من الحرب ضد الإنجليز إلى الحرب ضد الإرهاب
بقلم: عبدالمحسن سلامة
منذ 68 عاما، وبالتحديد صباح الجمعة الموافق 25 يناير 1952، كان موعد رجال الشرطة الأبطال فى معركتهم ضد جبروت قوات الاحتلال الإنجليزى التى حاولت كسر شوكة الشرطة المصرية، لكنهم فضلوا الموت بشرف على الحياة مكسورى الإرادة فى معركتهم البطولية ضد المحتل الإنجليزى الغاصب.
فى تلك الأثناء كانت مشاعر الغضب تتصاعد ضد قوات الاحتلال الإنجليزى، وكانت مطالب الشعب المصرى تتركز ـ حينذاك ـ على ضرورة طرد القوات الإنجليزية، وإعلان استقلال مصر عن بريطانيا بعد احتلال دام 70 عاما بالتمام والكمال.
كانت مشاعر الغضب متأججة لدي أبناء الشعب المصرى، وفى القلب منهم قوات الجيش والشرطة المصرية، باعتبارهم جزءا أصيلا من الشعب المصرى الرافض للاحتلال والعدوان الإنجليزى على مصر.
صباح 25 يناير تحركت قوات الاحتلال البريطانى إلى شوارع مدينة الإسماعيلية، لكبح جماح الغضب المتصاعد ضد قوات الاحتلال البريطانى، بعد أن بدأت بوادر الثورة تتصاعد، مطالبة برحيلهم إلى غير رجعة.
كانت مدينة الإسماعيلية مثل غيرها من محافظات القناة مملوءة بالفدائيين المصريين الذين تركزوا فى تلك المنطقة لوجود أعداد كبيرة من الأجانب يعيشون هناك، وانتشار عمليات المقاومة المسلحة ضدهم.
كانت قوات الشرطة المصرية تساند وتدعم جهود الفدائيين الرافضين للاحتلال، وحينما وصل ذلك إلى قائد القوات البريطانية فى منطقة الإسماعيلية والقناة "البريجادير إكسهام" عقد العزم على طرد قوات الشرطة المصرية من مدينة الإسماعيلية، وأرسل إنذارا شديد اللهجة إلى ضابط الاتصال المصرى، طالبه فيه بأن تقوم قوات الشرطة المصرية بتسليم أسلحتها إلى القوات البريطانية، وإخلاء أماكن وجودها ومعسكراتها بأقصي سرعة ممكنة، تمهيدا لقيام القوات الإنجليزية بدورها، والاستغناء عن خدمات الشرطة المصرية، وكأن مصر أرض أجدادهم التى ورثوها عنهم. قام ضابط الاتصال بتسليم الإنذار إلى اللواء أحمد رائف، قائد قوات الشرطة المصرية، وعلى حلمى، وكيل المحافظة، اللذين قاما بالاتصال بوزير الداخلية ـ آنذاك ـ فؤاد باشا سراج الدين الذى لم يتردد فى رفض الإنذار، وأمر قواته برفضه، والتمسك بمواقفهم، والمقاومة ببسالة ضد المحتل الإنجليزى.
ارتفعت صيحات التهليل والتكبير داخل قوات الشرطة المصرية، التى كانت قد قررت رفض الإنذار منذ أن سمعت به، ومساندة أشقائهم من أبناء الشعب المصرى فى مكافحة قوات الاحتلال الإنجليزى أيا كان الثمن، ومهما تكن حجم التضحيات.
جن جنون القائد الإنجليزى "البريجادير إكسهام" الذى لم يكن يتخيل رفض قوات الشرطة إنذاره، خاصة وهو على يقين أن ميزان القوى فى مصلحته، وليس فى مصلحة قوات الشرطة المصرية.
أراد القائد البريطانى كسر شوكة المصريين وتطويع إرادتهم، وإجبارهم على قبول الإنذار، وتحرك بقواته، التى كانت تصل إلى 7 آلاف ضابط وجندى، إلى مبنى محافظة الإسماعيلية، وثكنات بلوكات النظام الخاصة بالشرطة المصرية، التى لم تكن أعدادها تتجاوز 850 ضابطا وجنديا، أى تقريبا نحو 15% من قوات الاحتلال.
