صراع النفوذ والحرب بالوكالة فى العراق!
بقلم: عبدالمحسن سلامة
منذ عامين تقريبا وبالتحديد فى ديسمبر2017 سافرت إلى بغداد فى أول زيارة لى للعراق، وصادف وجودى هناك إعلان العراق النصر على "داعش" وهزيمته فى معركته الأخيرة هناك، وسيطرة القوات المسلحة العراقية على آخر معاقلهم على الشريط الحدودى بين العراق وسوريا.
كنت مترددا فى الذهاب إلى هناك بسبب سوء الأوضاع الأمنية إلا أن الفضول الصحفى دفعنى للذهاب لمعرفة ما يحدث على أرض العراق، ومدى ما وصلت إليه التطورات هناك على الطبيعة بعيدا عن السماع ونشرات الأخبار، والتقارير الصحفية.
كانت الحكومة العراقية فى ذلك الوقت يرأسها د.حيدر العبادى الذى استطاع إعادة الهدوء والاستقرار إلى العراق بدرجة كبيرة، وأخمد نيران الفتنة الطائفية بعد أن انتهج لغة محايدة فى خطابه السياسى بعكس سلفه نور المالكي، مما أضفى حالة من الهدوء والاستقرار فى الشارع العراقي، انعكس فى الترحيب الواسع من كل الفئات والطوائف العراقية بهذه التطورات الإيجابية التى ترفض الطائفية، والابتعاد عن النفوذ الإيرانى بقدر الإمكان، وعودة العراق إلى محيطه العربى.
رغم هذا التحسن النسبى فى الأوضاع العراقية، فقد كانت الأزمة لا تزال مكتومة بين السنة والشيعة والأكراد، تظهر أحيانا وتختفى أحيانا أخرى.
بعد ذلك أجريت الانتخابات البرلمانية فى شهر مايو عام 2018، وأسفرت عن تراجع قائمة الأحزاب التى يرأسها د.حيدر العبادى، فلم يتمكن من تشكيل الحكومة، ونجح عادل عبد المهدى رئيس الحكومة الحالى فى تشكيلها بعد مفاوضات طويلة مع القوى السياسية العراقية والقبول الأمريكى والإيرانى الضمنى به كشخصية توافقية، إلا أن الأوضاع لم تستقر طويلا لحكومة رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي، حيث اندلعت المظاهرات الحاشدة منذ أكثر من 3 أشهر، وهى المظاهرات الشعبية التى ترفض الطائفية والمحاصصة وتنادى بتشكيل حكومة جديدة من التكنوقراط من غير الفئة السياسية الحالية، ونتيجة ضغوط الشارع العراقي، والمظاهرات العنيفة استجاب رئيس الوزراء لمطالب الشارع وقدم استقالته لكنه لايزال يقوم بتسيير الأعمال نتيجة عدم التوافق على الحكومة الجديدة.
الشارع العراقى سئم الطائفية، والمحاصصة، ويرفض أن تتحول الأراضى العراقية إلى مناطق لاقتسام النفوذ بين أمريكا من جهة، وإيران من جهة أخرى.
لم يكن الشعب العراقى يعرف مثل تلك الأمراض قبل الغزو الأمريكى للعراق فى مارس 2003، إلا أنها مع الغزو الأجنبى أصابت تلك الأمراض وغيرها مفاصل الدولة العراقية فى مقتل، وظل الاحتلال الأمريكى والمصاحب بتمدد النفوذ الإيرانى هناك يسهم فى تفتيت الدولة العراقية، وخلق كيانات موازية للمؤسسات الوطنية العراقية، ولم يترك الأمريكان العراق فى نوفمبر 2011 إلا بعد أن حقق الغزو الأمريكى أهدافه فى تحطيم قوة العراق، وتحويل العراق إلى أشلاء دولة يتصارع فيها الأشقاء من أبناء الشعب العراقى الواحد، وتتنافس عليها القوى الدولية والإقليمية خاصة أمريكا وإيران.
