تداعيات وتحديات الانتقال إلى العاصمة الجديدة

بقلم: عبدالمحسن سلامة
أشهر قليلة تفصلنا عن بدء انتقال الحكومة المصرية إلى العاصمة الإدارية الجديدة فى النصف الثانى من العام الحالى2020 بشكل تدريجى، لتكتمل التجربة، ويتحول حلم إنشاء عاصمة جديدة لمصر إلى واقع حقيقى على الأرض.
منذ أكثر من 40 عامًا كان حلم إنشاء عاصمة جديدة لمصر يراود الزعيم الراحل محمد أنور السادات، ولهذا الغرض تم إنشاء مدينة السادات، لكن الحلم لم يكتمل، وواجهته عقبات كثيرة ومشكلات متعددة، منها ما يتعلق بموقع المدينة الجغرافى البعيد نسبيا عن القاهرة، وأيضًا تخطيطها العمرانى الذى لم يكن مؤهلا بشكل عملى لتلك النقلة، ولعل مجمع الوزارات المنشأ فى هذه المدينة خير شاهد على ذلك، لأنه تقريبًا هو نسخة مكررة من مجمع التحرير غير القادر على استيعاب الحكومة، وربما لا يستوعب وزارة واحدة منها بحجم وزارة المالية أو الإسكان أو الصحة أو غيرها من الوزارات العملاقة التى تضم العديد من الهيئات والأجهزة التابعة لها.
الحالة فى العاصمة الإدارية مختلفة منذ بداية فكرتها واختيار موقعها وتخطيطها ومساحتها.
البداية كانت حلم لدى الرئيس عبدالفتاح السيسى، المعروف عنه دقته الشديدة فى كل التفاصيل، وقدرته على تحويل الحلم إلى حقيقة، من خلال توفير كل عناصر النجاح للمشروعات العملاقة، ودراسة كل جوانبها باستفاضة، وتذليل كل العقبات التى يمكن أن تحول دون نجاحها.
الموقع تم اختياره بعناية فى المنطقة الواقعة بين طريقى "القاهرة – السويس" و"القاهرة - العين السخنة"، وبالقرب من المنطقة الخاصة بقناة السويس. وميزة هذا الموقع أنه قريب من القاهرة، حيث يبعد نحو 20 دقيقة من مدينة نصر ومصر الجديدة، وتم إنشاء طريق جديد عملاق هو طريق محمد بن زايد، الذى يربط العاصمة الجديدة بالقاهرة والمدن الأخرى, وكذلك بدأ العمل فى إنشاء القطار الكهربائى الذى يربط بين شرق القاهرة "مدينة السلام" ليصل إلى العاصمة الجديدة عبر مدينة العاشر من رمضان.
أما من ناحية التخطيط العمرانى، فقد تم تخطيطها طبقًا لأحدث المواصفات العالمية على مساحة170 ألف فدان، وهى تقريبا مساحة سنغافورة نفسها، وأربعة أضعاف مساحة العاصمة الأمريكية (واشنطن)، بما يجعلها مؤهلة وقادرة على استيعاب ما يقرب من 6 ملايين مواطن مصرى بعد استكمال مراحلها المختلفة.
فى الحى الحكومى تمت معالجة كل أخطاء تداخل الوزارات فى المناطق السكنية، كما هو موجود الآن فى القاهرة، حيث تم تخطيط الحى الحكومى بحيث يكون مقصورًا على الوزارات وجميع المؤسسات الحكومية والرئاسية والبرلمان، لتصبح جميعها فى مكان واحد، بعيدًا عن الاشتباك مع المناطق السكنية، وما يترتب على ذلك من مشكلات مرورية وازدحام وتكدس تؤدى إلى زيادة معدلات التلوث وإهدار الوقت والطاقة.
المدينة أيضا تم تعميمها، لتصبح أول مدينة ذكية عربية بالمفهوم الحديث، ولتكون قاطرة للتنمية العمرانية والاقتصادية والتكنولوجية فى مصر والعالم العربى وإفريقيا.
الأمر المؤكد أن إنشاء عاصمة جديدة ليس حالة مصرية خاصة، حيث كانت هناك العديد من دول العالم قد لجأت إلى هذا الأسلوب فى إنشاء عواصم جديدة بعد أن أصبح من المستحيل علاج عيوب ومشكلات العواصم القديمة فى التكدس والازدحام والانفجار السكانى.
حدث ذلك فى أكثر من 10 دول فى العالم، منها إندونيسيا، والفلبين، ونيجيريا، وكوريا الجنوبية، وروسيا، وأستراليا، والبرازيل، وباكستان، وماليزيا، وغيرها من دول العالم التى اتخذت قرارا بإنشاء عاصمة جديدة لها، لعلاج المشكلات المزمنة غير القابلة للحل فى العواصم القديمة.
ربما تكون الحالة المصرية فى إنشاء عاصمة جديدة أكثر إلحاحا من الحالات السابقة نتيجة أسباب متعددة، منها ما يتعلق بحالة القاهرة التى تحولت إلى مدينة ديناصورية عملاقة، يزيد تعدادها على تعداد الكثير من دول العالم، بالإضافة إلى التكدس القاتل الذى يشهده الكثير من مناطقها نتيجة تداخل المبانى الحكومية مع السكنية، بالإضافة إلى شيخوخة الكثير من مرافقها، وهو ما يصعب معه إمكان التوسعات المستقبلية.