حاصرت القوات الإنجليزية المدججة بأحدث أنواع السلاح ـ آنذاك ـ قوات الشرطة، لإجبارها على الاستسلام والخضوع، إلا أن الضباط والجنود المصريين، وعلي قلب رجل واحد، رفضوا الاستسلام، وفضلوا الموت والشهادة على الاستسلام للإنجليز.
فقد القائد الإنجليزى عقله، بعد أن تأكد من رفض رجال الشرطة المصرية الاستسلام ورفع الراية البيضاء أمام ضباط وجنود المملكة البريطانية العظمى التى لم تكن تغيب عنها الشمس.
على الفور، أصدر أوامره بإطلاق النار على قوات الشرطة المصرية بكل قوة، ظنا منه بأن إطلاق النار سيؤدى إلي تغيير موقف الشرطة المصرية، إلا أن طلقات المدافع والدبابات لم تزد الشرطة المصرية إلا ثباتا، وعقد الرجال العزم على النصر أو الشهادة.
سالت دماء كثيرة من قوات الشرطة المصرية، وانهارت المبانى من شدة إطلاق النار، بسبب عدم التكافؤ فى التسليح أو عدد القوات.
كانت القوات الإنجليزية مسلحة بأحدث الأسلحة المتطورة، من دبابات ومدافع وقنابل، وكانت قوات الشرطة المصرية لا تمتلك إلا أسلحة خفيفة من البنادق العادية، إلا أن أبطال الشرطة المصرية أوقعوا العديد من الخسائر ما بين قتلى وجرحى، في صفوف القوات الإنجليزية فى معركة غير متكافئة تماما، وارتكبت القوات البريطانية "مجزرة" بكل ما تحمله الكلمة من معان، وسقط 50 شهيدا و80 جريحا من قوات الشرطة المصرية، فى حين نجح الأبطال المصريون بأسلحتهم البسيطة فى قتل 13 بريطانيا، وإصابة 12 آخرين.
دخلت القوات البريطانية مبانى الشرطة المصرية على جثث الجرحى والمصابين، وهو ما دعا الجنرال القاتل البريجادير إكسهام إلى أداء التحية العسكرية لمن تبقى من قوات الشرطة المصرية، اعتزازا بصمودهم البطولى، وإصرارهم على القتال حتي آخر لحظة.
كانت تلك المعركة هى بداية الفوران والانتفاضة لكل أبناء الشعب المصرى، ولم يكد يمر ستة أشهر حتي انطلقت ثورة 23 يوليو 1952، التى عبرت عن رغبة جموع المصريين فى الحرية والاستقلال وطرد القوات الإنجليزية المحتلة إلى غير رجعة.
تلك هى عقيدة الشرطة المصرية، مثلها مثل القوات المسلحة، فلا استسلام أو تهاون فى حق مصر والمصريين، وإما النصر أو الشهادة.
تمر السنوات ويشتد عود الشرطة المصرية فى بسط الأمن والأمان على كل أرجاء الخريطة المصرية، وفى الوقت الذى تخلصت فيه الدولة المصرية من الاحتلال الإنجليزى عام 1952، نجحت القوات المسلحة المصرية فى إلحاق أكبر هزيمة عسكرية بالعدو الإسرائيلى عام 1973، ثم نجحت مصر بعدها فى استعادة كامل الأراضى المصرية بالسلام.
فى هذا الوقت بدأت تظهر نوعية جديدة من أهل الشر الذين لا يقلون سوءا عن القوات الأجنبية المحتلة، وبدأت عملياتها القذرة باغتيال الرئيس الراحل أنور السادات فى أوج انتصاره ومجده، بعد أن انتصر فى معركة الحرب والسلام.
