موازنة التحول من الإصلاح المالى إلى الإصلاح الهيكلى
بقلم: عبدالمحسن سلامة
ربما تكون هناك علاقة قوية بين المبادرة الرئاسية، التى يجرى الإعداد لها الآن، لتشجيع المنتج المحلى وتخفيض الأسعار، وبين الإعداد للموازنة الجديدة (2020ـ2021)، وتحولها من الإصلاح المالى إلى الإصلاح الهيكلى.
المبادرة الرئاسية الجديدة، التى من المقرر أن يطلقها الرئيس عبدالفتاح السيسى خلال المرحلة المقبلة، تعكف الحكومة، برئاسة د. مصطفى مدبولى، على دراستها الآن، وتمت مناقشتها الخميس الماضى مع الوزراء المعنيين بهدف دعم المنتج المحلى، وتحريك السوق والمبيعات، بما يسهم فى تشجيع الصناعة الوطنية والارتقاء بها ودعمها، بدءا من قاعدة البيانات الخاصة بقائمة المنتجات والسلع التى ستشارك فى هذه المبادرة، مرورا بالحملة التسويقية وخطط المتابعة الميدانية، وانتهاء بآليات التمويل المتاحة وغيرها من الإجراءات.
المبادرة كلها تصب فى خانة دعم الصناعة الوطنية التى تحتاج إلى دفعة قوية خلال المرحلة المقبلة، بعد أن تجاوزت مصر مرحلة الإصلاح المالى، لتبدأ مرحلة الإصلاح الهيكلى.
الحديث عن دعم الصناعة وتطويرها وتحفيزها يدخل ضمن الإصلاح الهيكلى، لأن الصناعة أحد الأجنحة المهمة لهذا الإصلاح المقبل، بما يضمن تحويل مسار الاقتصاد المصرى من الاقتصاد الريعى إلى الاقتصاد الإنتاجى، ليصبح أكثر قدرة على مواجهة الأنواء والعواصف والتقلبات التى تجتاح العالم بين آونة وأخرى.
ميزة الاقتصاد الإنتاجى أنه أكثر صمودا فى مواجهة تلك الأنواء، ولا يتأثر بسرعة كما يحدث فى الاقتصاد الريعى، مثلما يحدث حاليا فى أزمة فيروس "كورونا" الذى يجتاح العالم، وأدى إلى وقف معظم رحلات السياحة والسفر بين الكثير من بلدان العالم، وتقليل حركة الواردات والصادرات بشكل مفاجئ وغير متوقع.
المبادرة الرئاسية جاءت فى توقيت متزامن فى وقت يتم التجهيز فيه للموازنة الجديدة (٢٠٢٠ ـ ٢٠٢١)، لتتكامل معها فى إطار رؤية قائمة على طرح العديد من البرامج والمبادرات والحوافز الداعمة للإصلاح الهيكلى.
سألت د. محمد معيط، وزير المالية، عن خطط الحكومة للإصلاح الهيكلى فى الموازنة الجديدة، وهل هناك خطوات محددة فى هذا الإطار تضمنتها تلك الموازنة، للاستفادة من نجاح الإصلاح الاقتصادى خلال السنوات الثلاث الماضية؟.
أجاب: ما تحقق من نجاحات اقتصادية خلال الفترة الماضية، التى أعقبت إطلاق برنامج الإصلاح الاقتصادى، كان ضرورة قبل الحديث عن الإصلاحات الهيكلية، ولأول مرة خلال العام الماضى يتم تدبير المصروفات من الإيرادات الفعلية للدولة، وسجلت مصر المركز الثانى عالميا، بعد الإكوادور، فى الفائض الأولى بنسبة 2%. كما احتلت مصر المركز السادس عالميا فى نسبة النمو بمعدل 5.6%. وفى مجال خفض الدين، نجحت مصر فى خفض معدل الدين من 108% من إجمالى الناتج المحلى إلى 90% خلال عامين فقط، أى أنه تم تخفيض معدل الدين إلى إجمالى الناتج المحلى بنحو 18%، لتحتل مصر المركز الأول فى هذا المجال عالميا، مشيرا إلى أن الموازنة الجديدة تستهدف وصول خفض معدل الدين إلى 79% من إجمالى الناتج المحلى، لكن ربما يقلل من هذه التوقعات أزمة فيروس "كورونا" وتبعاته وتحدياته والمدة الزمنية التى يخيم فيها بآثاره السلبية على الاقتصاد العالمى، وكلما كانت المدة أقل كان التأثير محدودا، وتستطيع الموازنة مواجهته بسهولة، وهو ما نتمناه حتى لا تحدث تأثيرات سلبية خارج التوقعات.
وأضاف د. محمد معيط، وزير المالية، قائلا: هذه التطورات الإيجابية للاقتصاد المصرى هى التى ساعدت الحكومة فى إعداد الموازنة الجديدة، لتركز على الإصلاح الهيكلى للاقتصاد المصرى، من خلال برنامج واضح، ومبادرات محددة تستهدف تحفيز القطاع الصناعى، من أجل خلق فرص عمل جديدة، واستدامة تحسن هيكل النمو، ورفع معدلاته، فى إطار إطلاق حزمة من الحوافز، لتشجيع دعم الصناعة الوطنية، وتعظيم القدرات المحلية الإنتاجية.
هذه المبادرات والحوافز ستسهم فى تنشيط الصناعة وزيادة معدلات الصادرات غير النفطية خلال الفترة المقبلة.
