السفينة الإفريقية تنطلق من نهر النيجر... بقلم: عبدالمحسن سلامة


توقفت طويلا أمام تصريح الرئيس عبدالفتاح السيسى خلال رئاسته للقمة التنسيقية الأولى للاتحاد الإفريقى بالنيجر حينما قال: «اتفاقية التجارة الحرة القارية هى السفينة التى تحمل معها جميع الدول الإفريقية دون استثناء من أجل تحقيق المنفعة المشتركة».

تذكرت رواية "الجذور" التى قرأتها مبكرا للمؤلف الأمريكى أليكس هيلى والتى تحكى مزيجا من الوقائع الحقيقية والخيالية عن تجارة العبيد، وإلقائهم فى البحر ليصبحوا طعاما للأسماك، وقصة بطلها "كونتا كينتي" القادم من جامبيا الذى يرمز إلى مأساة ملايين العبيد من أبناء القارة السمراء، كما تذكرت أيضا حملات الجيوش الاستعمارية التى جاءت إلى إفريقيا تستنزف ثرواتها وتستعبد أهلها لعقود طويلة مريرة.

للأسف الشديد وطيلة عقود وربما قرون كان "خير إفريقيا لغيرها" كما يقولون.. تارة بالاستعمار المباشر الذى جثم على أنفاس الدول الإفريقية عقودا طويلة، وتارة أخرى من خلال استغلال الدول الكبرى للثروات الطبيعية الإفريقية دون مقابل غالبا، وبمقابل زهيد أحيانا، وظل هذا الحال طويلا حتى بدأت محاولات متفرقة لإيجاد تجمعات اقتصادية إفريقية مثل الكوميسا، واتحاد المغرب العربى، والساحل والصحراء، وغيرها من التجمعات الإفريقية التى قطعت شوطا لا بأس به فى التعاون الاقتصادى المشترك مثل منظمة "الكوميسا" التى يشارك فيها 21 دولة إفريقية، وهو التجمع الاقتصادى الأكبر فى إفريقيا حيث يبلغ عدد سكان الدول المشاركة فيه حوالى 550 مليون نسمة، فى حين يبلغ الناتج المحلى الإجمالى لدول الكوميسا 768 مليار دولار، وتم البدء فى تطبيق الإعفاءات الجمركية على الواردات على أساس مبدأ المعاملة بالمثل اعتبارا من سنة 1999 للسلع التى تصاحبها شهادة منشأ معتمدة من الجهات المعنية بكل دولة، كما قامت 15 دولة من بين الدول الموقعة على الاتفاقية بتطبيق الإعفاء التام على السلع المتبادلة فيما بينها، فى حين تقوم 3 دول هى إثيوبيا، وأوغندا، وأريتريا بتطبيق تخفيض نسبى، ولم يتبق سوى الكونغو الديمقراطية، وإسواتينى "سوازيلاند سابقا" اللتين لم تطبقا الإعفاءات بعد فى إطار المهلة الممنوحة لهما.

اتفاقية التجارة الحرة القارية التى تم تدشينها وإطلاقها فى القمة الاستثنائية الأخيرة بالنيجر هى الاتفاقية الموحدة لكل دول القارة ولا تتعارض مع الاتفاقيات الثنائية أو الجماعية الأخرى، وقد بلغ إجمالى الدول الموقعة على اتفاقية التجارة الحرة القارية الإفريقية 54 دولة، وأقرت برلمانات 27 دولة منها الاتفاقية لتدخل حيز التنفيذ فعليا وبذلك تم تدشين أكبر منطقة تجارة حرة على مستوى العالم بما تحتويه من 1.2 مليار نسمة، ومن المتوقع زيادة عدد مستهلكيها إلى 2.5 مليار نسمة بحلول 2050.

