى خلال فترة زمنية محددة وطبقا لجدول زمنى لتغطية كل محافظات مصر جغرافيا، لأن التغطية الجغرافية تتضمن التغطية الشاملة لكل مواطنى الإقليم أو المحافظة بغض النظر عن فئاتهم العمرية أو أوضاعهم الوظيفية أو المعيشية، ومن المقرر أن تشهد المرحلة الأولى تغطية 5 محافظات هى محافظات القناة الثلاث (بورسعيد والسويس والإسماعيلية) بالإضافة إلى محافظتى شمال وجنوب سيناء.
البداية انطلقت فى بورسعيد كمشروع تجريبى وفتحت المراكز والوحدات الصحية أبوابها لتسجيل كل المواطنين الراغبين طبقا للقانون الجديد والذى سيحل بدلا من القانون السابق، ويقوم بتغطية كل أفراد الأسرة وتغطية جميع الأمراض والجراحات بما فيها الجراحات الكبرى للقلب والمخ وزراعة القوقعة والأورام وغيرها من الأمراض مهما تكن تكاليف علاجها، ليتحول حلم الرعاية الصحية المتكاملة الذى انطلق منذ 55 عاما إلى حقيقة واقعة الآن.