من برلين إلى جنيف.. والمأزق الليبى لا يزال مستمرًا
بقلم: عبدالمحسن سلامة
فى الشهر الماضى كان اجتماع برلين بخصوص الأزمة الليبية، من أجل إيجاد حل دائم لها، وفى الأسبوع الماضى انطلق حوار جنيف حول الأزمة نفسها، وتكاد المحصلة النهائية لكلا الاجتماعين واحدة، فالنتيجة ليست مرضية على الإطلاق للشعب الليبى، الذى يعانى منذ 9 سنوات مرارة الحرب والإرهاب، وذلك بسبب التدخل التركى السافر فى شئونه، الذى يفسد كل محاولات التوصل إلى حل لتلك الأزمة.
ربما تكون اجتماعات برلين قد أسفرت عن تهدئة للقتال على الأرض، لكنها "تهدئة هشة" غير قابلة للحياة بسبب التدخل الأجنبى الفج الذى يحدث من جانب تركيا، رغم رفض مؤتمر برلين هذا التدخل، والتحذير منه، والمطالبة بإيقافه.
المشكلة أن حكومة السراج، المنتهية ولايتها وصلاحيتها، تريد البقاء وبأى "ثمن"، ولو كان هذا "الثمن" على حساب السيادة الليبية، لأن "السراج" لا يتورع عن ترديد تصريحاته بأنه هو الذى دعا تركيا إلى التدخل، وتلك هى الكارثة، فهو يدعو تركيا إلى قتل شعبه، وإطالة أمد الحرب الأهلية هناك، وإيقاف تقدم الجيش الوطنى الليبى، الذى يعد المؤسسة الوطنية الوحيدة المسئولة عن حماية الشعب الليبى وسلامته.
"السراج" يعترف صراحة بأنه طلب التدخل من أمريكا وبريطانيا وتركيا، وأن الأخيرة هى التى استجابت له، فكيف يمكن للشعب الليبى أن يثق به وهو يعترف بأنه يطلب من قوات الدول الأجنبية حمايته وحماية الميليشيات الإرهابية المساندة له والموجودة فى طرابلس.
فى ظل هذه الأجواء المضطربة جاءت الدعوة، التى وجهها المبعوث الأممى غسان سلامة، إلى أطراف الأزمة الليبية، للجلوس على مائدة الحوار فى جنيف، وكان من الطبيعى أن نشاهد الانسحابات التى لاحقت هذا الحوار من قبل أن يبدأ من أطراف الأزمة الليبية، لأن هناك حالة من عدم الثقة بين تلك الأطراف بسبب نهج حكومة السراج وميليشياته فى التدثر بعباءة التدخل التركى الفج والخطير.
رغم تلك الانسحابات، فقد أصر المبعوث الأممى على إطلاق الحوار بمن حضر، والمؤكد أن نيات المبعوث الأممى غسان سلامة طيبة، لأنه يريد إيقاف نزيف الدم على الأراضى الليبية بأى ثمن، أو التوصل إلى حل دائم للأزمة هناك، لكن النيات وحدها لا تكفى، لأن بداية الحل هى ضرورة الإعلان الواضح والصريح عن رفض التدخل التركى فى الشئون الليبية، وضرورة مطالبة تركيا بسحب قواتها ومعداتها وأفرادها من الأراضى الليبية، لتهيئة المناخ العام الليبى من أجل إطلاق حوار داخلى بعيدا عن الضغوط الخارجية، وصراع المصالح، وبارونات الحروب، وكلها عوامل أدت إلى تحويل الأراضى الليبية إلى منطقة للحرب بالوكالة بين القوى الإقليمية والدولية، وفى الوقت نفسه فقد أسهم هذا الصراع فى توفير الحماية للإرهابيين والمرتزقة الفارين إلى المناطق غير المحررة حتى الآن، التى تخضع لسيطرة حكومة السراج فى طرابلس ومصراتة.
اعترف غسان سلامة، فى المؤتمر الصحفى الذى عقده الجمعة الماضى على هامش اجتماعات حوار جنيف، بأن الوضع فى ليبيا "هش"، وأنه يخشى تحول الصراع فيها إلى حرب إقليمية نتيجة تدخل الأطراف الخارجية، مشيرا إلى أن الهدنة فى ليبيا ليست مستقرة، وأنه سيدعو إلى جولة مفاوضات جديدة (5+5) قريبا، لاستكمال المشاورات، لكنه لم يحدد توقيتا محددا لتلك الدعوة، وتركها مفتوحة بحسب الظروف ومقتضيات الموقف.
