مجلس الأمن بين المغالطات "الإثيوبية" والحقائق "المصرية"
بقلم: عبدالمحسن سلامة
لأنها قضية حياة ووجود كما يصفها الرئيس عبدالفتاح السيسى دائما فقد تابع كل المصريين جلسة مجلس الأمن ـ عبر شاشات التليفزيون ـ التى عقدها بخصوص أزمة سد النهضة، بعد أن رفعت مصر والسودان القضية إلى مجلس الأمن لإعمال شئونه وإحاطته بخطورة الموقف قبل أن يتفاقم ويتدهور ويهدد الأمن والسلم العالميين.
اللافت للانتباه فى الجلسة هو حجم المغالطات الإثيوبية، ومنهج خلط الأوراق الذى تبنته إثيوبيا فى كلمتها أمام مجلس الأمن التى ألقاها مندوب إثيوبيا فى الأمم المتحدة السفير تاى أسقى سلاسى.
بدأ السفير الإثيوبى كلمته قائلا "لا نعتقد أن قضية سد النهضة لها مكان شرعى فى مجلس الأمن"وكأنه يصادر حق مجلس الأمن فى مناقشة تلك القضية التى تهدد حياة أكثر من 150 مليون مواطن فى مصر والسودان، رغم أنه يعلم أن مجلس الأمن هو الجهة المنوط بها حفظ الأمن والسلم العالميين، والأهم من ذلك أن مصر والسودان ذهبتا إلى المجلس بعد انقضاء ما يقرب من 10 سنوات على المفاوضات التى انخرطت فيها مصر والسودان بمنتهى الانفتاح وحسن النوايا، ولايزال الموقفان المصرى والسودانى متمسكين بالتوصل إلى اتفاق ثلاثي يراعى مصالح شعوب الدول الثلاث "مصر، وإثيوبيا، والسودان"، وطوال الوقت كان ولايزال الموقف المصرى واضحا بمساندة حق إثيوبيا فى التنمية لكن فى المقابل دون أن يكون هناك إضرار بمصالح وحقوق دولتى المصب "مصر والسودان".
أشار المندوب الإثيوبى إلى إعلان المبادئ الذى تم توقيعه عام 2015 باعتباره وثيقة وقع عليها زعماء الدول الثلاث وحددت مسارات التفاوض، ووضعت آلية للوصول إلى حل مقبول من خلال الاستفادة من كل الخبرات واللجان والخبراء.
للأسف الشديد فإن إثيوبيا هى التى عطلت عمل اللجان طوال الفترة الماضية، وبعد أن تعاقدت الدول الثلاث مع إستشارى دولى للقيام بكل الدراسات المتعلقة بالسد وآثاره، إلا أن إثيوبيا عرقلت ذلك، ولم يتم الانتهاء بعد من تلك الدراسات بسبب الموقف الإثيوبى لتظل هناك علامات استفهام كثيرة مثارة حول أمان السد وسلامته الإنشائية مما يعرض السودان "تحديدا" لمخاطر جسيمة إذا انهار السد بسبب غياب الدراسات الفنية، ويعرضها لفيضان ترتفع فيه المياه إلى 26 مترا بعرض 150 كيلو مترا مما يعني تدميرا كاملا للسودان ـ لا قدر الله ـ.
أراد المندوب الإثيوبى "تحميل" مصر مشاكل إثيوبيا التنموية المتعلقة بنقص الكهرباء والأزمة الاقتصادية فأشار إلى أن القرى المصرية وجميع المناطق المصرية بها كهرباء فى وقت تعانى العاصمة الإثيوبية نقصا فى التغطية الكهربائية، وأن هناك 65% من الإثيوبيين يعيشون فى ظلام دامس.
يريد المندوب الإثيوبى التلميح إلى أن الكهرباء فى مصر مصدرها السد العالى، وأن مصر تستفيد من مياه النيل فى ذلك، وبالتالى فإثيوبيا تريد السير على ذات النهج.