مشكلات إفريقيا قديمة ومتراكمة وتحتاج إلى جهود جبارة لاستكمال مشوار التعاون فى إطار أجندة التنمية 2063، فلاتزال هناك عوائق ضخمة أمام حركة التجارة، وحركة الأشخاص، وحتى الآن لاتزال هناك دول كثيرة لا تربطها وسائل نقل أو طيران مباشر بجيرانها من الدول الإفريقية، ويضطر المسافر الإفريقى أحيانا إلى الذهاب إلى دولة أوروبية أو آسيوية للعودة مرة أخرى إلى الدولة الإفريقية التى يرغب فى السفر إليها، ومن المتوقع أن تدفع اتفاقية التجارة الحرة القارية التى تم إطلاقها فى قمة النيجر الأخيرة إلى الإسراع بحل مثل هذه المشكلات والتغلب عليها فى إطار مشروع متكامل للربط بين الدول الإفريقية برا وبحرا وجوا، وتحقيق حلم القطار الإفريقى الذى ينطلق من القاهرة فى مصر إلى كيب تاون فى جنوب إفريقيا.

ولأن إفريقيا هى المارد القادم بشريا واقتصاديا فهناك اهتمام كبير بها من كل القوى الدولية، وبدأت الدول الكبرى فى العالم تسعى حثيثا للتقارب مع القارة السمراء من خلال الاتفاقيات الثنائية أو الجماعية، ولأول مرة بدأت تلك الدول تحرص على عقد قمم مشتركة مثل القمة الصينية ـ الإفريقية، والقمة الألمانية ـ الإفريقية، والفرنسية ـ الإفريقية، واليابانية ـ الإفريقية، وقريبا القمة الروسية ـ الإفريقية، وغيرها من القمم التى تسعى من خلالها الدول الكبرى إلى تدعيم الروابط الاقتصادية بينها وبين الدول الإفريقية فى إطار مؤسسى دائم تسعى من خلاله للنفاذ إلى أسواق القارة والاستفادة من قاعدة المستهلكين الضخمة فى إفريقيا، وكذلك الاستفادة من الموارد الطبيعية والثروات الهائلة لدول القارة.

الأمر المؤكد أن الدول الكبرى تريد استمرار استيراد المواد الخام الإفريقية وإعادتها مرة أخرى بعد تصنيعها إلى الأسواق الإفريقية، وكذلك الاستفادة من الأيدى العاملة الإفريقية الرخيصة، ومن هنا تبرز أهمية إطلاق منطقة التجارة الحرة القارية لزيادة حجم التجارة البينية الإفريقية من 17% إلى 60% بحلول 2022، وتقليص السلع المستوردة من خارج القارة بشكل رئيسى، بالإضافة إلى دعم وبناء القدرات التصنيعية والإنتاجية، وتعزيز مشروعات البنية التحتية بالقارة الإفريقية.

توقيع 54 دولة إفريقية ـ من أصل 58 دولة هى مجموع دول القارة ـ إنجاز ضخم حقيقى، كما أن تصديق برلمانات 27 دولة على تلك الاتفاقية يؤكد المعنى نفسه، ويشير إلى الوعى الإفريقى العام بأهمية هذه الاتفاقية التى تقوم بإلغاء القيود المفروضة على حرية التجارة أمام الدول الموقعة، والإلغاء التدريجى للحواجز الجمركية وغير الجمركية التى تعترض حركة التجارة فى السلع والخدمات لتكون هذه الإجراءات هى البداية لإنشاء الاتحاد الجمركى الإفريقى وتطبيق التعريفة الجمركية الموحدة تجاه واردات إفريقيا من الخارج.

