"الأمتار الأخيرة" فى مفاوضات سد النهضة

بقلم: عبدالمحسن سلامة

أخيرًا وبعد مفاوضات ماراثونية شاقة ومعقدة وصعبة للغاية، وصلت المفاوضات الخاصة بالاتفاق النهائى حول أزمة سد النهضة إلى محطة الختام التى من المتوقع أن تكون مع نهاية الشهر الحالى أو بداية الشهر المقبل على أكثر تقدير، بعد أن ينتهى الجانب الأمريكى والبنك الدولى من صياغة الاتفاق بشكله النهائى، وضبط صياغة الاتفاقات القانونية، وصياغة بعض النقاط الأخرى التى لاتزال عالقة، ليدخل الاتفاق إلى حيز التنفيذ بعد أن يتم توقيعه من رؤساء دول وحكومات الدول الثلاث فى واشنطن.

فى الجولة قبل الأخيرة فى واشنطن كان قد تم الاتفاق على الكثير من النقاط الفنية المتعلقة بقواعد ملء وتشغيل السد، إلا أن الوفدين الإثيوبى والسودانى طلبا مهلة للتشاور لحين انعقاد الجولة الأخيرة من المفاوضات التى احتضنتها كذلك العاصمة الأمريكية واشنطن، وحضرها وزير الخزانة الأمريكى، ورئيس البنك الدولى، والوزراء والمعنيون من الدول الثلاث (مصر ـ إثيوبيا ـ السودان).

خلال الجولة الأخيرة، وطبقا لما أصدرته وزارة الخزانة الأمريكية "راعى المفاوضات"، فإنه تم التوافق بين وزراء خارجية مصر والسودان وإثيوبيا على استمرار المفاوضات حول السد حتى يتم التوصل إلى الاتفاق النهائى، بحلول الشهر الحالى، وأن الولايات المتحدة، وبدعم فنى من البنك الدولى وافقا على تسهيل إعداد الاتفاق النهائى، ليتم إبرامه وتوقيعه من قبل وزراء ورؤساء الدول الثلاث المعنية.

هاتفيا اتصلت بوزير الخارجية سامح شكرى الذى كان موجودًا فى واشنطن لمعرفة آخر التطورات، وسألته هل انتهت المفاوضات تمامًا أم لاتزال هناك بعض النقاط العالقة؟

أجاب: انتهت المفاوضات وقد تم خلالها تحديد جميع العناصر الواجب تضمينها فى الاتفاق النهائى. وقد تم إقرار العناصر الفنية خلال الجولة السابقة على أن تضاف إلى صيغة النص النهائى للإتفاق والمرتبطة حول معظم القضايا العالقة بالقواعد الفنية الخاصة بالملء والتشغيل للسد، وكل القضايا الأخري المتعلقة بحالات الجفاف، والجفاف الممتد، والسنوات "الشحيحة" التى قد تتزامن مع عملية ملء السد، وكذلك قواعد التشغيل الطويلة الأمد، والتى تشمل التشغيل فى الظروف الهيدرولوجية الطبيعية، وغيرها من النقاط التى تتعلق بقواعد الملء والتشغيل التى اتفق عليها الخبراء والوزراء من الدول الثلاث.

وأضاف وزير الخارجية سامح شكرى: أتفق على أن ما تم التوصل إليه فى الجولة الماضية مكون أساسى من مكونات الاتفاق الذى يجرى إعداده الآن، مشيرًا إلى أنه تم التباحث فى الجولة الأخيرة حول الأطر القانونية، وآلية المراجعة، وآلية فض التأزمات، وكذلك آلية التحقق من المعلومات الفنية الخاصة بتنفيذ جميع مواد الاتفاق.

هذه النقاط لم يتم حسم الصياغات الخاصة بها حتى الآن، وطرحت الدول الثلاث رؤاها حول تلك النقاط، وكان هناك تطابق بين موقفى مصر والسودان حيال العديد من المواضع، وقد وافق الجانب الأمريكى على الاضطلاع بمعاونة البنك الدولى بإعداد الصيغة النهائية للاتفاق تمهيدا لتلقى موافقة الدول الثلاث عليه تمهيدا لتوقيعها بنهاية الشهر الحالى أو بداية الشهر المقبل على أكثر تقدير.