تحول العراق إلى منطقة نفوذ مشتركة بين الأمريكان الذين احتفظوا بقواعد عسكرية ضخمة هناك، وبأكبر سفارة أمريكية فى العالم، وبين النفوذ الإيرانى الذى سمحت له أمريكا بالتمدد والانتشار وتفاعلت معه وصمتت عليه فى إطار معادلات تهدف إلى إضعاف العراق، وتفتيت قوته.
تحول العراق إلى كيانات ومناطق نفوذ مذهبية وطائفية ما بين الشيعة والسنة والأكراد، وحاول الأكراد الانفصال عن العراق، وتنظيم استفتاء شعبى داخل كردستان العراق، إلا أن الحكومة المركزية تدخلت فى اللحظات الأخيرة، وأجهضت ذلك الاستفتاء، وقامت باتخاذ العديد من الإجراءات ومنها حظر الطيران، ودخول قوات الجيش العراقى إلى كركوك معقل النفط والطاقة، حتى هدأت نيران الانفصال مؤقتا.
منذ نحو 3 أشهر اندلعت المظاهرات فى شوارع بغداد تطالب برحيل الفاسدين، وترفض المحاصصة والطائفية، ومع سقوط القتلى والضحايا، تحول الحراك الشعبى إلى مواجهات غاضبة، وقامت السلطات بفرض حظر التجوال فى محاولة يائسة لمنع الاحتجاجات، إلا أن كل المحاولات فشلت، وانتهى الأمر بإجبار الحكومة العراقية التى يرأسها د.عادل عبدالمهدى على الاستقالة، إلا أنه حتى الآن لم يتم تعيين حكومة جديدة بسبب الخلافات والانقسامات التى دفعت برئيس الدولة إلى التهديد بالاستقالة هو الآخر ما لم تتوافق القوى السياسية والحزبية هناك على تلبية مطالب المتظاهرين.
منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003، والشعب العراقى لا يسمع إلا وعودا، ويعيش فى ظروف اقتصادية صعبة، ووصلت الأزمة إلى ذروتها فى بلد منتج للنفط، حيث أصبح انقطاع الكهرباء والمياه ضيفا دائما على المواطن العراقى فى حياته اليومية، كما أن العراق يحتل المرتبة 12 فى لائحة الدول الأكثر فسادا فى العالم ـ بحسب منظمة الشفافية الدولية ـ وهناك تقارير رسمية تشير إلى أنه منذ سقوط نظام صدام حسين اختفى 450 مليار دولار من الأموال العامة، أى أربعة أضعاف ميزانية الدولة، وأكثر من ضعف الناتج المحلى الإجمالى للعراق.
الأمر المؤكد أن التدخلات الأجنبية السافرة هى السبب فى تدهور أحوال العراق، فقد تحول العراق منذ عام 2003 إلى منطقة حروب بالوكالة، أو نفوذ بالوكالة أيضا، فالأمريكان، وتحت دعاوى محاربة "داعش"، تحالفوا مع إيران، وتم اقتسام النفوذ فى الأراضى العراقية بين أمريكا من جهة، وإيران من جهة أخرى.
كانت مصلحة أمريكا فى التعاون مع إيران واضحة وتهدف إلى "ابتزاز" دول الخليج، وتأمين مصادر الطاقة والغاز، أما مصلحة إيران فقد تمثلت فى تمدد النفوذ الإيرانى حتى أصبحت طهران تحكم بنفوذها أربع عواصم عربية والبداية كانت من بغداد ثم تمددت إلى الدول الثلاث الأخرى لبنان وسوريا واليمن.
