أرض الحروب والمجاعات تتحرر من قيودها

بقلم: عبد المحسن سلامة

لفترات طويلة عانت إفريقيا ويلات الحروب والاستعمار، وظلت طوال هذه الفترات نهبا للقوى الاستعمارية، ومقرا لتجارة العبيد، وكانت السفن الأجنبية تأتى إليها ومعها الخراب والدمار وهى محملة بجنود الاحتلال المستعمرين المدججين بالأسلحة، وتعود وهى محملة بخيرات إفريقيا وكنوزها، وأعداد كبيرة من العبيد ليعملوا بالسخرة فى ظل أوضاع شديدة المهانة داخل مزارع ومصانع المستعمرين.

ترك الاستعمار إفريقيا مرغما وتحت وطأة المقاومة الشرسة من أبناء إفريقيا الأبطال، وبدأت تتحرر الدول الإفريقية واحدة تلو الأخري، لكن الاستعمار خرج بجسده فقط وترك أفكاره الشريرة، وزرع بذور الفتنة والانشقاق بين أبناء الكثير من الدول التى كانت محتلة، وبين الأشقاء الأفارقة فى الدول المختلفة.

 

دخلت إفريقيا دوامة من الحروب الأهلية والصراعات التى اشتعلت فى القارة، وكان من أبرز هذه الحروب، الحرب الأهلية فى السودان التى استمرت لفترة طويلة بين الشمال وبين من يطالبون بالحكم الذاتى فى الجنوب، وتطور الأمر إلى حرب أهلية بين الجيش السودانى والجيش الشعبى لتحرير السودان فى الفترة من عام 1983 وحتى عام 2005 وبعدها تقرر اجراء الاستفتاء الذى ولدت بموجبه دولة جديدة هى جنوب السودان.

 

هذه الدولة الوليدة لم تسلم هى الأخرى من الحرب الأهلية التى اندلع فيها القتال لفترة طويلة حتى تم توقيع اتفاق السلام أخيرا بين الأطراف المتنازعة.

 

ليست السودان وجنوب السودان فقط هما ضحايا الفتنة وشرور الاستعمار لكن أيضا كانت هناك حرب أهلية فى أوغندا، ولايزال ما يعرف بجيش الرب يحمل راية العصيان والتمرد.

 

أيضا كانت رواندا ضحية من ضحايا الحروب الأهلية وكذلك ليبيريا وموزمبيق.. كل هذه الدول وغيرها دخلت فى دوامة من الحروب والصراعات الدامية التى استنزفت ثرواتها بسبب "إرث" الاستعمار الثقيل وشروره التى لم ولن تتوقف.

 

الآن بدأت موجة التعافى الإفريقية وتخلصت إفريقيا من أوجاعها ومتاعبها وحروبها إلا قليلا، ولم تعد إفريقيا أرض الحروب الأهلية، والفقر، والمجاعات، وإنما نجحت دول القارة فى الانطلاق إلى آفاق التنمية والتقدم والازدهار.

 

فى الأسبوع الماضى كانت قمة مجموعة العشرين للشراكة مع إفريقيا والتى حضرها الرئيس عبدالفتاح السيسى بصفته رئيس الاتحاد الإفريقى، وهى القمة التى جاءت عقب سلسلة من القمم الإفريقية مع القوى الفاعلة اقتصاديا فى العالم مثل القمة اليابانية ـ الإفريقية، والقمة الروسية ـ الإفريقية، والقمة الأوروبية ـ الإفريقية، وغيرها من القمم المشتركة التى أكدت وبوضوح مكانة إفريقيا الجديدة فى العالم.

 

"هيا بنا إلى إفريقيا.. هناك أسواق المستقبل".. تلك الجملة قالها قبل أسابيع وزير التنمية الألمانى "جيرد مولر" وذلك قبيل انعقاد قمة مجموعة العشرين للشراكة مع إفريقيا.