مغالطات وخلط للأوراق تتفنن إثيوبيا فى تصديرها للمجتمع الدولى، لأن الكهرباء التى ينتجها السد العالى فى مصر لاتتجاوز 7,3% من إجمالى الطاقة الكهربائية فى مصر، وطبقا للمعلومات التى أكدها د.محمد شاكر وزير الكهرباء والطاقة خلال اتصالى به فإن إجمالى ماتنتجه مصر من الطاقة الكهربائية يبلغ 200,4 مليار ك.و.س سنويا موزعة كالآتي:
أولا: الطاقة الكهرومائية التى يتم إنتاجها من السد العالي هى 14,6 مليار ك.و.س سنويا بنسبة 7,3%.
ثانيا: الطاقة الحرارية التى يتم إنتاجها من المحطات التى تعمل بالوقود أو الغاز الطبيعي تبلغ 179,4 مليار ك.و.س سنويا بنسبة 89,5%.
ثالثا: طاقة الرياح تبلغ 3,5 مليار ك.و.س سنويا بنسبة 1,7%.
رابعا: الطاقة الشمسية وتبلغ 2,9 مليار ك.و.س سنويا بنسبة 1,5%.
د.محمد شاكر وزير الكهرباء والطاقة أكد أن مصر بذلت جهدا هائلا خلال السنوات الست الماضية للتغلب على أزمات قطاع الكهرباء مما أدى إلى القضاء نهائيا على أزمات الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائى، وقد بلغت القدرات الكهربائية التى تمت إضافتها إلى الشبكة الكهربائية الموحدة، مايزيد علي نحو 28 ألف ميجاوات أى مايقارب 14 ضعف قدرة السد العالى، مما جعل الكهرباء كافية للوفاء باحتياجات المواطنين ومتطلبات التنمية والتصدير إلى الدول الشقيقة ليبيا والسودان والأردن.
مصر لا تمانع أبدا فى نقل خبراتها إلى الأشقاء الإثيوبيين في مجال توليد الكهرباء والطاقة ـ إذا هى أرادت ـ لكن بعيدا عن المغالطات وخلط الأوراق، وإذا أرادت إثيوبيا تغطية العجز الكهربائى لديها فهناك طرق كثيرة بعيدا عن مياه النيل كما فعلت مصر، وحتى توليد الطاقة من خلال سد النهضة، فالموقف المصرى واضح تماما في مساندة إثيوبيا فى ذلك ودعم حق التنمية بها، لكن دون أن يؤثر ذلك على حياة المصريين وأرزاقهم ووجودهم كما تريد أن تفعل إثيوبيا.
تحدث المندوب الإثيوبى عن الحقوق المائية للدول الثلاث، وأن مصر أقامت من قبل خزان أسوان، والسد العالى، ونسى أن مصر هى دولة المصب الأخيرة للنيل، وأن مشروعاتها لا تؤثر إطلاقا فى حصتى إثيوبيا والسودان.
أيضا نسى المندوب الإثيوبى أن مصر هى الدولة الأكثر جفافا بين الدول الثلاث، وربما تكون الدولة الأكثر جفافا على مستوى العالم، وأن إثيوبيا تمتلك موارد مائية هائلة ويسقط عليها ما يقرب من 936 مليار متر مكعب سنويا من المياه، أى بما يوازى 20 ضعف حصة مصر من المياه، كما أن لديها أحواض 11 نهرا آخر، فى حين أن مصر تعيش فى أكثر مناطق حوض النيل جفافا مما جعل سكان مصر يعيشون على 7% من مساحة مصر فقط بسبب الجفاف، إذ يبلغ متوسط نصيب الفرد من المياه فى مصر نحو 560 مترا مكعبا سنويا مما يضع مصر على قائمة الدول التى تعانى الفقر المائى وفقا للمعايير الدولية.
على الجانب الآخر فقد جاءت كلمة مصر أمام مجلس الأمن التى ألقاها سامح شكرى وزير الخارجية متسقة مع سياسة مصر الموضوعية التى لا تعرف غير الحقائق وتمد يدها بالسلام للجميع، وفى الوقت نفسه تحافظ على حقوق الشعب المصرى ومقدراته، وترفض أى مساس بتلك الحقوق التاريخية الثابتة التى تمتد عبر آلاف السنين واستطاع شكرى تفنيد كل المغالطات الإثيوبية بالحقائق سواء تلك التى ذكرها المندوب الإثيوبى أو تلك التى لم يذكرها ويتم بثها فى أوساط الشعب الإثيوبى بغرض التحريض ضد مصر، وفى إطار محاولات كسب أصوات الناخبين وطمس الحقائق.