وأكد وزير الخارجية سامح شكرى على ثقة مصر فى الجانب الأمريكى أو قدرته علي بلورة الصياغة النهائية للاتفاق التى تحفظ الحقوق المائية لمصر والسودان، وفى نفس الوقت تحفظ حق إثيوبيا فى التنمية والرخاء.

مشيرًا إلى أن الجولات السابقة من المشاورات ساهمت فى التقريب بين الأطراف الثلاثة وأصبحت هناك رؤية للعناصر المكونة للإتفاق النهائى, وهناك الكثير من نقاط الاتفاق لكن لاتزال هناك بعض النقاط محل تباين فى الرؤى, وقد استمع الطرف الأمريكى لوجه نظر الدول الثلاث بحيث يتسنى له القيام بصياغة النص النهائى, وعرضه على الدول الثلاثة لإبداء استعدادها للتوقيع عليها وعقد جولة أخيرة لضبط الصياغات من حيث الشكل ومراجعتها دون إجراء أى تعديلات موضوعية على النص وذلك بنهاية الشهر الجارى, وإذا تمت الموافقة على الاتفاق من جانب الدول الثلاث سوف يتم تحديد المكان والزمان لتوقيع الوثيقة بنهاية الشهر أو بداية الشهر القادم.

سألت عن موقف الجانب السودانى ولماذا لم يقم بالتوقيع مع مصر فى الجولة الماضية، وهل اختلف موقفه فى الجولة الأخيرة؟!

أجاب الوزير سامح شكري: السودان دولة شقيقة، ومصالحنا مشتركة، ومصر والسودان دولة واحدة وشعب واحد، وفى الجولة الأخيرة طرح الجانبان المصرى والسودانى صيغا مشتركة، ولدينا ثقة كبيرة فى الجانب الأمريكى الذى بذل جهدا كبيرا وموفقا من أجل إنجاح المفاوضات، وتذليل العقبات، والتوصل إلى ما تم التوافق حوله، ومن المؤكد أن الجانب الأمريكى سوف يواصل العمل حتى يتم الانتهاء من كل النقاط التى لاتزال عالقة للإنتهاء منها بحلول نهاية الشهر الجارى، وبلورة النسخة الأخيرة من الاتفاق النهائى بشكل موضوعى ومتكافئ بين الدول الثلاث .

انتهت تصريحات وزير الخارجية سامح شكرى، التى أكد فيها أن المفاوضات فى حل أزمة سد النهضة دخلت بالفعل "الأمتار الأخيرة" بعد أن قطعت آلاف الكيلومترات على مدى 9 سنوات ماضية مليئة بالشكوك والمراوغة.

9 سنوات هى عمر مفاوضات سد النهضة بعد أن أعلنت إثيوبيا إقامته بعد أحداث 25 يناير 2011، والتى استغلت فيها إثيوبيا حالة الفوضى والانفلات التى حدثت فى مصر، لتبدأ إثيوبيا على الفور الشروع فى أعمال بناء السد، وكأنها كانت تنتظر تلك اللحظة العصيبة، وقد ارتكبت الحكومات المصرية المتعاقبة منذ يناير 2011 أخطاء قاتلة فى ملف سد النهضة بدأت فى سبتمبر 2011 حينما اتفق د.عصام شرف رئيس الوزراء المصرى حينذاك مع نظيره الإثيوبى ميلس زيناوي على تشكيل لجنة دولية تدرس آثار بناء السد الإثيوبى، ولم تنعقد تلك اللجنة إلا بعد 8 أشهر وبالتحديد في مايو 2012وتشكلت من10 خبراء مصريين وإثيوبيين وسودانيين و4 خبراء دوليين.

استمرت المعالجات الخاطئة والهزلية، وبلغت ذروتها فى الاجتماع الهزلى الشهير الذى عقده محمد مرسى مع بعض القيادات السياسية آنذاك، وكان محلا للسخرية والاستهزاء فى الداخل والخارج، وزاد من تعقيد الموقف أكثر وأكثر.