ظلت وتيرة الأعمال الإرهابية تراوح مكانها ما بين صعود وهبوط حتى قامت ثورة 25 يناير وانتشرت معها الفوضي والانفلات، وبدأ مخطط شيطانى لعين يهدف إلى كسر الشرطة وتدمير الدولة. مسلسل خبيث لا يقل سوءا عن الاحتلال الأجنبي، بل ربما يكون أخطر وأكثر شراسة، لأن الحرب ضد القوات النظامية أسهل بكثير من الحرب ضد عدو غادر يشبه القطة السوداء فى الحجرة المظلمة.
خطورة الإرهاب أنه يعيش فيما بيننا، ولا يظهر وجهه القبيح إلا فى أثناء تنفيذ أعماله القذرة والوحشية، ليقع الشهداء من صفوف الشرطة والجيش، وأبناء الشعب المصرى المدنيين الذين ربما تواجدو فى أماكن جرائم الغدر بالمصادفة البحتة.
ولأن الإرهاب لا عقل له فقد توسع نطاق استهدافه إلى أماكن العبادة من الكنائس والمساجد، وراح ضحيته المئات، وربما الآلاف من رجال القوات المسلحة والشرطة، وكل شرائح المجتمع المصرى.
ظهر واضحًا استهداف رجال الشرطة المصرية، من خلال مخطط اقتحام المراكز والأقسام، ومديريات الأمن والسجون عقب اندلاع ثورة 25 يناير 2011، وما تبعها من فوضى وتخريب وتدمير متعمد ومقصود.
محاولة يائسة لكسر إرادة الشرطة المصرية، إلا أن رجال الشرطة المصرية، بدعم ومساندة من أشقائهم رجال القوات المسلحة المصرية، نجحوا فى استعادة زمام المبادرة مرة أخرى، وتخطوا أصعب المراحل.
موقف التلاحم والانسجام بين الشرطة والجيش عام 1952 هو الموقف نفسه الذى يعيشه رجال الشرطة والجيش هذه الأيام في مواجهة الإرهاب، فلا استسلام أو تهاون. وبهذه العقيدة البطولية، نجحت الشرطة والجيش فى استعادة زمام الأمن والأمان، وتسديد ضربات قوية وناجحة ضد الإرهابيين، وهو ما أدى إلى تراجع الحوادث الإرهابية بدرجة كبيرة.
في الوادى والدلتا، انزوى الإرهاب تماما خلال العام الماضى بسبب الضربات الاستباقية الناجحة، ولم يعد هناك سوى بعض الأحداث الفردية النادرة التى يمكن أن توجد فى أي دولة من دول العالم.
أما فيما يخص سيناء، فقد كان الإرهابيون يحلمون بإقامة ولاية داعش، فى سيناء، إلا أنه، ومنذ انطلاق العملية الشاملة فى سيناء، بالتعاون بين الجيش والشرطة، عادت الحياة إلي طبيعتها مرة أخرى، بعد أن تضامن أبناء سيناء مع جيشهم وشرطتهم في ملاحقة الإرهابيين والقتلة، ولم يعد هناك سوي بعض عمليات "الذئاب المنفردة" بعد أن لحقت بالتنظيمات الإرهابية هناك أكبر الهزائم والانكسارات .
سيناء الآن دخلت عصر التنمية الشاملة، بعد أن تم افتتاح الأنفاق الجديدة، وبدأ تدفق المشروعات العمرانية والصناعية والزراعية العملاقة إليها، التى تستهدف نشر الخير إلى كل أهالى سيناء، ومكافحة الإرهاب بالتنمية والبناء.
الرئيس عبدالفتاح السيسي لخص الأحداث العاصفة، التى عاشتها مصر خلال الفترة الماضية، حينما قال فى احتفالات الشرطة بعيدها الخميس الماضي: "أهل الشر حاولوا القضاء على الدولة.. وحماها أبناؤها".
صحيح كانت هناك تضحيات كثيرة حدثت ودماء زكية أريقت، لكن النتيجة كانت أكثر من رائعة، وأكبر وأهم من كل التضحيات التى حدثت، لأن مصر عادت أقوى مما كانت، وانقشعت الغمة إلى الأبد.