 

الجملة تعبر وبوضوح عن تخلص إفريقيا من أوجاعها ومتاعبها، تحدث بها الوزير الألمانى إلى القوى الفاعلة والمؤثرة فى الاقتصاد الألمانى، وهو الاقتصاد الأقوى والأكبر على مستوى الاتحاد الأوروبى، والرابع على مستوى العالم من حيث الناتج المحلى الإجمالى بعد الولايات المتحدة الأمريكية والصين واليابان.

 

بحسب غرفة الصناعة والتجارة الألمانية فقد ارتفع حجم التجارة مع إفريقيا خلال النصف الأول من العام الحالى بنسبة 12.7% مقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضى، بعد تزايد اهتمام الشركات الألمانية بالعمل فى إفريقيا ومع الشركاء الأفارقة مما دفع أكثر من 50% من الشركات الألمانية إلى التخطيط للاستثمار فى إفريقيا.

 

يزيد من جاذبية الاستثمار فى إفريقيا نسب النمو السريع التى سجلتها الكثير من دول القارة فى الوقت الذى يطرأ فيه بعض الفتور، على عجلة النمو الاقتصادى فى مناطق أخرى من العالم بسبب الحروب التجارية الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، من جانب، وبعض الدول الأخرى من جانب آخر.

 

فى عام 2018 استوردت ألمانيا سلعا وبضائع بقيمة 22.5مليار يورو من إفريقيا، وهو ما يمثل نحو 2% من قيمة الواردات الألمانية فى حين بلغت نسبة الصادرات الألمانية إلى القارة الإفريقية نحو 1،7% من إجمالى الصادرات الألمانية، بينما وصل حجم التجارة بين ألمانيا وإفريقيا إلى ما يقرب من 45 مليار يورو.

 

هذا الاهتمام بإفريقيا من جانب ألمانيا ومجموعة العشرين كان وراء إطلاق مبادرة The G20 Compact with AFRican، وهو ما يزيد من فرص نقل التكنولوجيا وتدفق الاستثمارات خاصة فى قطاعات البنية التحتية والطاقة والتحول الرقمى وغيرها.

 

رئاسة مصر للاتحاد الإفريقي، وطبيعة شخصية الرئيس عبد الفتاح السيسى وما يتمتع به من صفات الإصرار والمثابرة والجدية والسرعة فى إنجاز الملفات المختلفة، أسهم فى نقل الاتحاد الإفريقى نقلة نوعية كبيرة خلال تلك الفترة، ويكفى إنجاز ملف اتفاقية التجارة الحرة الإفريقية، ودخولها حيز التنفيذ بعد الموافقة عليها خلال القمة الاستثنائية الأخيرة بالنيجر فى يوليو الماضى، بعد أن وافقت عليها 54 دولة، وأقرت برلمانات 27 دولة منها الاتفاقية لتدخل إلى حيز التطبيق العملى ويولد معها أكبر منطقة تجارة حرة فى العالم بما تحتوى من 1.2 مليار نسمة.

 

هذا الانجاز الهائل جعل من القارة السمراء مصدر جذب لكل القوى الاقتصادية المؤثرة فى العالم، فكانت هناك العديد من قمم الشراكة الإفريقية مع فرنسا، واليابان، وروسيا، والاتحاد الأوروبى، والولايات المتحدة، وغيرها.

 

إلى جوار هذه القمم مع القوى العالمية، كان من المهم أن يكون هناك تجمع إفريقى إفريقى وعلى الأراضى الإفريقية من أجل إيجاد المزيد من لغة التفاهم المشتركة وإزالة كل الحواجز والقيود فكان مؤتمر "الإستثمار من أجل أفريقيا" والذى عقد خلال اليومين الماضيين بالعاصمة الادارية الجديدة بهدف ايجاد لغة مشتركة بين الدول الإفريقية أو إزالة العراقيل التى تعترض حركة التجارة فيما بينها، وتنشيط الاستثمارات.

المؤتمر هو النسخة السنوية الثالثة له حيث تم عقد المؤتمرين السابقين فى شرم الشيخ، وهذا العام تقررت إقامته فى العاصمة الادارية من أجل إعطاء إشارة رمزية لامكان تحقيق الأحلام على أرض الواقع، وهو المعنى الذى أشار إليه الرئيس عبد الفتاح السيسى خلال كلمة الافتتاح.

