الدب الروسى يقتحم الغابة الإفريقية
بقلم: عبدالمحسن سلامة
ظل الدب الروسى هو الملك غير المتوج للغابة الإفريقية طوال فترة وجود الاتحاد السوفيتى القديم، حيث ارتبطت معظم الدول الإفريقية بالاتحاد السوفيتى منذ اندلاع ثورات التحرر الإفريقية، وانتعاش الأفكار الاشتراكية، واقتناع معظم القادة الأفارقة بهذه الأفكار وارتباطهم بها بشكل مباشر أو غير مباشر.
بعد ذلك نشأت فكرة مجموعة دول عدم الانحياز فى مؤتمر باندونج الشهير فى إندونيسيا إبريل 1955 بحضور 29 دولة آسيوية وإفريقية كانت قد استقلت حديثا عن تلك الدول التى استعمرتها طويلا، وقررت هذه الدول المستقلة انتهاج سياسة دولية مشتركة تجمع فيما بينها، ووضعت ما يسمى مبادئ باندونج العشرة.
بعدها عقد أول مؤتمر لمجموعة عدم الانحياز فى العاصمة اليوغسلافية بلجراد في عام 1961 بمشاركة 25 دولة، وكان نجوم هذا المؤتمر الثلاثى الأشهر فى العالم آنذاك: عبدالناصر فى مصر، ونهرو فى الهند، وتيتو فى يوغسلافيا.
كانت الأهداف الرئيسية للحركة تتلخص فى حق تقرير المصير للشعوب، ودعم الاستقلال الوطنى والسيادة والسلامة الاقليمية للدول، ومعارضة الفصل العنصرى، وعدم الانتماء لأحلاف وتكتلات عسكرية متعددة الأطراف.
لعبت مصر بقيادة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر دورا محوريا فى تأسيس الحركة، وازدهارها، واستضافت قمتها الثانية عام 1964، وكانت تلك القمة بمثابة نقلة ضخمة للحركة التى اتسع نشاطها وازداد عدد الدول التى انضمت إليها حتي بلغت ما يقرب من 118 دولة تنتمى إلي قارات العالم المختلفة ومنها إفريقيا، وآسيا، وأوروبا، وأمريكا اللاتينية.
كانت الدول الإفريقية ـ ومازالت ـ رقما مهما فى تلك الحركة بفضل جهود الرئيس الراحل جمال عبدالناصر الذى احتضن حركات التحرر الإفريقية ووقف خلفها داعما ومساندا حتى نالت معظم الدول الإفريقية استقلالها بعد معاناة طويلة من الحقبة الاستعمارية.
بغض النظر عن اسم الحركة إلا أن معظم الدول الأعضاء بها ومن بينها الدول الإفريقية ارتبطت ـ آنذاك ـ بالاتحاد السوفيتى ارتباطا وثيقا فى المجالات السياسية والاقتصادية، وإن لم تنضم فى احلاف عسكرية أو سياسية معلنة، لكن التوافق في الرؤى والمصالح خلق علاقات متشعبة بين الاتحاد السوفيتى وبين معظم هذه الدول وعلى الأخص الدول الإفريقية.
ظلت العلاقات الإفريقية ـ السوفيتية قوية ومتوهجة طوال وجود الاتحاد السوفيتى، إلا أنه وبعد انهياره في 26 ديسمبر عام 1991اختلف الوضع كثيرا بعد أن دخلت روسيا الوريث الشرعى للاتحاد السوفيتي فى حالة كمون داخلى طوال فترة حكم بوريس يلتسين، إلى أن ظهر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذى تولى قيادة روسيا منذ عام 2000، ليستعيد الدب الروسى قوته وبريقه مرة أخرى، محاولا استعادة مناطق نفوذه فى العالم ومن بينها القارة الإفريقية.
ولأن القارة الإفريقية هي قارة "بكر" فقد أصبحت من أهم مناطق الجذب فى العالم، ولعل تكالب أقطاب العالم على طرق أبوابها والدخول معها فى "مشاركات" مختلفة يؤكد نقاط القوة التى تتمتع بها، وتجعلها مصدر جذب لكل القوى الرئيسية فى العالم.
قبل القمة الروسية ـ الإفريقية كانت هناك قمم عديدة جمعت إفريقيا مع أمريكا، وفرنسا، وألمانيا، والاتحاد الأوروبى، وأخيرا مع اليابان "التيكاد 7" التى عقدت فى شهر أغسطس الماضي.
أعتقد أن هذه القمم كانت دافعا قويا لروسيا لعقد القمة الروسية ـ الإفريقية الأولى في محاولة منها لاستعادة نفوذها ودورها فى القارة السمراء، خاصة أن هناك "حنينا" من ابناء القارة تجاه روسيا لمواقفها الداعمة للدول الإفريقية طوال فترة طويلة من تاريخها.
ولأن مصر هى رئيس الاتحاد الإفريقى فقد طرح الرئيس عبد الفتاح السيسى رؤية القارة الإفريقية لدعم الشراكة الروسية ـ الإفريقية خلال المرحلة المقبلة من خلال عدة مسارات أهمها:
الأول: تعزيز التعاون بين الدول الإفريقية وروسيا بما يسهم فى دفع مسيرة التنمية الإفريقية وفقا لرؤية أجندة الاتحاد الإفريقى التنموية 2063.
