30 يونيو والقدرة على مواجهة التحديات الكبرى
عبدالمحسن سلامة
منذ 7 سنوات كان الموقف فى مصر شديد الصعوبة والتعقيد وسط مخاوف شعبية من انهيار الدولة، ونشوب حرب أهلية، بعد أن عمت المظاهرات والإضرابات والاعتصامات أرجاء مصر كلها، وتحولت المظاهرات إلى اشتباكات دموية عنيفة، نتج عنها وقوع عشرات القتلي والمصابين.
ارتفعت مطالبات الشعب للجيش بالتدخل، وحماية المواطنين الذين خرجوا مطالبين برحيل مرسى وجماعته بعد أن رفض الدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة.
خرج الشعب عن بكرة أبيه فى 30 يونيو 2013 فى ثورة شعبية غطت كل ميادين ومحافظات مصر، ولم يكن أمام الجيش خيار آخر سوى الاستجابة للمطالبات الشعبية، وحماية المتظاهرين وثورتهم التى أسقطت حكم الإخوان.
فى هذا التوقيت كانت مصر تعاني الشلل التام فى جميع النواحي الاقتصادية والأمنية، وانهار الاقتصاد إلى درجة غير مسبوقة، وتراجع تصنيف مصر الائتمانى إلي أدني مستوياته + " ccc "طبقا لتصنيف مؤسسة "ستاندرد آند بورز" العالمية.
فى تلك الاثناء انكفأت مصر على نفسها فى الداخل، وأصبح الشغل الشاغل لكل المواطنين حلم استعادة الأمن، والقضاء على العصابات الإجرامية الجنائية والسياسية التى احتلت الشوارع، وكانت سرقات السيارات والجرائم الجنائية تتم فى وضح النهار، وإلى جوار ذلك "شحت" السلع فى الأسواق، وامتدت الأزمة إلى رغيف الخبز وأسطوانة البوتاجاز، وغيرهما من الأشياء البسيطة التى كنا نعتقد أنها أزمات تاريخية لن تعود.
وسط هذه الأجواء الصعبة خرجت الجماهير رافضة تلك الحالة "المتدنية" التي وصلت إليها الأوضاع فى مصر، ونادت بالتغيير، وإنهاء كل مظاهر الفوضي والانفلات.
بعد مرور 7 سنوات تغيرت الأوضاع بشكل جذرى، وقفزت مصر خطوات سريعة على مختلف الأصعدة، وهو ما جعل الاقتصاد المصرى قويا ومتماسكا رغم أزمة كورونا التى هبطت على العالم فجأة وبلا مقدمات.
طبقا لتوقعات صندوق النقد الدولى، فإن معدلات النمو فى الاقتصاد المصرى من المتوقع أن تتصدر قائمة أكبر 30 دولة فى العام الحالى 2020، ووفقا لتلك التوقعات فقد احتلت مصر المرتبة الأولى فى القائمة بمعدل نمو 2% تليها الصين بمعدل نمو 1%، وتوقع تقرير آفاق الاقتصاد العالمى الصادر عن صندوق النقد الدولى أن يبلغ النمو العالمي نموا سالبا بقيمة 4.9% فى عام2020 بانخفاض قدره 1.9% عما تنبأ به الصندوق فى إبريل الماضى.
العمل الشاق والدءوب الذى صاحب برنامج الإصلاح الاقتصادى فى مصر هو الذى أسهم فى "تمكين" مصر من مواجهة الأزمة التي وصفها صندوق النقد الدولى بأنها أزمة لا مثيل لها، مشيرا إلي أن تعافى الاقتصاد العالمى مازال غير مؤكد.
صمود الاقتصاد المصرى فى مواجهة الأزمة جعل وكالات التصنيف الائتمانى العالمية تحافظ على تثبيت التصنيف الائتمانى المصرى عند مستوى "B" مع نظرة مستقبلية مستقرة ليظل محافظا على مستواه كما كان قبل كورونا.
إلى جوار الإصلاح الاقتصادى، سارت خطوات هائلة نحو إعادة تأهيل القوات المسلحة بشكل سريع وغير مسبوق ليقفز الجيش المصري قفزة هائلة فى ترتيب جيوش دول العالم المختلفة، ويتصدر المركز الأول عربيا والتاسع عالميا، طبقا لتصنيف موقع "جلوبال فاير باور" المتخصص فى هذا الشأن.
جاء علي رأس قائمة تصنيف الجيوش الأقوى فى العالم أمريكا، وفى المركز الثانى روسيا، بعدهما الصين فى المركز الثالث، ثم الهند فى المركز الرابع، وبعدها اليابان، ثم كوريا الجنوبية، تليها فرنسا، ثم بريطانيا فى المركز الثامن، ثم مصر فى المركز التاسع متفوقا على تركيا وإيران وإسرائيل وغيرها.
رغم هذه الحالة غير المسبوقة للجيش المصرى فإنه "جيش رشيد" كما وصفه الرئيس عبدالفتاح السيسى فى معرض استعراضه لعناصر الفرقة 21 المدرعة خلال الأسبوع الماضى بقاعدة "برانى" العسكرية التى تعتبر واحدة من أضخم القواعد العسكرية التى تحمى حدود مصر الغربية.
فى قاعدة برانى العسكرية وقف الرئيس عبدالفتاح السيسى وسط الجنود والضباط مؤكدا أن جيش مصر لا يتعدى على أحد، وإنما هو "جيش رشيد" يحمى حدود ومصالح مصر وأمتها العربية داخل الحدود وخارجها، مشيرا إلى أن مصر لديها خطوط حمراء تتعلق بأمنها القومى، وأمن دولة ليبيا الشقيقة التى تمتلك مصر حدودا معها بطول 1200 كيلو متر.