باتت هذه الدول محكومة بالنفوذ الإيرانى، وأصبحت إيران هى اللاعب الأكثر تأثيرا فى سياساتها الداخلية والخارجية، وقد نشرت صحيفة النيويورك تايمز بتاريخ 18 نوفمبر 2019 عددا من الوثائق السرية التى تم تسريبها أوضحت فيها حجم النفوذ الإيرانى فى العراق، وأفردت عددا من الوثائق التى توضح دور قاسم سليمانى فى زيادة هذا النفوذ، وكذلك دوره فى محاولة احتواء غضب الشارع العراقي، وعدم الإطاحة بحكومة رئيس الوزراء عادل عبدالمهدى قبل أن يصر الشارع العراقى على مطلبه برحيلها.
هذه الوثائق تم تسريبها قبل اغتيال سليمانى بنحو الشهر ونصف الشهر وربما يكون تسريب هذه الوثائق ضمن الترتيب لاغتياله، إلا أنه وفى كل الأحوال فقد أكدت هذه الوثائق تنامى الدور الإيرانى، وتغلغله داخل مؤسسات الدولة العراقية، بما فيها الحكومة والبرلمان.
انسحاب الرئيس الأمريكى ترامب من الاتفاق النووى مع إيران، وفرض عقوبات أمريكية على طهران كان البداية لانتهاء شهر العسل الأمريكى الإيرانى، وتحول منطقة النفوذ المشتركة إلى منطقة للحروب والصراعات بالوكالة.
يؤكد هذا أن اغتيال اللواء قاسم سليمانى قائد فيلق القدس فى الحرس الثورى الايراني، تم على الأراضى العراقية، فور خروجه من مطار بغداد، وحينما قامت إيران بالرد قامت أيضا بضرب القواعد الأمريكية فى عين الأسد الواقعة فى محافظة الأنبار العراقية، وقاعدتى أربيل والتاجى.
أى أن مناطق النفوذ المشتركة تحولت إلى مناطق للصراع وتصفية الحسابات بغض النظر عن مصلحة الشعب العراقي، وسيادة أراضيه.
المؤشرات كلها تشير إلى أن أمريكا وإيران لا تريدان حربا مباشرة فيما بينهما لأنهما يعلمان حجم الخسائر والأضرار التى يمكن أن تلحق بكليهما، وهما يكتفيان بإدارة حرب غير مباشرة على أرض الغير.
العراقيون تنبهوا "للفخ" الأمريكى الإيرانى لذلك خرجوا فى عدة مدن عراقية منددين بأمريكا وإيران معا وهتفوا "لا للاحتلالين الأمريكى والإيرانى" ومطالبين بإبعاد وطنهم عن الصراع الأمريكى الإيرانى خشية التصعيد الذى قد يؤدى إلى وقوع المزيد من الضحايا من أبناء الشعب العراقى.
التصريحات الأمريكية ـ الإيرانية الأخيرة بعد مقتل سليمانى وضرب إيران للقواعد الأمريكية ربما تشير إلى أن هناك اتجاها للتهدئة فيما بين أمريكا وطهران، خاصة بعد إشادة ترامب بموقف إيران فى محاربة داعش، وإمكانية فتح الباب أمام اتفاقية جديدة مع إيران بشأن الملف النووى بشروط جديدة.
استمرار المظاهرات العراقية حتى يوم الجمعة الماضي، يؤكد أن العراقيين مصرون على إنهاء عصر النفوذ الأمريكى والإيرانى على الأراضى العراقية، وترك العراق لشعبه، لكن هذا السيناريو محفوف بالمعادلات الصعبة، لأن أمريكا وإيران لن تتركا العراق بسهولة.
وأعتقد أن الشعب العراقى سوف يكون صاحب القول الفصل فى هذا السيناريو إذا استمر فى ضغوطه رافضا أن تتحول أرضه إلى ساحة حرب بالوكالة أو تقسيم للنفوذ مرة أخري، حتى يعود العراق لشعبه كما كان قبل عام 2003، بعيدا عن الطائفية والمحاصصة والتدخلات الأجنبية...أمريكية كانت أم إيرانية.