الثاني: الاستفادة من التجربة الروسية الناجحة التى تعكس إرادة صلبة وقدرة على العمل والانجاز بما يؤدى إلى تعزيز قدرات وامكانات الدول الإفريقية وأولوياتها ومشروعاتها.
الثالث: دعوة جميع مؤسسات القطاع الخاص، والشركات الروسية، والعالمية، ومؤسسات التمويل الدولية، للتعاون والاستثمار فى إفريقيا بما يحقق لشعوب القارة أحلامها باللحاق بركب التقدم والتحديث والتنمية المستدامة.
الرئيس عبد الفتاح السيسي أشار أيضا إلى أن الدول الإفريقية قطعت شوطا طويلا من الإصلاحات الاقتصادية والسياسية، واتخاذ العديد من الخطوات الضرورية اللازمة لتحقيق عملية الاندماج الاقتصادي الاقليمى والقارى وآخرها دخول الاتفاقية القارية الإفريقية للتجارة الحرة حيز التنفيذ خلال قمة الاتحاد الإفريقى بالنيجر فى يوليو الماضى.
كل الخبراء اكدوا أن دخول هذه الاتفاقية حيز التنفيذ يجعل القارة الإفريقية هى المارد الاقتصادى المقبل لأنها جعلت من دول الاتحاد الإفريقى أكبر منطقة تجارة حرة على مستوى العالم بما تحتويه من 1.2 مليار نسمة، من المتوقع أن يتضاعف هذا الرقم إلي 2.5 مليار نسمة بحلول 2050.
اطلاق منطقة التجارة الحرة القارية سوف يؤدى إلى زيادة حجم التجارة البينية الإفريقية من 17% إلى 60% بحلول 2022 بعد أن قامت 54 دولة إفريقية من أصل 58 دولة هى مجموع دول القارة بالتوقيع على الاتفاقية، وهو انجاز ضخم يشير إلى زيادة الوعى الإفريقى العام بأهمية هذه الاتفاقية التى تؤدى إلى إلغاء القيود المفروضة على حرية التجارة بين الدول الموقعة عليها، والالغاء التدريجى للحواجز الجمركية وغير الجمركية والتى تعترض حركة التجارة فى السلع والخدمات، وذلك فى اطار الخطوات اللازمة لانشاء الاتحاد الجمركى الإفريقى، وتطبيق التعريفة الجمركية الموحدة.
أعتقد أن إفريقيا بعد اتفاقية التجارة الحرة القارية ليست كما قبلها، لأنه أصبح هناك لغة موحدة للقارة الإفريقية تستطيع أن تتعامل بها مع كل الشركاء الأجانب، وهو الحلم الذى كان يتمناه كل أبناء القارة، وتحول إلى حقيقة، غير أن الأمر مازال يحتاج إلى الكثير من الجهد والوقت لتذليل العقبات التى تعترض خطوات التنفيذ قبل أن يصل الاتحاد الإفريقى إلى ما وصل إليه الاتحاد الأوروبى حاليا فى مجالات حرية الحركة والتنقل، والتأشيرة الموحدة، والتعريفة الجمركية الموحدة وغيرها من الخطوات المصاحبة لتوقيع هذه الاتفاقية الحيوية والاستراتيجية.
على الجانب الآخر فإن روسيا تريد أن تستعيد مكانتها القديمة في القارة، وهو ما دعا الرئيس فلاديمير بوتين إلى المطالبة بضرورة مضاعفة حجم التجارة الروسية ـ الإفريقية خلال المرحلة المقبلة، وأخذ زمام المبادرة وقام بإسقاط نحو 20 مليار دولار من إجمالي حجم الديون الإفريقية وتوفير معاملة تجارية تفضيلية للدول الإفريقية، بالإضافة إلى تنفيذ برنامج مشترك مع عدد من الدول الإفريقية يركز علي استخدام الأموال المقترضة لتمويل المشروعات التى تستهدف تعزيز النمو الاقتصادى على المستوى الوطني.
لقد وصل حجم الاستثمارات الروسية فى القارة الإفريقية خلال العام الماضى إلى ما يقرب من 20 مليار دولار في قطاعات مختلفة أبرزها قطاعات التعدين والطاقة والسكك الحديدية وغيرها من المشروعات، غير أن التعاون المصرى ـ الروسى يعتبر هو النموذج الذى يحتذى به للتعامل الروسى مع دول القارة، حيث تضاعف التبادل التجارى بين البلدين خلال الخمسة أعوام الأخيرة ليصل إلى 7.7 مليار دولار، كما أن هناك العديد من المشروعات الكبرى المشتركة بين البلدين، وفى مقدمتها المنطقة الصناعية الروسية فى قناة السويس، والمشروع النووى العملاق فى الضبعة بالإضافة إلى مشروعات عديدة فى مجالي البنية التحتية والنقل.
أعتقد أن عودة الدب الروسى بقوة على الساحة الدولية الآن، والعلاقات الحميمة القديمة بين روسيا وإفريقيا سوف تكون دافعا قويا لتحقيق آمال القمة الروسية ـ الإفريقية الأولى والانطلاق بها نحو آفاق أوسع خلال الفترة المقبلة.