ما بين الحياة والموت فى الوادى والدلتا
بقلم: عبدالمحسن سلامة
ليست القصة مبانى وطرقا، وإنما هى إرادة الحياة والانطلاق لشعب ضاقت به الأرض رغم اتساعها بسبب ثقافة الازدحام والعشوائية التى سادت عقودا طويلة، وهو ما أدى إلى تكدس 100 مليون فى المساحة نفسها التى كان يقطنها 25 مليونا وربما أقل، بعدما زاد عدد السكان أربعة أو خمسة أضعاف فى حين ظلت مساحة الأراضى المعمورة هى المساحة نفسها التى تتراوح ما بين 6 و 7% من إجمالى مساحة مصر، ومن ثم كان من المستحيل أن تكفى هذه المساحة لتلبية متطلبات دولة عصرية حديثة بما تحتاجه من مشروعات صناعية وزراعية وعلمية وتعليمية وسكانية. فرق ضخم بين المعمور والمعمار، فالمساحة المعمورة هى المساحة الموجود عليها جميع الأنشطة الحياتية، من زراعة وصناعة ومدارس وجامعات ومساكن، أما المعمار فالمقصود به إنشاء المساكن اللازمة للسكن، ومن هنا يحدث الخلط لدى الكثيرين عما يحدث فى مصر الآن. للأسف الشديد هناك خلط فى المفاهيم لدى البعض، واختزال ما يحدث من نمو عمرانى ضخم فى إنشاء مساكن وطرق فقط، ورغم أهمية المساكن والطرق لأى نهضة، فإن هذا الوصف هو تبسيط مخل يشوبه عدم الوعى والإدراك لأخطر مشكلة واجهت الدولة المصرية أخيرا، وهى عدم كفاية المساحة المعمورة لأى حركة تنمية اقتصادية قادرة على تلبية احتياجات مجتمع ينمو بمعدلات مرتفعة تصل إلى 3.5%، ويعيش فى مساحة ضيقة على ضفاف النيل وطول قناة السويس، وهو ما جعل هذه المناطق من أكثر مناطق العالم اكتظاظا بالسكان، حيث يعيش على كل "كم2" نحو 1,540 شخصا. وكشف تقرير إحصائى حديث، صادر عن الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء ، أن تعداد سكان مصر حاليا، البالغ أكثر من 100 مليون نسمة، قد تضاعف 40 مرة تقريبا عن تعداد الدولة قبل 200 عام من الآن، حيث كان عدد سكان مصر فى 1819 نحو 2.5 مليون نسمة فقط. تضاعف عدد السكان أكثر من 40 ضعفا، ومع ذلك ظلوا يعيشون على المساحة نفسها تقريبا، أو بزيادة طفيفة لا تزيد على 1 أو 2% فى أحسن الأحوال. من الطبيعى فى ظل هذه الزيادة الضخمة أن تنهار الموارد الاقتصادية، وتتحول أجود الأراضى الزراعية إلى كتل أسمنتية، لاستيعاب الزيادة السكانية، وبعد أن كانت هناك حدائق ومزارع على أطراف القاهرة، وكانت الأراضى الزراعية هى الأصل فى كل المحافظات، والاستثناء هو المباني، تحولت أطراف القاهرة إلى عشوائيات، وتحولت الزراعات إلى مبان وكتل خرسانية صماء، وأصبح الطريق الزراعى الممتد من القاهرة إلى الإسكندرية مسمى فقط، وحاصرته المبانى والعشوائيات من كل جانب، حتى فقد صلاحيته تماما كطريق كان يسمى "لطريق الزراعى السريع"، وأصبح الآن لا هو "زراعيا" ولا "سريعا"، رغم كل محاولات العلاج. فى ظل هذا التشويه الضخم، وضيق المساحة المعمورة، كانت هناك إرهاصات وأفكار مثل التى أطلقها العالم