قبل أن يشعل صراع الطاقة المنطقة!
بقلم ـ عبد المحسن سلامة
برعونة شديدة يحاول الرئيس التركى رجب طيب أردوغان جر المنطقة إلى سيناريو "حافة الهاوية" بسبب قيامه بتوقيع اتفاقية "باطلة" مع حكومة مؤقتة ومنقوصة الشرعية فى ليبيا برئاسة فائز السراج، من أجل السيطرة على منابع النفط فى ليبيا، بعد أن باءت محاولته الأولى فى سوريا بالفشل حينما حاول الخلط بين أزمة الأكراد والسيطرة على منابع النفط، إلا أن تلك المحاولة فشلت بعد أن اتفقت أمريكا وروسيا على حل الأزمة بطريقة مختلفة، فاحتفظت أمريكا بقوة من جنودها فى سوريا لتأمين مصادر البترول والغاز، وتدخلت سوريا على الخط فى إطار المشاركة فى اتفاق التهدئة على الحدود السورية ـ التركية.
ربما يكون أفضل تعبير ينطبق على اتفاق أردوغان ـ السراج بشأن ترسيم الحدود ما جاء على لسان المتحدث باسم الحكومة اليونانية عقب توقيع هذا الاتفاق حينما وصفه بأنه "باطل وجرى التفاوض عليه بسوء نية" مشيرا إلى أن الاتفاق بين أردوغان والسراج يهدد الاستقرار الاقليمى.
التداعيات الأخيرة وطلب السراج رسميا من أردوغان التدخل عسكريا فى ليبيا يؤكد "سوء النية" فعلا، ويؤكد أيضا تهديد الاستقرار الإقليمى لأن دخول تركيا على خط الصراع بشكل علنى وسافر يشير إلى أن اتفاق ترسيم الحدود ما هو إلا اتفاق مقايضة بين السراج وأردوغان، حيث يريد الأول الاستمرار فى السلطة ولو على حساب دماء الشعب الليبي، فى حين يريد الثانى السيطرة على حقول النفط والغاز الليبى وكسر طوق العزلة المفروض حوله الآن.
أعتقد أن محاولات الرئيس التركى رجب طيب أردوغان للترويج لاتفاقه مع السراج قد باءت بالفشل خاصة فى ظل الرفض الدولى لهذا الاتفاق "السيئ النية"، والتقارب "المشبوه" الذى يحاول من خلاله مد أمد الاقتتال فى ليبيا إلى أجل غير مسمى لتظل غارقة فى مستنقع "الفوضي" الذى تعيش فيه منذ أكثر من 8 سنوات وحتى الآن.
ربما تكون الضربة الأخطر لاتفاق أردوغان ـ السراج قد جاءت من تونس فى الأسبوع الماضى عقب زيارة أردوغان لها والترويج بوجود حلف اقليمى يضم تركيا وتونس والجزائر متفقين على رؤية بشأن ليبيا، إلا أن الرئاسة التونسية تنبهت "للفخ" التركي، وقامت بسرعة بنفى التصريحات الليبية والتركية والتى جاءت على لسان وزير خارجيتة السراج، مؤكدة فى الوقت نفسه عدم انضمام تونس إلى أى أحلاف بشأن ليبيا خاصة مع تركيا بحسب ما جاء بالنص فى البيان التونسى الذى قال بالحرف الواحد "موقفنا محايد فى ليبيا، ولم ننضم إلى أى تحالف".
هذا الموقف التونسى الرسمى الذى خرج من الرئاسة التونسية جاء متسقا مع موقف الكثير من الأحزاب التونسية التى رفضت توريط تونس فى المستنقع التركى فى ليبيا، أو استخدامها كأداة لتحقيق مطامع أنقرة هناك.
على الجانب الآخر فإن مصر رفضت وترفض دائما جميع أشكال التدخلات الخارجية فى ليبيا حرصا على سرعة تعافى ليبيا وخروجها من أزمتها الحالية والتى أدت إلى تفاقم مشكلات الشعب الليبى وأفقدته "أمنه وأمانه" على مدار السنوات الماضية، وبات الشعب الليبى أسيرا للميليشيات المسلحة، وجنرالات الحرب، والجماعات الإرهابية، والتى تتصارع جميعها للسيطرة على مصادر الثروة الليبية واستنزافها، ونهبها بدلا من استثمارها لصالح الشعب الليبي.
موقف مصر واضح ومحدد منذ البداية فى مساندة الجيش الوطنى الليبى برئاسة المشير خليفة حفتر حتى يستكمل مهمته فى مكافحة الإرهاب، والقضاء على التنظيمات الإرهابية، والميليشيات المسلحة التى تهدد وحدة أراضى ليبيا، وتهدد الأمن الإقليمى لدول حوض البحر المتوسط.