من هنا كان قرار إنشاء العاصمة الجديدة، لحل كل هذه المشكلات الموروثة والمتراكمة، بالإضافة إلى مردودها الاقتصادى، خاصة فيما يتعلق بإيجاد فرص عمل جديدة، بلغت ما يقرب من 250 ألف وظيفة عمل مباشرة، إلى جانب أضعاف هذا الرقم بشكل غير مباشر.
لقد وصل تعداد مصر إلى 100 مليون نسمة رسميا، خلال الأسبوع الماضى، بمولد الطفلة ياسمين رمضان فى مركز سمالوط بمحافظة المنيا، طبقا لما أعلنه جهاز التعبئة العامة والإحصاء فى بيانه، وهو ما يعنى أن تعداد سكان مصر قد تضاعف 40 مرة تقريبا على مدى 200 عام، ومع ذلك فإن هؤلاء السكان ظلوا يعيشون تقريبا على المساحة نفسها التى كانوا يعيشون عليها منذ 200 عام، بزيادة طفيفة لم تزد على 2% تقريبا، أى أن عدد السكان تضاعف 40 مرة فى حين أن مساحة الأرض زادت 2% فقط مما كانت عليه، وهى نسبة ضعيفة، ولا تقارن بالعدد الهائل من الزيادة السكانية التى حدثت خلال الفترة نفسها.
أعراض ذلك الخلل الرهيب ظهرت فى تآكل الأراضى الزراعية، وتحويل أجود هذه الأراضى إلى كتل أسمنتية، ورويدًا رويدًا ظهرت المناطق العشوائية، وتمددت وحاصرت القاهرة من معظم جوانبها. كما تمددت أيضا إلى محافظات أخرى كثيرة، خاصة القليوبية والجيزة والإسكندرية وغيرها من المحافظات الأخرى.
لم يكن هناك مفر من المواجهة السريعة والحاسمة، وضرورة مضاعفة مساحة المعمور من الأراضى المصرية من 7 إلى 14%، وعلى الفور تم إطلاق إنشاء 14 مدينة جديدة يتم تنفيذها الآن ـ ومن بينها العاصمة الإدارية الجديدة - فى إطار إستراتيجية التنمية المستدامة 2030، والمخطط الإستراتيجى القومى للتنمية العمرانية 2052.
قرار الرئيس عبد الفتاح السيسى بإقتحام تلك المشكلة المؤجلة منذ عقود طويلة كان بهدف تنفيذ المخطط الإستراتيجى القومى للتنمية العمرانية، ومضاعفة مساحة المعمور، لكى تكون هناك فرصة حقيقية أمام التوسع الصناعى والزراعى والعمرانى، لأنه باختصار لن تكون هناك قدرة حقيقية على أى توسعات فى ظل التكدس العمرانى والسكانى الحالى.
العاصمة الإدارية الجديدة هى القاطرة لهذا الحلم الضخم، الذى بدأ يتحقق من خلال إنشاء تلك المدن الجديدة الـ14، ولأول مرة ستكون هناك أكثر من عاصمة لمصر، فالعاصمة الجديدة ستكون عاصمة للإدارة والسياسة والأعمال، والقاهرة ستظل العاصمة الثقافية والتراثية والتاريخية لمصر، وهناك مشروعات ضخمة تتم فيها الآن، لإزالة العشوائيات والتشوهات منها مثلما يحدث فى "عزبة الهجانة" الآن، وحدث من قبل فى الأسمرات والروضة ومثلث ماسبيرو، بالإضافة إلى تطوير مناطقها التاريخية مثل سور مجرى العيون والسيدة زينب وعين الصيرة، ضمن المخطط الكامل لإعادة الحيوية والبريق إلى جميع مناطق القاهرة التاريخية والتراثية.
على الجانب الآخر، فقد بدأت العاصمة الإدارية الجديدة تمارس مهامها حينما اصطحب الرئيس عبدالفتاح السيسى نظيره البيلاروسى، ألكسندر لوكاشينكو، الأسبوع الماضى، فى جولة تفقدية هناك، شملت مدينة الثقافة والفنون ومنشآت المدينة الرياضية وكنيسة ميلاد السيد المسيح والحى الحكومى. كما تفقد المعرض المقام بمناسبة انعقاد مجلس الأعمال المصرى - البيلاروسى فى العاصمة الإدارية بفندق "الماسة كابيتال"، وبمشاركة الشركات المصرية والبيلاروسية.
أعتقد أن دخول العاصمة الإدارية الجديدة الخدمة فى النصف الثانى من العام الحالى سيكون البداية لدخول باقى المدن الـ14 تباعا، بما يتيح فرص أكبر للتوسع الصناعى والعمرانى، ويسد جزءا من احتياجات الكثافة السكانية المتزايدة، ويسهم، فى الوقت نفسه، فى توفــير المزيد من فرص العمل، فى إطار تحسين مؤشرات الاقتصاد المصرى، الذى أصبح واحدا من أقوى الاقتصادات الناشئة فى المنطقة على الإطلاق

Back to Top