التدخلات الخارجية تشعل الأوضاع فى المنطقة العربية

بقلم: عبدالمحسن سلامة
كأن هناك مخططا شيطانيا ممنهجا بضرورة استنزاف المنطقة العربية، واشعال الأوضاع فيها، حتى لا تتفرغ للتنمية والتطور، وتستمر تلعق جراحها باستمرار.
ربما تكون ليبيا هى النموذج الحى لذلك التخطيط الشيطاني، فما كادت ليبيا تقترب من شاطئ الاستقرار، وتعود دولة قوية موحدة لشعبها ومحيطها العربي، حتى امتدت يد العبث التركى فى محاولة "خبيثة" لتطيل أمد الصراع على الأرض الليبية، لكى تستمر الاوضاع "المأزومة" بها بغض النظر عن متاعب وآلام الشعب الليبى الذى ضاقت به الأرض بما رحبت، وأصبح ينتظر يوم الخلاص بفارغ الصبر بعد أن دخلت معاناته عامها التاسع.
عزلة تركيا، ومتاعبها الاقتصادية وانقساماتها السياسية جعلت الرئيس التركى يبحث عن مخرج لأزماته المتعددة، ووجد فى ليبيا "المخرج المؤقت"، ولجأ إلى حليفه المعزول من شعبه فايز السراج، ليقوما بأخطر عملية مقايضة فى التاريخ، فقاما بتوقيع اتفاقية لترسيم الحدود فيما بينهما ليعطى السراج موطئ قدم لـ "اردوغان" فى غاز البحر المتوسط، وفى المقابل يقدم "اردوغان" الحماية لـ "السراج" المتحالف مع الجماعات الإرهابية والميليشيات المسلحة، وبارونات الحرب على حساب الشعب الليبي.
"السراج" محاصر فى مقره فى مدينة طرابلس، والقوات الليبية أصبحت على مقربة من تحرير المدينة تمهيدًا لعودتها إلى احضان الوطن الأم، إلا أن ما حدث خلال الأيام القليلة الماضية من تصديق البرلمان التركى على قرار "اردوغان" بارسال قوات إلى ليبيا، قد يعقد الأوضاع على الأرض، خاصة إذا فقد "اردوغان" عقله، وقرر إرسال قوات نظامية تركية إلى طرابلس، ليتحول الصراع إلى صراع بين الشعب الليبى والقوات الغازية التركية، وهو مشهد من المبكر التنبؤ بالسيناريوهات المحتملة فيه.
ربما يكون السيناريو الوحيد الواضح حتى الآن هو أن الشعب الليبى سوف يزداد عزمًا وصلابة على مجابهة القوات الأجنبية التركية التى جاءت لتحمى الجماعات الإرهابية والميليشيات المسلحة وتساند حكومة معزولة ومرفوضة وغير شرعية هى حكومة فايز السراج التى انتهت صلاحيتها، وفقدت مصداقيتها.
مأساة ليبيا عام 2011 بدأت بالتدخل الأجنبى حينما قامت قوات حلف الناتو بما فيها القوات التركية بضرب ليبيا، وحظر الطيران فوق الأراضى الليبية، وانتهى الأمر بمقتل الرئيس الليبى الراحل معمر القذافي، والآن تعاود القوات الأجنبية مرة أخرى محاولة السطو على ليبيا، وعدم تمكين الشعب الليبى من تقرير مصيره، لكن هذه المرة، بعيدة عن أى غطاء دولي، وتتحرك تركيا بمنطق فردي، لا يساندها فيه أى قوة دولية اقليمية أو عالمية، وربما يكون هناك من يساندها "سرًا"، بدافع تأجيج الفوضى والصراع فى المنطقة، واستمرار الأوضاع المأساوية التى تجتاح المنطقة منذ 17 عاما، وبالتحديد من بداية الغزو العراقى عام 2003، لتظل المنطقة غارقة فى متاعبها وأوجاعها، وهى منهكة القوة، ما يعطى "إسرائيل" أفضل مكانة لها على مدار تاريخها، ولكن هذه المرة ليس بالحروب والتكاليف الباهظة، وإنما بالتدمير الذاتى للمنطقة، واضعافها، وهو ما حدث خلال السبعة عشر عاما الماضية.