أعتقد أن علاج الأزمة الليبية يقتضى قدرا أكبر من الوضوح والصراحة، وإلا فالأزمة ستظل فى المربع رقم واحد دون حل جذرى، والبداية تكمن فى ضرورة التصدى للتدخل التركى، والضغط على "السراج"، حتى يقوم أولا بإنهاء الاتفاق غير الشرعى مع تركيا، فلا يمكن أبدا "شرعنة" التدخل الأجنبى للقتال ضد الجيش الوطنى الليبى والقبائل ومجلس النواب الليبى، وغيرهم من جموع الشعب الليبى، ومؤسسات الدولة الوطنية الليبية التى تقف إلى جوار الجيش الوطنى، لاستكمال مهامه فى بسط كامل نفوذه على كل الأراضى الليبية.
فى تلك الحالة فقط يمكن أن يدعو المبعوث الأممى غسان سلامة إلى حوار ليبى داخلى من أجل وضع خريطة طريق لإطلاق العملية السياسية، التى تستهدف وضع دستور متفق عليه بين أبناء الشعب الليبى، ثم انتخابات رئاسية وبرلمانية، لتعود ليبيا إلى دورها العربى والإقليمى والدولى.
منذ 9 سنوات بدأت المأساة فى ليبيا بتدخل أجنبى "فج"، فى مثل هذا الشهر (مارس) من 2011، حينما فرضت قوات "الناتو" منطقة حظر طيران فوق ليبيا، طبقا لقرار مجلس الأمن رقم 1973، ليكون ذريعة لقوات "الناتو" بقصف ليبيا، وتدمير المنشآت والمؤسسات الليبية، لتدخل بعدها ليبيا فى دوامة الفوضى والانهيار منذ 9 سنوات حتى الآن.
تحولت ليبيا، خلال تلك السنوات، إلى وكر وملاذ آمن للإرهابيين والفارين من بقايا "القاعدة" و"داعش"، ورغم كل تلك الظروف الصعبة فقد استطاع الجيش الليبى، بقيادة خليفة حفتر، "لملمة" شتاته مرة أخرى، ليعيد فرض الأمن والهدوء على مناطق كثيرة من ليبيا، ولم يعد هناك سوى العاصمة طرابلس وبعض المناطق المتاخمة لها، وكان من الطبيعى أن يساعد "السراج" وحكومته المزعومة الجيش الوطنى الليبى، خاصة أنه يرى التفاف الشعب الليبى حول جيشه الوطنى، وكذلك تأييد مجلس النواب الليبى، برئاسة عقيلة صالح، خطوات الجيش الليبى، من أجل إنهاء معاناة الشعب الليبى المتصاعدة.
المفاجأة غير السارة كانت فى موقف "السراج"، الذى اتضحت نياته بعد رفضه الاتفاق مع الجيش الليبى، ليس هذا فحسب، لكن الأمور تدهورت بسرعة إلى الأسوأ، حينما لجأ إلى المطالبة بالتدخل الأجنبى ضد الجيش الليبى، وكأنه يعيد السيناريو نفسه الذى حدث منذ 9 سنوات، مكررا مشهد مندوب ليبيا بمجلس الأمن فى 2011 نفسه، الذى ساند التدخل العسكرى ضد بلاده فى مأساة إنسانية لن تنسى، ولن يغفرها التاريخ له، لأنه أسهم فى تدمير دولته، وتهجير شعبه طيلة هذه المدة، لينجو بنفسه، ويبحث لنفسه عن مكان آمن حتى وإن كان ذلك على حساب دماء شعبه، وتدمير دولته.
"السراج" يلعب دور المندوب الليبى نفسه، الذى تواطأ ضد شعبه، فهو لا يتورع عن فتح الباب أمام من يرغب من دول العالم فى التدخل بشرط حمايته وحماية ميليشياته، وذلك بنص تصريحاته لوكالة أنباء "الأناضول" التركية، التى نشرتها صحيفة "الشرق الأوسط" السعودية فى عددها الصادر الخميس الماضى، التى أشار فيها إلى أن حكومته خاطبت دولا عديدة، لمساعدتها عسكرية، ومن بينها الولايات المتحدة وبريطانيا وتركيا، وأن تركيا هى التى استجابت، لتظل تركيا القاسم المشترك الوحيد فى الاعتداء على الشعب الليبى منذ 9 سنوات، والاعتداء الجديد الآن.
أعتقد أن دور الشعب الليبى الآن هو الفيصل فى إنهاء هذه الأزمة، بعد أن سئم الفوضى والانفلات، وإهدار موارده وثرواته لمصلحة الميليشيات، وبارونات الحرب، والأطماع الخارجية، وهو وحده الذى يجب أن يعلو صوته، لمساندة جيشه الوطنى، ودعم مجلس نوابه الشرعى، والوقوف صفا واحدا من أجل استكمال باقى تحرير الأراضى الليبية فى طرابلس والمناطق المحيطة بها، لتنتهى المأساة التى يعيشها أبناء الشعب الليبى، وتعود ليبيا دولة قوية موحدة لكل مواطنيها، فى إطار من العدالة وسيادة القانون.