ويدخل ضمن هذه الحوافز والمبادرات الدفع بعدة تشريعات جديدة تتعلق بالشراكة مع القطاع الخاص، والجمارك، والضرائب، والحسابات الختامية، والمعاملة الجمركية والضريبية للكثير من الصناعات المحلية مثل صناعة الورق كنموذج يستفيد من هذه الإجراءات.
بعيدا عن تصريحات د. محمد معيط والموازنة الجديدة، فقد بدأت مصر برنامجا طموحا للإصلاح الاقتصادى منذ ما يقرب من 4 سنوات، وبالتحديد فى نوفمبر 2016، ووقتها كان الاقتصاد المصرى على شفا الإفلاس، بعد ما شهدته البلاد من فوضى وانفلات وتوقف عجلة الإنتاج عقب 25 يناير 2011.
لولا هذا البرنامج الطموح والقاسى لكان مصير الاقتصاد المصرى مشابها لمصير الاقتصاد اللبنانى الآن، الذى عجز عن الوفاء بالتزاماته فى سداد الأقساط السنوية المقررة للديون.
الآن تغيرت الصورة، وأصبح الاقتصاد المصرى قادرا على الوفاء بجميع التزاماته الخارجية والداخلية، بل إنه أصبح يملك أكبر احتياطى نقدى فى تاريخه، بعد أن زاد على 45 مليار دولار، ليتجاوز حاجز الأمان العالمى، لأنه يفى باحتياجات واردات مصر 9 أشهر، فى حين أن معدل الأمان العالمى يكتفى بـ6 أشهر فقط.
ليس هذا فقط بل انعكس نجاح الإصلاح الاقتصادى على بدء تعافى الجنيه المصرى، واستعادته نسبة كبيرة مما فقده أمام الدولار خلال فترة ما قبل الإصلاح الاقتصادى، وبعد أن كان الدولار يلامس حاجز الـ20 جنيها وقت بدء الإصلاح تراجع الآن ليلامس حاجز الـ15 جنيها ونصف الجنيه، ولم تعد هناك أزمات فى خروج أو دخول العملة الصعبة، وأصبحت متروكة للعرض والطلب. وحينما تعرض الاقتصاد العالمى لأزمة نتيجة الحرب التجارية الشرسة بين أمريكا والصين، والأزمة المالية فى الأرجنتين، خرج كثير من رؤوس الأموال من مصر، واستطاع الاقتصاد المصرى امتصاص الأزمة بسهولة، ودون تداعيات كبيرة نتيجة القدرة على تحمل الصدمات التى بات يتمتع بها بعد أن تجاوز أزماته ومشكلاته.
هذا النجاح يجعل من مواجهة تحدى التحول إلى الإصلاح الهيكلى للاقتصاد المصرى ضرورة ملحة، والبداية تكمن فى رفع كفاءة الكوادر البشرية، وتوفير المناخ التشريعى اللازم لنجاح الإصلاح الهيكلى، من خلال تعزيز المخصصات المالية للصحة والتعليم والتدريب.
لقد نجح البنك المركزى، بقيادة محافظه طارق عامر، فى إطلاق مجموعة من المبادرات الخاصة بدعم القطاع الصناعى والشركات المتعثرة، بدأت بمبادرة أولية، قدرها 20 مليار جنيه، ثم مبادرة ثانية بلغت نحو 100 مليار جنيه، وكلها تهدف إلى إنقاذ الشركات والمصانع المتعثرة، وإعادة دوران عجلة الإنتاج بها من جديد، بعيدا عن القضايا والمحاكم والتهديد بالحبس.
يأتى بعد ذلك - ضمن رؤية متكاملة للحكومة - إطلاق حزمة من المحفزات الضريبية والجمركية، لدعم الصناعة الوطنية، وكل وسائل الإنتاج المحلية سواء كان ذلك زراعيا أو صناعيا أو تكنولوجيا، بما يؤدى فى النهاية إلى رفع كفاءة المنتجات الوطنية، وزيادة قدرتها على سد حاجة الاستهلاك المحلى، من أجل الحد من الواردات، وزيادة الصادرات من المنتجات غير النفطية، لتتحول مصر إلى "صين العرب وإفريقيا" خلال المرحلة المقبلة، بعد أن نجحت فى تخطى أزماتها المالية، ونجاح برنامج الإصلاح الاقتصادى بشهادة كل المؤسسات الدولية المعنية.
أخيرًا، فإن تحدى "كورونا" ربما يكون له بعض التأثيرات السلبية اقتصاديا مثل التأثيرات السلبية فى حصيلة السياحة وعائدات قناة السويس، لكن على الجانب المقابل، فإن هناك أيضا آثارا إيجابية مثل انخفاض أسعار البترول، الذى يؤدى بدوره إلى تخفيض هائل فى فاتورة دعم المنتجات البترولية، وكذلك انخفاض فاتورة الاستيراد بشكل عام.
عمومًا فإن تأثيرات "كورونا" من الصعب التنبؤ بها، وفى كل الأحوال كلما كانت مدة الأزمة قصيرة ومحدودة فالاقتصاد المصرى مؤهل الآن للتعامل مع تلك الصدمات الطارئة، كما حدث فى الأزمات المالية العالمية عام 2018، وهذه هى أهم نتائج نجاح الإصلاح الاقتصادى، الذى أطلقه الرئيس عبدالفتاح السيسى فى نوفمبر 2016 وقد راعت الموازنة الجديدة (٢٠٢٠ - 2021) أزمة "كورونا" الطارئة، ووضعت العديد من السيناريوهات البديلة المحتملة، للتعامل مع تلك الأزمة إذا طال أمدها لا قدر الله.