قبل القرن الحادى والعشرين لم تكن هناك أزمات عربية باستثناء المشكلة الفلسطينية قضية العرب المركزية الأولى باعتبارها قضية احتلال أجنبى لدولة عربية، وكل القرارات الدولية ساندت حق الشعب فى اقامة دولته على حدود 1967 بما فيها القدس المحتلة، وحدثت العديد من الاجتماعات واللقاءات الدولية، والثنائية للوصول إلى حل بشأن الأزمة، بل إن هناك محاولات كادت تصل إلى حلول مثل تلك الاجتماعات التى قادها الرئيس الأمريكى الأسبق بيل كلينتون، لولا بعض النقاط الخلافية فى اللحظات الأخيرة.
فى القرن الحادى والعشرين تغير المشهد تماما ولم تعد القضية الفلسطينية هى القضية الوحيدة فى أزمات العالم العربي، وسقطت بغداد عام 2003 فى أيدى القوات الأمريكية، وبالتحديد فى مارس 2003 تحت زعم وجود أسلحة نووية عراقية، وتسببت هذه الحرب فى أكبر خسائر بشرية فى المدنيين فى تاريخ العراق، واستمر الاحتلال الأمريكى للعراق لمدة تقترب من 8 سنوات حتى تم انزال العلم الأمريكى فى 18 ديسمبر عام 2011 بعد اشتعال ما أطلقت عليه أمريكا والغرب ثورات الربيع العربى.
مفارقة غربية أن تظل أمريكا محتلة للعراق ولم تفارقها إلا بعد اشتعال الثورات العربية والتى بدأت فى تونس وانتشرت بعد ذلك فى مصر وليبيا وسوريا واليمن والسودان والجزائر وأخيرا فى العراق ولبنان.
غادرت القوات الأمريكية العراق جسدا فقط، لكن تركته "محطما" و"منقسما" بين شيعة وسنة وأكراد، وتدخلات أجنبية إيرانية واقليمية لم يبرأ منها العراق حتى الآن, وكان آخرها مقتل قاسم السليمانى وأبومهند المهندس فى غارة أمريكية فور خروجهما من مطار بغداد.
لم تكن العراق وحدها هى التى احترقت بنيران التدخل الأجنبى فيها بل إن المشهد امتد إلى سوريا واليمن ولبنان وإن كان بطريقة أخرى وسيناريو مختلف.
هذه المرة تخفى التدخل الأجنبى فى تلك الدول تحت مظلة محلية، كما حدث فى اليمن حينما قام الحوثين وهم من أبناء اليمن بانقلاب على الشرعية فى اليمن مدعومين من دولة أجنبية لها أجندة ومصالح وهى إيران.
نفس السيناريو حدث فى سوريا ولبنان والعراق، حينما قامت بعض الفصائل المحلية بالاحتماء بالتدخلات الأجنبية، المشكلة أن هناك بعض أبناء الداخل فى بعض تلك الدول هم من يعطون الشرعية المزيفة للتدخلات الأجنبية ويفتحون الباب أمام "إحراق دولهم" وزيادة معاناة شعوبهم كما يحدث الآن فى ليبيا، وما تقوم به حكومة فايز السراج من تآمر على حساب مصالح الشعب الليبى وتعميق جراحه وآلامه، وزيادة معاناة المواطن الليبى البسيط الذى سئم الحياة تحت دوى الطلقات، أو ذلك "المواطن" الذى فر هاربا إلى دول أخرى ليعيش حياة اللاجئين إذا نجح ونجا من الموت فى "عرض البحر" قبل أن يصل إلى الوجهة التى يرغب فى الفرار إليها.