دأبت إثيوبيا على ترديد أنها ترفض الاتفاقيات التى تم توقيعها فى عصر الاستعمار، وهى مغالطة كبرى كشفها الوزير سامح شكري، حينما أوضح أن الاتفاقيات التى وقعتها إثيوبيا وقعتها كدولة مستقلة، ومنها الاتفاق الذى أبرمه إمبراطور الحبشة بإرادة حرة مع بريطانيا سنة 1902م الذى يمنع إثيوبيا من بناء منشآت تؤثر على سريان المياه فى مجرى النيل الأزرق، كذلك الاتفاق الإطارى الذى وقعه رئيس مجلس وزراء إثيوبيا الراحل ميليس زيناوى مع رئيس مصر آنذاك عام 1993م، والذى يلزمها بعدم إحداث أي ضرر ذى شأن بالمصالح المائية المصرية، فضلا عن اتفاق إعلان المبادئ الذى وقعه زعماء الدول الثلاث (مصر وإثيوبيا والسودان) عام 2015م.
أين الاتفاقيات الاستعمارية إذًن بدءا باتفاقية 1902 وانتهاء بإعلان المبادئ ؟!، لكنها فقط عادة إثيوبيا فى إطلاق مغالطات من أجل شحن الرأى العام الداخلى، فى وقت كان يجب علي الحكومة الإثيوبية أن تمد يدها بالتعاون مع دولتى المصب، خاصة أن إثيوبيا لديها ما يكفيها ويزيد من المياه ولا تعانى "شح" المياه كما تعانى منه مصر.
شكرى كان واضحًا وحاسمًا ووضع النقاط على الحروف وأكد أن مصر تساند وتدعم حق إثيوبيا فى التنمية لكن دون أن يهدد ذلك مقدرات ووجود ملايين المصريين والسودانيين، محذرًا من مخاطر السد التى تهدد حياة أكثر من 100 مليون مصرى لأنه مصدر الحياة الوحيد لهم.
نجح سامح شكرى فى عرض تفاصيل الأزمة منذ بدايتها وكيف انخرطت مصر بحسن نية فى المفاوضات بكل مراحلها سواء أكانت المفاوضات الثلاثية أو المفاوضات التى دعت إليها الولايات المتحدة، والبنك الدولى، وهى المفاوضات التى أثمرت اتفاقا تم إعداده برعاية أمريكا وبمساهمة فنية من البنك الدولى، ووقعت عليه مصر بالأحرف الأولى، ورفضت إثيوبيا توقيعه فى آخر لحظة رغم أنه وفر حلاً عادلاً ومتوازنًا يراعى كل الأطراف ويحفظ حقوقها المائية.
تكرر الموقف الإثيوبى نفسه فى المفاوضات التى دعا إليها السودان الشقيق، والآن نحن بصدد دعوة الاتحاد الإفريقى وما أسفر عنه اجتماع 26 يونيو الماضى، الذي طالب بضرورة التوصل إلي اتفاق حول السد فى أسرع وقت، والاتفاق على عقد اجتماعات فنية على المستوى الحكومى لتحقيق هذا الهدف خلال أسبوعين.
مر من المهلة التى حددها اجتماع هيئة مكتب القمة الإفريقية أكثر من أسبوع، ولا تزال المفاوضات "محلك سر".
أتمنى أن تتحرك إثيوبيا بسرعة على أرضية التعاون ومد يد السلام لشركائها فى مصر والسودان من أجل مستقبل مفعم بالخير إلى شعوب الدول الثلاث، وأن تكف عن طريقتها المعهودة فى المغالطات وخلط الأوراق بعد أن نجحت الدبلوماسية المصرية باقتدار فى كشف كل الحقائق أمام المجتمع الدولى كله خلال جلسة مجلس الأمن.
يبقي دور الاتحاد الإفريقى ومتابعة التوصيات التى صدرت عن هيئة مكتب الاتحاد، واتخاذ موقف صارم من "المراوغة" الإثيوبية لإنهاء الأزمة، حتى لا تكون هناك ضرورة للعودة مرة أخرى إلى مجلس الأمن.