المصرى الشهير د. فاروق الباز حينما تقدم بمقترح لإنشاء محور جديد للتنمية، أطلق عليه "ممر التنمية والتعمير" فى الصحراء الغربية منذ سنوات، بغرض إنشاء مجموعة من الطرق والممرات تمتد من ساحل البحر المتوسط شمالا حتى بحيرة ناصر فى الجنوب، وعلى مسافة تتراوح بين 10 و80 كيلو مترا غرب وادى النيل، وهو ما يفتح آفاقا جديدة للامتداد العمرانى والزراعى والتجارى حول مساحة تصل إلى 2000 كيلو متر. فكره عبقرية ظلت حبيسة الأدراج، تظهر أحيانا وتختفى كثيرا دون خطوات ملموسة للاستفادة منها أو تطويرها، أو الإضافة إليها والحذف منها، إذا لزم الأمر. حدث ذلك باختصار، لأنه لم تكن هناك إرادة سياسية حقيقية ترغب فى دخول هذه النوعية من المشروعات الطويلة الأمد، التى تستهدف الأجيال القادمة، حتى بدأت ولاية الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذى وضع إستراتيجية مستدامة للتنمية 2030، إلى جوار المخطط الإستراتيجى القومى للتنمية العمرانية لمصر 2052. فى المخطط الإستراتيجى القومى للتنمية العمرانية (مصر 2052) كانت بداية تنفيذ حلم التوسع العمراني، ومضاعفة مساحة المعمور المصرى من نحو 7% إلى نحو 14%، من خلال تنفيذ سلسلة من المدن الجديدة بلغت حتى الآن 14 مدينة جديدة، يتم تنفيذها وإضافة مساحات كبيرة من الأراضى للمشروعات الصناعية والزراعية، إلى جوار توفير وحدات سكنية لجميع الشرائح الاجتماعية، بدءا بشريحة الشباب ومحدودى الدخل ومرورا بمختلف الشرائح الاجتماعية الأخري. التقيت د. عاصم الجزار، وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، وعلى مدى ما يقرب من ساعتين استمعت منه إلى رؤية متكاملة لما يحدث فى مصر الآن، من نقلة حضارية غير مسبوقة للتنمية العمرانية والاقتصادية الشاملة، فهل يمكن لشعب تضاعف عدد سكانه أكثر من 40 مرة أن يعيش، وأن تزيد موارده الاقتصادية، وأن يتوسع زراعيا وصناعيا إذا استمر على هذا الوضع الصعب والمعقد؟! الإجابة معروفة وواضحة، فلا بديل عن التوسع ومضاعفة المساحة المعمورة، وكانت الإرادة السياسية وراء التأجيل دائما حتى توافرت فى ظل وجود الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذى عزم على اقتحام المشكلة، وقرر البدء فورا فى تنفيذ المخطط الإستراتيجى القومى للتنمية العمرانية، ومضاعفة مساحة المعمور فى مصر، لكى تكون هناك فرص حقيقية أمام التوسع الزراعى والصناعى والتعليمى والعمراني. لقد فجر وزير الإسكان مفاجأة ضخمة بالنسبة لى على الأقل ــ حينما أشار إلى أنه تمت الاستفادة من مشروع د. فاروق الباز، من خلال إنشاء 14 محورا عرضيا جديدا للتنمية، وإنشاء الـ 14 مدينة جديدة، والخروج إلى مناطق تنمية جديدة، بحيث تكون تلك المدن هى المحطة الأولى اللازمة لتنفيذ حلم د.الباز، فى إطار تنفيذ إستراتيجية مصر 2052 كنقلة حضارية متكاملة للمجتمع المصري.
