"صداع" إثيوبى فى "رأس" إفريقيا!
بقلم عبدالمحسن سلامة
للأسف الشديد تحول السد الإثيوبى إلى"صداع" دائم فى "رأس" القارة الإفريقية، وبدلا من أن يكون أداة للتعاون والتكامل بين دول حوض وادى النيل، أصبح أكبر أزمة تواجه القارة الإفريقية، فى القرن الحادى والعشرين.
مازالت إثيوبيا تصر على المراوغة والخداع والتسويف، وبسبب كل ذلك لم يكن مفاجئا فشل جولة المفاوضات الأخيرة فى الأسبوع الماضى والتى تبنتها ودعت إليها السودان، لأن "إفشال" المفاوضات أصبح صناعة إثيوبية بامتياز، حيث تقول غير ما تفعل وتظهر غير ما تبطن، وتدخل كل جولات المفاوضات بهدف إضاعة الوقت والتسويف فى محاولة منها لفرض أمر واقع على دولتى المصب "مصر والسودان".
ولأن مصر تعى ذلك فقد أبدت تحفظها قبل بداية الجولة الأخيرة للمفاوضات، لكنها رغم هذا التحفظ لبت دعوة السودان الشقيق، ولم "تشأ" أن تغلق الأبواب فى وجه المساعى الحميدة والمخلصة من السودان الشقيق، لتبدأ المفاوضات التى قادها وزير الرى السودانى ياسر عباس، والتى امتدت إلى أكثر من أسبوع، فى محاولة لإيجاد توافق حول القضايا الخلافية فى النقاط الفنية والقانونية العالقة، إلا أن إثيوبيا ظلت كما هى "تراوح مكانها"، و"تراوغ"، ولا تقدم حلولا، وإنما ينصب كل هدفها على فرض الأمر الواقع على دولتى المصب، وفى الوقت ذاته تبذل قصارى جهدها لضرب الوفاق المصرى ـ السودانى، وهو نهج خبيث تتبعه إثيوبيا منذ بداية الأزمة، وبدأته مع عمر البشير، ولاتزال حتى الآن تحاول الوقيعة بين الجانبين المصرى والسودانى، رغم موقف حكومة السودان الواضح برفض تصرفات إثيوبيا الأحادية، ورفض الانضمام لاتفاقية ثنائية تخص "الملء الأول للسد".
بيان وزارة الرى المصرية كان واضحا فى تفنيد المواقف الإثيوبية التى أدت إلى فشل جولة المفاوضات الأخيرة فى السودان، لأنه وبحسب البيان فقد رفضت إثيوبيا مناقشة الجوانب القانونية المتعلقة بقيام الدول الثلاث بإبرام اتفاقية ملزمة وفق القانون الدولى، وأرادت أن يكون ذلك مجرد قواعد إرشادية يمكن لإثيوبيا أن تقوم بتعديلها بشكل منفرد.
أيضا سعت إثيوبيا إلى الحصول على حق مطلق فى إقامة مشروعات فى أعالى النيل الأزرق، وكذلك رفضت الموافقة على أن يتضمن الاتفاق آلية قانونية ملزمة لفض المنازعات، أو أن تكون هناك إجراءات ذات فاعلية لمجابهة الجفاف.
رفض الجانب الإثيوبى فى نهاية المحادثات أن تتم إحالة نقاط الاختلاف إلى رؤساء وزراء الدول الثلاث كفرصة أخيرة للبحث عن حلول لتلك النقاط الخلافية، مما أدى إلى إنهاء المفاوضات دون التوصل إلى حل، شأنها فى ذلك شأن جولات المفاوضات الممتدة منذ 9 سنوات.
هذا هو الموقف الإثيوبى المتكرر فى كل المفاوضات السابقة التى امتدت لما يقرب من 9 سنوات حتى الآن فهى تتظاهر بأنها تسعى إلى الحل، وتعلن عن رغبتها فى التوافق لتبدأ جولات المفاوضات المتكررة التى تمتد لفترات طويلة، وتنتهى كما بدأت.
لم تكن مفاوضات واشنطن ببعيد عن ذلك النهج، وهى المفاوضات التى دعت إليها الولايات المتحدة الأمريكية، وتحت رعاية الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، وشارك فيها البنك الدولى، والتى استبشرت فيها شعوب الدول الثلاث بقرب التوصل إلى اتفاق نهائى، ودارت مفاوضات ماراثونية شاقة، وانتهت المفاوضات إلى اتفاق شبه نهائى، شارك فى كل مراحله الوفد الإثيوبى، وكان هناك بعض النقاط الخلافية التى تم الاتفاق بين وفود الدول الثلاث على قبول وساطة الولايات المتحدة الأمريكية والبنك الدولى بشأنها، وبالفعل تم التوصل إلى الصياغة القانونية لتلك النقاط الخلافية من جانب الأطراف الدولية المشاركة.
تذرع الوفد الإثيوبى بمهلة للتشاور، لكنه ذهب ولم يعد، واضطرت مصر للتوقيع على تلك الاتفاقية بمفردها، وكان ذلك منتهى الذكاء الدبلوماسى من الوفد المصرى.