الافتتاح كان مبهرا وموفقا فى آن واحد، واختيار هنرى أو منصور نكروما نجل الزعيم الغانى الراحل لتقديم الحفل موفق للغاية فهو من أم مصرية، ووالده الزعيم الغانى الأسبق كوامى نكروما رئيس غانا الأسبق وأحد الزعماء الأفارقة الذين ناضلوا ضد الاستعمار، وواحد من أبرز دعاة الوحدة الإفريقية.

 

الحفل بدأ بمجموعة من الفنانين يصدرون ـ بقصد ـ نغمات نشاز لكن مقدم الحفل وطبقا لرؤية مقصودة طالبهم بالعدول عن النشاز والتناغم فيما بينهم ليتم عزف مجموعة من الألحان الرائعة، وكان حسن الختام أغنية حلوة السمرا.. بلادى الحرة .. بلادى السمرا.

 

هكذا كان المعنى المقصود وهو أنه من الممكن تصدير أحلى النغمات إذا تم التناغم بين المشاركين.

 

إفريقيا هكذا يمكن أن تتحول مصدرا لخير كل شعوبها إذا تغلبت على ما يعكر الصفو فيما بين دولها، وتخلت بعض دولها عن أنانيتها، ورؤيتها الضيقة لمصالحها، وأصبحت ثروات إفريقيا الطبيعية وخيراتها مصدرا للتعاون وليس الصراع.

 

أعتقد أن مؤتمرات الاستثمارات من أجل إفريقيا التى عقدت خلال السنوات الثلاث الماضية كانت هى التجمع الاقتصادى الأهم الذى يعقد فى داخل القارة، وهى المؤتمرات التى أحتضنتها مصر بهدف زيادة التدفقات الاستثمارية فيما بين الدول الإفريقية إلى جانب زيادة الاستثمارات الأجنبية إلى الدول الإفريقية من أجل تحسين مستوى معيشة المواطن الإفريقى خاصة فى ظل المؤشرات الاقتصادية الايجابية التى تتمتع بها القارة السمراء حاليا والتى جعلتها من أكبر المناطق فى العالم الجاذبة للاستثمار.

 

وضعت د. سحر نصر وزيرة الاستثمار بالتعاون مع الوزارات المعنية الأخرى أجندة حافلة للمؤتمر خلال اليومين الماضيين، وكان التركيز الأكبر على كيفية تفعيل اتفاقية التجارة الحرة القارية، وضرورة الاستفادة من الفرص الاستثمارية الهائلة فى القارة السمراء، وتوجيه المزيد من الاستثمارات إلى قطاعات التصنيع والبنية التحتية، والتحول الرقمي، وتمكين المرأة والشباب، وإتاحة التمويل اللازم لإيجاد جيل جديد من الشباب المنتج والقادر على الابتكار.

إفريقيا تملك مقومات استثمارية ربما لا تتوافر فى الكثير من مناطق العالم خاصة بما تحتويه من موارد طبيعية، وعمالة رخيصة، بالاضافة إلى توقيع اتفاقية التجارة الحرة لتصبح السوق الأضخم فى العالم.

كل هذه المقومات جعلت من إفريقيا البقعة المضيئة للاستثمار فى العالم، إلا أنه يلقى على عاتق الحكومات الإفريقية ـ كما أكد الرئيس عبدالفتاح السيسى ضرورة التكاتف والتلاحم لتحقيق حلم الشعوب الإفريقية فى إيجاد الحلول لمشكلات البنية التحتية، وتسريع وتيرة إنجاز مشروعات ربط القاهرة - كيب تاون، وربط البحر المتوسط ببحيرة فيكتوريا، واستكمال مشروعات الربط الكهربائى بما يؤدى فى النهاية إلى تحسين حياة الشعوب الإفريقية لتعبر إفريقيا مرحلة التحديات إلى مرحلة الانجازات.

Back to Top