حينما تولى الرئيس عبدالفتاح السيسى مقاليد الحكم بدأت معالجة مختلفة وجادة هدفها الحفاظ على حقوق مصر التاريخية من المياه، وفي الوقت نفسه لا تتعارض مع أهداف التنمية الإثيوبية، وكان الرئيس عبدالفتاح السيسى حريصا دائما على التأكيد أن مياه النيل مسألة "وجودية" بالنسبة لمصر والمصريين، وهناك فرق ضخم بين الحق في الوجود والحق فى التنمية.

كانت الخطوة الجادة الحقيقية الأولى في معالجة أزمة ملف سد النهضة هى توقيع "وثيقة إعلان المبادئ" في 23 مارس 2015 بعد مفاوضات شاقة بين الأطراف الثلاثة مصر وإثيوبيا والسودان، وتم التوقيع على الوثيقة خلال القمة الثلاثية فى الخرطوم، وهى الوثيقة التى وقعتها مصر لتأكيد حسن النية للجانب الإثيوبى، وعلى الجانب المقابل فقد وضعت وثيقة إعلان المبادئ التزامات محددة على الجانب الإثيوبى تجاه دولتى المصب، وأكدت ضرورة الاستخدام المنصف والمناسب للمياه، طبقا لما جاء في المادة الرابعة من إعلان المبادئ، وهى المادة التى تصب في مصلحة الموقف المصرى تماما، لأن مصر تعانى "الشح" المائى وتعتمد كاملا على مياه النيل فى وقت تحظى فيه إثيوبيا والسودان بموارد مائية هائلة.

نصيب مصر الحالى من المياه لا يكفى احتياجاتها المائية حيث أصبح نصيب الفرد فيها أقل من 700 متر مكعب، أى أقل من حد الفقر المائي، فى حين أن إثيوبيا يسقط عليها ما يقرب من 936 مليار متر مكعب من الأمطار سنويا، ويوجد بها 10 أحواض أنهار بخلاف حوض النيل الأزرق.

المادة العاشرة من اتفاق إعلان المبادئ تشير إلى قيام الدول الثلاث بتسوية منازعاتها الناشئة عن تفسير أو تطبيق الاتفاق بالتوافق من خلال المشاورات أو التفاوض وفقا لمبدأ حسن النيات، وإذا لم تنجح الأطراف الثلاثة فى حل الخلاف من خلال المشاورات أو المفاوضات فيمكن لهم مجتمعين طلب التوفيق أو إحالة الأمر لعناية رؤساء الدول ورؤساء الحكومات.

هذه هى المادة التى استندت إليها مصر فى طلب التدخل الأمريكى والبنك الدولى للتوفيق وحل الخلافات الناشئة بين الأطراف الثلاثة والتى استمرت ما يقرب من خمس سنوات منذ توقيع اتفاق إعلان المبادئ وحتي الآن.

لم يكن هناك مفر من الوسيط الدولت للوصول إلت حل عادل يضمن حقوق جميع الأطراف وعدم الإضرار بحقوق مصر والسودان المائية، وكذلك عدم الإضرار بحق إثيوبيا في التنمية.

دور الوسيط الأمريكت والبنك الدولت كان يتمحور حول إقرار المعايير العلمية المتفق عليها في الاتفاقيات الدولية، واتفاق إعلان المبادئ، بما يضمن حقوق مصر المائية حاليا ومستقبلا، وحق إثيوبيا فت توليد الكهرباء من سد النهضة، طبقا للعمليات الحسابية المدققة من المكاتب والشركات العالمية المتخصصة فى هذا الأمر.

الآن وصل قطار المفاوضات إلى محطة الختام، ويتبقي فقط بعض النقاط العالقة القانونية والفنية، والتى تحتاج إلى حسن نية من الجانب الإثيوبي، ودعم ومساندة سودانية واضحة وصريحة للجانب المصرى بعد أن أكدت مصر حسن نيتها فى الشراكة الاستراتيجية مع إثيوبيا والسودان بهدف تحويل حوض النيل إلى حوض لنشر الرخاء والازدهار والسلام لجميع دول حوض النيل بعيدا عن المراوغة والشكوك وسوء النيات من هذا الجانب أو ذاك.

Back to Top