الغريب أن تركيا صمت "آذانها" وأعمت "عيونها" عن اجتماعات مجلس الجامعة العربية الأخيرة فى الأسبوع الماضى فى القاهرة والتى رفضت فيها التدخلات الأجنبية فى ليبيا، وطالبت فيها باحترام إرادة الشعب الليبى فى تقرير مصيره بعيدا عن التدخلات الأجنبية التى تريد عرقلة جهود توحيد دولة ليبيا تحت مظلة الجيش الوطنى الليبى وشرعية مجلس النواب الليبى الجهة الوحيدة التى لها صفة الشرعية فى ليبيا وهو المجلس الذى يدعم بقوة الجيش الليبى فى نفس الوقت، ويرفض التدخلات التركية فى الشأن الليبي، بل إن مجلس النواب الليبى نزع الحماية عن فايز السراج وحكومته بعد أن انحرف بعيدا عن مصالح الشعب الليبي، وأصبح كل هدفه "حماية نفوذه" وحماية الجماعات والميليشيات المسلحة التى تدعمه مهما كان الثمن.
"أردوغان" لا يختلف كثيرا عن "السراج" فهو يقف وحيدا معزولا من الخارج، وحتى فى الداخل لم يقف معه فى التدخل فى ليبيا سوى حليف حزب العدالة والتنمية فى الانتخابات وهو حزب الحركة القومية، فى حين رفضت كل أحزاب المعارضة التركية مغامرة اردوغان وصوت ممثلو أحزاب "الشعب الجمهوري" و"الصالح"، و"الشعوب الديمقراطي" ضد تلك المغامرة التى من المتوقع أن تكون مقبرة لتركيا عسكريا واقتصاديا وسياسيا.
أعتقد أنه من المهم أن تواصل جامعة الدول العربية تحركاتها بأقصى سرعة ممكنة الآن وتقوم بعقد مجلس جديد للجامعة بحضور رؤساء الدول أو على الأقل وزراء الخارجية لاستكمال الخطوات التى اعتمدها مجلس الجامعة فى اجتماعه الأخير يوم 31 ديسمبر، وتضع سيناريو تصعيديا آخر فى مواجهة السيناريو التركى الجديد.
أعتقد أن خطوة مجلس الجامعة المقبلة قد تحتاج إلى خطوات أممية أخرى تستند إلى الشرعية الدولية فى مجلس الأمن، مثل اصدار قرار ملزم منه برفض التدخل التركى خاصة بعد تحذيرات "ترامب" من التدخل التركي، ورفض الدول الأوروبية الفاعلة فى الملف الليبى لتلك الخطوات، وكذلك رفض الدول العربية خاصة مصر والسعودية والأمارات للخطوات التركية التصعيدية التى تنذر بمد أمد الصراع الليبى واستنزاف ثروات الشعب الليبي، وتفتيت دولته وإضعافها.
أخيرا فإن الموقف المصرى واضح منذ البداية والذى أكده الرئيس عبد الفتاح السيسى فى أكثر من مناسبة وهو مساندة مؤسسات الدولة الليبية وضرورة تمكين الجيش الليبى من فرض ولايته على كامل الأراضى الليبية لبسط الأمن والاستقرار فيها، ثم الانتقال إلى تنفيذ الاستحقاقات السياسية والدستورية المختلفة، لإنهاء المأساة الليبية المستمرة منذ 9 سنوات حتى الآن.
مصر تريد الخير للشقيقة "ليبيا" لأن ليبيا جزء من الأمن القومى المصري، والشعبان المصرى والليبى تربطهما علاقة دم ونسب ومصاهرة منذ قديم الأزل حتى الآن، وهى تهدف فى كل تحركاتها إلى سرعة إنهاء معاناة الشعب الليبى بعيدا عن مغامرات "أردوغان" وضيق أفق "السراج"، ولا تنحاز إلا إلى المواطن الليبى البسيط الذى يبحث عن "أمانه المفقود" وثرواته "الضائعة".

Back to Top