صحيح أن مصر وقعت بمفردها، لكن التوقيع المصرى يعنى ببساطة أن هناك اتفاقا تم التوصل إليه عبر الشركاء الدوليين، وأن هناك قبولا دوليا لهذا الاتفاق ولذلك كانت مصر حريصة على التوقيع لتؤكد للعالم كله رغبتها فى السلام، وفى ذات الوقت تكشف الموقف الإثيوبى "المراوغ" و "المخادع" أمام دول العالم.
رغم تمسك مصر بورقة واشنطن إلا أنها قبلت الدخول فى جولة المفاوضات الأخيرة برعاية الجانب السودانى بحسن نية سعيا منها لاستنفاد، واستكشاف جميع السبل المتاحة للتوصل إلى اتفاق عادل ومتوازن حول السد الإثيوبى، بما يؤمن لإثيوبيا تحقيق أهدافها التنموية من هذا المشروع، وفى الوقت ذاته تأمين مصالح دولتى المصب، إلا أن إثيوبيا فى كل مرة تظهر سوء نياتها، وأنها لاتريد السلام أو الخير لشعوب وادى النيل، وبدلا من أن يكون السد مصدرا من مصادر التعاون، تحول إلى مصدر للقلق والتوتر فى القارة الإفريقية.
ربما تكون الميزة الوحيدة لجولة المفاوضات الأخيرة هى إظهار وحدة الموقفين المصرى والسودانى حيث أكدت السودان رفضها الملء الأحادى للسد الإثيوبى على لسان وزير الرى السودانى ياسر عباس الذى أشار إلى خطورة المواقف الأحادية الإثيوبية على السودان خاصة فيما يتعلق بسد الروصيرص السودانى، وما ينتظره من مخاطر فى حالة التشغيل الأحادى للسد الإثيوبى.
المواقف السودانية المعلنة من جانب الحكومة السودانية مواقف إيجابية فى مجملها مما دعا وزير الرى د.محمد عبد العاطى إلى الإشادة بتلك المواقف السودانية وتقدير مصر لمساعى السودان الجادة فى هذا الخصوص.
لقد نجحت الدبلوماسية المصرية باقتدار وحكمة فى كشف الألاعيب الإثيوبية أمام العالم، وفضح النوايا العدوانية الإثيوبية التى تستهدف الإضرار بالشعب المصرى، ومقدراته، وموارده المائية، فى وقت لاتحتاج فيه إثيوبيا للمزيد من الموارد المائية.
تعلن إثيوبيا أنها تريد "السد" لتوليد الكهرباء وهو مبدأ لا تعارضه مصر منذ بداية الأزمة، لكنها فى المفاوضات تظهر عكس ذلك، وتريد أن تجعل من "السد" بوابة لإثارة المشكلات والنزاعات، وتدفع بالمنطقة إلى حافة الهاوية، وبالقارة الإفريقية كلها إلى دائرة الصراعات والحروب.
هذه الحالة من التوتر التى أوجدتها إثيوبيا فى المنطقة دفعت مجلس الأمن القومى الأمريكى إلى دعوة "أديس أبابا لإبرام "صفقة عادلة" مع دولتى المصب المتضررتين من بناء السد قبل "الملء"، وكتب مجلس الأمن القومى الأمريكى على صفحته الرسمية مطالبا إثيوبيا بالتحرك العاجل من أجل ذلك، مشيرا إلى "أن 257 مليون شخص فى شرق إفريقيا ينتظرون ذلك الاتفاق".
تحرك مجلس الأمن القومى الأمريكى، يجب أن يكون بداية لتحرك دولى عاجل ضد إثيوبيا خاصة فى مجلس الأمن الدولى ليقوم بدوره المتوقع فى الحفاظ على السلام والاستقرار فى إفريقيا، وايجاد حل "للصراع" الإثيوبى الدائم والمستمر فى "رأس" إفريقيا منذ ما يقرب من 9 سنوات.
أيضا من المهم أن ينزع الاتحاد الإفريقى فتيل الأزمة الإثيوبية قبل تفاقمها خاصة أن إثيوبيا هى دولة المقر للاتحاد الإفريقى، وأن يكون هناك موقف واضح وفعال من الاتحاد الإفريقى تجاه سوء النيات الإثيوبية ومحاولتها الإضرار بمصالح وحقوق دولتى المصب، حتى وإن اقتضى الأمر تجميد عضوية إثيوبيا فى الاتحاد الإفريقى، وسحب المقر الدائم من هناك، بعد أن تحولت إثيوبيا إلى دولة مثيرة للنزاعات والقلاقل وغير حريصة على السلم والأمن لدول القارة.
أعتقد أن الأمر لم يعد يحتاج إلى المزيد من المفاوضات، وورقة واشنطن هى "الحاسمة" فى هذا الإطار، والأمر كله يتوقف على الإرادة السياسية لدولة إثيوبيا، ومدى رغبة القيادة الإثيوبية فى نهج طريق السلام والاستقرار لمصلحة شعوب الدول الثلاث، أم أنها تصر على السير عكس الاتجاه، وإشعال فتيل أزمة ليس لها ما يبررها على أرض الواقع.