مضاعفة المساحة المعمورة باختصار، بحسب رؤية د. عاصم الجزار، هى طفرة اقتصادية وعمرانية متكاملة، فلن توجد صناعة أو زراعة أو منشآت تعليمية إلا حينما تتوافر المساحات والظروف والبنية التحتية اللازمة، من طرق وكبارى وأنفاق وصرف صحى ومياه شرب وغيرها، وهذا هو الجزء الأهم فى المشهد كله، الذى يختصره البعض ـ للأسف الشديد ـ فى اختزال مخل بأنه فقط طرق وكباري. من جهة أخري، يلقى د. الجزار الضوء على المخطط الإستراتيجى القومى للتنمية العمرانية بوصفه "خريطة الطريق" التى يسير عليها الوطن، والوثيقة التى تضم جميع المشروعات القومية الكبرى التى يتم تنفيذها حاليا فى مختلف المجالات، منها ما يتعلق بحل أزمة الكثافة السكانية، وإنشاء الـ 14 مدينة جديدة، ومنها ما يتعلق بمضاعفة حجم شبكات المرافق والخدمات، وخلال السنوات الأربع الماضية زادت تغطية مياه الشرب فى المناطق الريفية إلى 98%، وخدمة الصرف الصحى بالحضر إلى 64% والريف إلى 34%، وهو ما يزيد على ضعف خدمة الصرف الصحى التى قدمت من قبل للمناطق الريفية، مشيرا إلى أن الشباب ومحدودى الدخل كان لهم النصيب الأكبر فى مشروعات الإسكان، حيث تم تنفيذ ما يقرب من 800 ألف وحدة بمشروع الإسكان الاجتماعى بأسعار تتناسب مع شريحتهم وموزعة على المدن العمرانية الجديدة. سألته عن معدلات التنفيذ بالعاصمة الإدارية الجديدة ومستقبل القاهرة؟ أجاب وزير الإسكان قائلا: هناك خلط مفاهيم كبير فى ذلك الأمر، فالعاصمة الإدارية الجديدة لا تعنى الاستغناء عن القاهرة، بل على العكس ستكون لمصر مدينتان تشكلان عاصمتها الأولى العاصمة الإدارية للسياسة والمال والأعمال، والثانية القاهرة للحضارة والسياحة والتراث والثقافة والفنون، ومعا تشكلان عاصمة مصر. ومن هذا المنطلق، فإن هناك جهودا حثيثة وعملا دؤوبا لإعادة البريق إلى القاهرة، وإزالة المناطق العشوائية منها، وتطوير المناطق التاريخية، مثلما يحدث فى مثلث ماسبيرو الآن. كما أنه يجرى أيضا تنفيذ مشروع ضخم، لتطوير سور مجرى العيون، ومشروع آخر فى منطقة السيدة زينب، وإقامة أكبر منطقة للمأكولات الشعبية خلف "تل العقارب"، وسويقة "المواردي"، بحيث ستنشأ سلسلة من المطاعم التقليدية تكون مزارا للمواطنين والسائحين معا. وأشار إلى أن ما يحدث الآن فى القاهرة هو مخطط كامل لإعادة البريق والحيوية إليها، بعد أن "شاخت"، بسبب الإهمال واللامبالاة، حتى تكون متألقة كما كانت من قبل. على الجانب الآخر، فإن معدلات التنفيذ فى العاصمة الإدارية الجديدة تسير بأكثر من معدلاتها الطبيعية، بحيث تصبح نقلة حضارية للمجتمع المصرى كله، فهى مدينة حديثة وذكية تلبى الاحتياجات الضرورية لمجتمعات المال والأعمال والإدارة ومستلزمات الحكومة العصرية، لتكون هى القاطرة والنموذج لجميع المدن المصرية بعد ذلك، وبعدها يتم تطوير وتحديث كل المدن القديمة على غرار العاصمة الإدارية الجديدة، فى إطار المخطط الإستراتيجى القومى للتنمية العمرانية. الخلاصة، أن ما يحدث فى مصر الآن هو ثورة حقيقية متكاملة بكل معنى الكلمة، ستسهم فى إحداث نقلة نوعية هائلة على مختلف الأصعدة السكانية والاقتصادية والاجتماعية، وتفتح الباب على مصراعيه أمام زيادة الاستثمارات فى كل المجالات، وتوفير فرص العمل، وزيادة معدلات النمو الاقتصادي، بما يؤدى فى النهاية إلى مضاعفة إجمالى الناتج المحلى القومي، والقضاء على البطالة، بعد أن تتسع الأرض، وتصبح قادرة على استيعاب السكان الحاليين والأجيال القادمة.