ما تحدث به الرئيس فى قاعدة براني العسكرية هو ترجمة لإستراتيجية دولة 30 يونيو التى تحرص على حماية حدود الوطن البرية والبحرية والجوية، وفى الوقت نفسه تؤكد جاهزية القوات المسلحة للقيام بكل المهام داخل وخارج حدود مصر فى إطار الدفاع الشرعى عن مصلحة مصر الإستراتيجية، والاستجابة لنداء الأشقاء فى ليبيا، ورفض التدخلات غير الشرعية هناك، فى إطار دعم مصر لجهود التسوية السياسية الشاملة التى تستهدف وحدة ليبيا وسلامة أراضيها، وإتاحة المجال لكل مكونات المجتمع الليبى للمشاركة فى تحديد مستقبل الدولة الليبية الموحدة، بعيدا عن الميليشيات المسلحة، وجماعات المرتزقة المتدثرة بعباءة حكومة السراج التى سقطت شرعيتها بعد أن سمحت للتدخلات الأجنبية بالعبث فى ليبيا، وقامت بما قام به والى عكا وقت الحرب الصليبية ليحمي نفسه على حساب مصلحة شعبه وأمته.
ما فعلته دولة 30 يونيو على مدي السبع سنوات الماضية هو الذى جعل مصر تنهى حالة "الإنكفاء الداخلي"، وتتبنى إستراتيجية "رشيدة" توازن بين مصالحها فى الداخل وارتباطاتها بالخارج دون أن تتورط فى مغامرات غير محسوبة، وفى الوقت نفسه تحافظ على مصالحها الإستراتيجية، وأمنها القومى والإقليمى.
علي الجانب الآخر، جاءت أزمة السد الإثيوبى لتفرض نفسها على أجندة قاعدة برانى العسكرية، وهى الأزمة التى أثارت قلق الشعب المصري كله بسبب تعنت إثيوبيا ومراوغتها وسوء نياتها علي مدى ما يقرب من 9 سنوات حتى الآن.
أزمة السد الإثيوبى نموذج صارخ للكوارث التى هبطت على مصر قبل 30 يونيو. بسبب استغلال إثيوبيا للفوضى والانفلات والتوترات التى كانت سائدة فى مصر بعد ثورة 25 يناير، وحتى قيام ثورة 30 يونيو.
خلال تلك الفترة أعلنت إثيوبيا عن خطتها لإقامة السد، وما كانت لتجرؤ أن تفعل ذلك قبل 25 يناير، وبسرعة شديدة وضعت حجر أساس السد وشرعت فى البناء على الفور دون دراسات كافية، واستغلت حالة "السيولة" التي كانت تعيشها مصر، واستكملت مخططها القائم على الخداع والمراوغة، فى محاولة منها لفرض أمر واقع غير مرغوب فيه على دولتى المصب "مصر والسودان".
مدت مصر حبال الصبر المدروس القائم علي حسن النيات، وكانت البداية بعد ثورة 30 يونيو وتولى الرئيس عبدالفتاح السيسى المسئولية عام 2014 التوقيع على اتفاقية إعلان المبادئ الملزمة للأطراف الثلاثة "مصر، وإثيوبيا، والسودان" بضرورة الاتفاق والتشاور فى كل مراحل بناء وتشغيل السد، وعدم الإضرار بمصلحة مصر والسودان المائية، وعدم التشغيل الأحادى من جانب إثيوبيا للسد، وأن يكون هناك اتفاق فنى وقانونى ملزم للدول الثلاث.
تفننت إثيوبيا فى إفشال كل جولات المفاوضات الثلاثية "مصر، والسودان، وإثيوبيا"، وكذلك مفاوضات واشنطن التى كانت برعاية الولايات المتحدة الأمريكية، والبنك الدولى، ثم أخيرا المفاوضات التي تبناها السودان الشقيق، وانتهت كما بدأت بالمراوغات والأكاذيب الإثيوبية.
كان الرئيس عبدالفتاح السيسى واضحا فى قاعدة برانى العسكرية، حينما أشار إلى أن تحرك مصر إلى مجلس الأمن جاء حرصا علي المسار الدبلوماسى والسياسى حتى نهايته لحل الأزمة، مشيرا إلى حديثه أمام مجلس النواب الإثيوبى الذى تحدث فيه إلى الشعب الإثيوبى مؤكدا تفهم مصر لحق التنمية فى إثيوبيا من السد، لكنه في الوقت نفسه فلابد أن يتفهم الشعب الإثيوبى حق مصر فى الحياة، كما يتفهم الشعب المصرى حق إثيوبيا فى التنمية.
أزمة السد الإثيوبي أزمة "فارقة" فى حياة المصريين، وهى نموذج لحالة الفوضي الكارثية لما قبل ثورة 30 يونيو، وحالة الدولة القوية الرشيدة، بعد 30 يونيو التي لم تترك بابا للسلام إلا وطرقته، وفى الوقت نفسه هى دولة قوية وواثقة من قدرتها على عدم التفريط فى حق الشعب المصري ومكتسباته وحقوقه المائية التى هى جزء أصيل من حقه فى الحياة.
أتمني أن يكون لمجلس الأمن موقف واضح وقوي يعيد الأمور إلي نصابها فى مفاوضات سد إثيوبيا لتنتهى تلك المفاوضات باتفاقية شاملة تنهي صراع السد تماما، وتحقق طموحات شعوب الدول الثلاث فى السلام والرخاء والتكامل الاقتصادى