أعتقد أن توقيع اتفاقية التجارة الحرة فى النيجر فى الأسبوع الماضى هو ثانى أهم حدث فى تاريخ القارة بعد الحدث الأول وهو تحويل منظمة الوحدة الإفريقية إلى الاتحاد الإفريقى عام 2002، وهو الحلم الذى كان يتمناه كل أبناء القارة السمراء، وتحول إلى حقيقة وكان له العديد من الآثار الإيجابية على دول وشعوب القارة، لكن مازال المشوار طويلا لكى يصل الاتحاد الإفريقى إلى ما وصل إليه الاتحاد الأوروبى من وحدة اقتصادية، وحرية فى الحركة والتنقل، وتأشيرة موحدة، إلا أنه أمام إصرار الشعوب الإفريقية والجيل الجديد من القادة بدأ الاتحاد الإفريقى يخطو خطوات هائلة فى أوقات قياسية، وهو ما حدث فى اتفاقية التجارة الحرة الإفريقية التى تعد علامة فارقة فى مسيرة الاندماج الإقليمى فى القارة الإفريقية، وتعد أهم أدوات التكامل القارى بما يتماشى مع أهداف معاهدة أبوجا، وتطلعات أجندة 2063.

على الجانب الآخر فإن مصر كانت من أوليات الدول التى كانت تدفع بقوة للتكامل الاقتصادى والسياسى الإفريقى ولعب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر دورا محوريا فى هذا الإطار بمساندته لكل حركات التحرر الإفريقية، ووضع كل الإمكانات المصرية الاقتصادية والتعليمية لخدمة الأشقاء الأفارقة.

بعد وفاة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر شهدت العلاقات المصرية الإفريقية مرحلة من التذبذب والصعود والهبوط حتى تولى الرئيس عبد الفتاح السيسى مقاليد الحكم فى مصر وعادت مصر بقوة إلى محيطها الإفريقى سياسيا واقتصاديا وارتفع حجم التبادل التجارى بين مصر والدول الإفريقية بنسبة 23% ليصل إلى 6٫9 مليار دولار عام 2018 مقارنة بـ 5٫6 مليار دولار عام 2017، كما ارتفعت قيمة الصادرات والواردات المصرية الإفريقية بنسبة كبيرة، حيث ارتفعت الصادرات المصرية إلى إفريقيا بنسبة 27% لتصل إلى 4٫7 مليار دولار عام 2018 مقارنة بـ 3٫7 مليار دولار عام 2017، كما ارتفعت الواردات المصرية من إفريقيا بنسبة 15% لتصل إلى 2,14 مليار دولار عام 2018 مقارنة بـ 1٫86 مليار دولار عام 2017.

تعتبر الجزائر وليبيا وتونس والسودان هى أكبر الدول المستقبلة للصادرات المصرية فى حين أن الجزائر، وكينيا، وزامبيا، والسودان، وجنوب إفريقيا هى أكبر الدول المصدرة إلى مصر.

تحتل مصر المرتبة الأولى من بين أكبر عشر اقتصادات إفريقية بحسب الناتج المحلى الإجمالى تليها نيجيريا ثم جنوب إفريقيا، كما أن مصر هى الأولى إفريقيا فى جاذبية الاستثمار المباشر وفقا لبيانات بنك راند ميرشانت عام 2018 تليها جنوب إفريقيا ثم المغرب، ثم إثيوبيا.

رئاسة مصر الاتحاد الإفريقى جعلتها تدفع بكل قوة للإسراع بالتكامل الاقتصادى للقارة السمراء التى تزخر بالعديد من الإمكانات والمقومات، حيث تمتلك 10% من الاحتياطات النفطية فى العالم، و8% من احتياطات الغاز، و30% من احتياطات المعادن، كما أنها تمتلك مساحات هائلة من الأراضى الخصبة القابلة للزراعة، وبها موارد مائية هائلة تجعلها تصلح أن تكون سلة غذاء العالم كله.

أخيرا ينام كونتا كينتى فى مرقده مستريحا بعد أن تحقق حلمه وانتصر أبناء قارته على جلاده وانطلقت سفينة الخير والنماء للقارة الإفريقية من العاصمة نيامى الواقعة على الضفة الغربية لنهر النيجر، من أجل تحقيق المنفعة المشتركة لكل شعوب القارة أولا وللبشرية كلها ثانيا.

Back to Top