ما بين دعوة السلام "المصرية" وحافة الهاوية "التركية"
بقلم: عبدالمحسن سلامة
فرق ضخم بين دعوة السلام المصرية التى يرددها الرئيس عبد الفتاح السيسى دائما فى كل اللقاءات والمؤتمرات والتى كان آخرها اللقاء مع وفد القبائل الليبية حينما أشار إلى أن الخطوط الحمراء التى أعلنها من قبل هى بالأساس دعوة للسلام وإنهاء الصراع فى ليبيا، بعكس التحركات التركية المشبوهة التى تؤجج نيران الصراع والفرقة بين أبناء الشعب الليبى، وتنحاز "بوقاحة" للميليشيات والجماعات الإرهابية وحكومة "ناقصة" الشرعية، وتتعنت وترفض دعوات السلام، وتصر على إشعال الموقف وتجاهل التحذيرات الدولية من مهاجمة سرت والجفرة، رغم استجابة الجيش الوطنى لدعوة وقف إطلاق النار.
استجابة الجيش الوطنى لوقف إطلاق النار جاءت أيضا من القاهرة وقت إعلان مبادرة القاهرة فى شهر يونيو الماضى حينما أعلن المشير خليفة حفتر التزامه بالوقف الفورى لإطلاق النار تأييدا لإعلان القاهرة الذى يضمن انتقالا عادلا و"سلسا" وسريعا للأزمة الليبية إلى المسار السياسى، وتأكيد مشاركة كل الأطراف الليبية بما فيها حكومة السراج وقبائل وطوائف وأقاليم ليبيا فى خريطة طريق جادة تنهى أزمة الشعب الليبى المتفاقمة منذ 9 سنوات حتى الآن.
لا أدرى سر عداء القيادة التركية "الفج" للشعوب العربية، ومناصبتها العداء للمصالح العربية التى بدأت واضحة و"جلية" فى المشهد السورى، حيث كان التدخل التركى سببا رئيسيا ومباشرا فى تعقيد الأزمة السورية، رغم أن كل البوادر كانت تشير إلى اقتراب نهاية النفق المظلم للأزمة السورية ببدء سيطرة الجيش السورى على كامل مناطق سوريا، إلا أن تركيا لعبت دورا شيطانيا فى سوريا بمنطق "حافة الهاوية" وتدخلت بفجاجة لتلعب على "أوتار" تناقضات الخلافات بين روسيا وأمريكا، لتظل سوريا غارقة فى مستنقع الخلافات والانقسامات بسبب الموقف التركى المعادى للدولة السورية والشعب السورى الذى يعانى مرارة التهجير والتدمير والخراب فى كل شبر من الأراضى السورية.
تركيا تزعم أن تدخلها فى الشأن السورى لرغبتها فى كبح جماح الأكراد، وهو كلام مرسل مردود عليه، لأن الأكراد كانوا دائما جزءا من الدولة السورية قبل حدوث الانهيار والفوضى عقب اندلاع ما سمى "الثورات العربية" التى كانت حقا يراد به باطل، فانهارت الأنظمة، واندلعت الفوضى فى كل مكان.
عودة الدولة السورية يعنى ببساطة إنهاء حالة الفوضى والانفلات فى سوريا وعودة الأمن والأمان للشعب السورى الشقيق، لكن تركيا تقوم بدور الوكيل الخفى للفوضى الخلاقة فى العالم العربى، فهى لا تريد الخير لسوريا، وتقوم عمليا بتقسيم سوريا، وعرقلة كل المساعى لعودتها دولة موحدة ذات سيادة.
تريد تركيا للأسف الشديد تكرار السيناريو السورى فى الشأن الليبى وتعمل جاهدة على عرقلة كل مساعى السلام وتوحيد ليبيا لتظل الحروب مشتعلة هناك.
انهارت ليبيا منذ 9 سنوات، بعد أن أسهمت قوى التآمر داخليا وخارجيا فى السماح بالتدخل الأجنبى فى الشأن الليبى حينما فرض "الناتو" منطقة حظر طيران فوق ليبيا طبقا لقرار مجلس الأمن رقم 1973، وقامت قوات الناتو التى شاركت فيها تركيا بدور رئيسى بضرب المنشآت الليبية وتدميرها، ليسقط النظام الليبى، وتسقط معه الدولة الليبية.
لاحظ مشاركة تركيا فى العدوان الأول على السيادة الليبية تحت دعاوى وأباطيل أثبتت الأيام سوء مقاصدها، لتتحول ليبيا منذ تلك الأيام إلى "مستنقع" للفوضى، وانقسم الشعب الليبى على نفسه، وأصبحت ليبيا "قبلة" للإرهابيين وبقايا داعش والقاعدة من كل مكان.