الاتصالات الأخيرة للرئيس عبد الفتاح السيسى مع العديد من قادة العالم وخاصة الرئيسين الأمريكى دونالد ترامب، والروسى فلاديمير بوتين، بالإضافة إلى رئيس الوزراء الايطالى جوزينى كونتى كلها دارت حول ضرورة استعادة الأمن والاستقرار فى ليبيا بأقصى سرعة ممكنة، وتفعيل إرادة الشعب الليبى فى تخطى تلك المرحلة الصعبة من تاريخه ليعود الهدوء والاستقرار إلى كامل التراب الليبي، تمهيدا للسير فى الاجراءات اللازمة لكى يختار الشعب الليبى ما يريده، ويستكمل بناء مؤسسات دولته من دستور ورئاسة، وبرلمان، وغيرها من الخطوات اللازمة لتحقيق ذلك الهدف.
وضوح الموقف المصرى من البداية كان وراء تغيير مواقف الكثير من القوى الإقليمية والدولية التى باتت تؤمن الآن بضرورة مساندة مؤسسات الدولة الليبية وعلى الأخص الجيش الوطنى الليبى كى يستعيد زمام السيطرة على الأوضاع الأمنية هناك بعيدا عن الميليشيات، والجماعات الإرهابية، وجنرالات الحروب التى تتغذى على أوجاع الشعب الليبي، وتمتص ثرواته وكنوزه لتحقيق أهداف قوى الشر التى تعمل على "تطويل" أمد الصراع الداخلى والاقتتال الأهلى بغض النظر عن مصلحة الشعب الليبي.
عودة الاستقرار إلى ليبيا، وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، سوف يؤدى إلى عودة الاستقرار والهدوء إلى الاقليم، وساعتها يمكن للحكومة الليبية أن تقوم بترسيم حدودها البحرية مع الدول المجاورة كيفما شاءت سواء أكانت تركيا أم اليونان أو غيرهما، لأن ذلك سوف يكون فى الإطار الطبيعي، وبما يحقق مصالح الشعب الليبى ولا يتعارض مع مصلحة الشعوب الأخري، وطبقا للأعراف الدولية فى هذا المجال وأيضا بحسب ما تقرره مؤسسات الدولة الليبية خاصة المؤسسة التشريعية والبرلمانية "مجلس النواب الليبي" الذى أعلن معارضته لاتفاق (أردوغان - السراج) فى هذا الخصوص.
معارضة مجلس النواب الليبى ترجع إلى أن، أولا: الاتفاقية لم تعرض على المجلس، وهو صاحب الحق الأصيل فى رفض أو قبول تلك الاتفاقية، وثانيا: لأن توقيت الاتفاق "مريب"، لأنه لم يكن اتفاقًا لترسيم الحدود البحرية بهدف مصلحة الدولتين، لكنه "عربون" قدمه "السراج" إلى "أردوغان" فى إطار مقايضة "مفضوحة" لكى يقوم الأخير بإنقاذ السراج من "الورطة" التى يقع فيها الآن بسبب تقدم الجيش الليبى على مختلف الجبهات فى طرابلس.
لم يصبر "السراج" طويلا ليفصح عن نواياه الحقيقية التى كان يخفيها من وراء الاتفاق وأعلن عن رغبته فى الدعم التركى العسكرى لحكومته المنتهية ولايتها، بل إنه طلب ذلك رسميًا فى محاولة ميئوس منها لوقف تقدم الجيش الليبي، وقد أكدت هذه الأنباء وسائل الإعلام الداعمة لحكومة السراج، حيث أكدت تلك المصادر أن حكومة الوفاق طلبت رسميًا تدخلًا عسكريًا تركيًا بريًا وبحريًا وجويًا، وهو ما أكده أيضا رئيس مجموعة الاتصال الروسية لتسوية النزاع الليبى ليف دينجوف الذى أكد ذلك من خلال بيانات ومعلومات مكتب اتصال حكومة الوفاق فى موسكو. رعونة الرئيس التركى رجب طيب اردوغان، وما يشعر به الآن من عزلة دولية ربما تجعله يقع فى "الفخ" ويتورط فى الصراع الليبى لمصلحة الميليشيات والجماعات المسلحة والإرهابية التى لاتزال تسيطر على طرابلس وبعض المناطق الأخري، مثل "مصراته"، وهو الأمر الذى يمكن أن يحول ليبيا إلى مستنقع للحرب بالوكالة بين الاطراف الاقليمية والدولية ويطيل أمد الصراع هناك.
أعتقد أن الاطراف الدولية الفاعلة باتت الآن أكثر وعيًا بحقائق الأمور على الأرض فى المنطقة، وباتت أكثر قناعة بضرورة مساندة مؤسسات الدول الوطنية بعد أن أكتوت تلك الدول بنيران الهجرة غير الشرعية واستفحال خطورة الجماعات الإرهابية التى نزحت إليها.
هذا الموقف الدولى الجديد ربما يكون كفيلا بافشال مخططات "أردوغان – السراج" للمقايضة فيما بينهما لتمكين السراج واستمرار بقائه مقابل سيطرة اردوغان على منابع الطاقة والنفط الليبى وكسر عزلته الدولية، وهى المقايضة المحكوم عليها بالفشل عاجلًا أو آجلًا لتعود ليبيا دولة قوية موحدة كما كانت.