"ضج" المجتمع الدولى من الفوضى التى اجتاحت الأراضى الليبية بعد أن تحولت ليبيا إلى أكبر مركز للهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، وبدأ الكثير من الدول تعيد حساباتها بعد أن فشل مشروع الفوضى الخلاقة على الأراضى الليبية.
فى ظل تلك الظروف الصعبة والمعقدة التى امتدت إلى ما يزيد على 9 سنوات كاملة؛ نجح الجيش الليبى بقيادة المشير خليفة حفتر فى "لملمة" جراحة وإعادة تنظيم صفوفه، واستعادة أجزاء كبيرة من الأراضى الليبية من أيدى المرتزقة والميليشيات الإرهابية.
حينما لاحت بشائر الأمل للشعب الليبى، ولم يتبق سوى طرابلس لتعود ليبيا كما كانت دولة موحدة ومستقلة، ظهرت النيات التركية العدوانية تجاه الشعب الليبى مرة أخرى، وظهرت تركيا فى الأفق كما ظهرت من قبل فى أثناء العدوان الأول على ليبيا فى عام 2011.
ظهرت تركيا هذه المرة أيضا لتقوم بدور معادٍ للشعب الليبى كما قامت به من قبل، ولكن هذه المرة تحت ستار التعاون مع حكومة السراج الفاقدة الشرعية، بعد أن نزع البرلمان الليبى عنها أحقيتها فى تمثيل الشعب الليبى، وكذلك فعل مجلس القبائل.
مجلس النواب الليبى، الجهة الشرعية الوحيدة فى ليبيا، كشف الغطاء عن حكومة السراج، وأعلن تأييده الكامل للجيش الليبى، باعتباره المؤسسة الأمنية الوحيدة فى الدولة الليبية المنوط بها فرض الأمن والنظام على كامل الأراضى الليبية، وكذلك فعل مجلس القبائل الليبية.
رغم كل ذلك، تصر تركيا على "دس" أنفها فى الأزمة الليبية لتثير الروائح الكريهة القائمة على إثارة الكراهية بين أبناء الشعب الليبى، وتحاول بكل ما تملك منع جهود إحلال السلام فى ليبيا، وإفشال كل الخطط الرامية إلى وحدة ليبيا وعودة الأمن والأمان إلى الشعب الليبى. تلعب تركيا فى ليبيا بنفس منطق "حافة الهاوية" الذى لعبته فى سوريا، فهى تسير فى كل خططها العدوانية إلى آخر نقطة يمكن الوصول إليها دون أن تأخذ فى الاعتبار احتمال وقوع كارثة إقليمية على الأراضى الليبية؛ تؤدى إلى تقسيم الدولة الليبية، كما حدث فى سوريا.
عداء صارخ للشعوب العربية والدول المجاورة يتبناه نظام أردوغان، عكس كل ما كان يشيعه فى بداية حكمه من "تصفير" المشكلات مع الجيران والدول الأخرى، وهو نفس منطق وسياسة الجماعات الإرهابية فى "التمكين" التى تظهر عكس ما تبطن لكى تتمكن أولا ثم تنقلب على كل شعاراتها القديمة.
على العكس تماما يأتى موقف الدولة المصرية الذى يتبناه الرئيس عبد الفتاح السيسى منذ بدء ولايته، وهو الحفاظ على مكونات الدولة الوطنية لكل الدول، وتقديم كل أوجه المساعدة للشعوب العربية التى وقعت فى "فخ" الفوضى والانفلات، لكى تعود إلى سابق عهدها دولا قوية موحدة لكل أبنائها.
الموقف المصرى واضح وصريح فى دعم كل جهود الحل السياسى للأزمة الليبية، وتمت ترجمة ذلك عمليا فى مبادرة إعلان القاهرة التى جاءت امتدادا للجهود الدولية السابقة، ومكملة لها، ووضعت خريطة طريق متكاملة تؤدى فى النهاية إلى حل سياسى شامل، ينهى معاناة الشعب الليبى، من خلال استعادة الدولة الليبية مؤسساتها الوطنية، ودعم الجيش الليبى، باعتباره المؤسسة العسكرية الوحيدة المنوط بها إعادة سيطرة الدولة على جميع متطلبات الأمن فى كل ربوع الأراضى الليبية، بالإضافة إلى تمكين مجلس النواب الليبى من اعتماد التعديلات الدستورية المقترحة، بما يضمن إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية يشارك فيها كل أبناء الشعب الليبى، لاختيار ممثليهم بكامل إرادتهم الحرة.
المبادرة لاقت إجماعا دوليا وإقليميا ليس له مثيل، وأعلنت كل القوى الدولية الفاعلة والمؤثرة تأييدها المبادرة، ولو أن هناك أدنى حسن نية من جانب النظام التركى تجاه الشعب الليبى لوقف إلى جانب المبادرة، خاصة أن المبادرة لم تُقْصِ أحدا من الأطراف بما فيها حكومة السراج "الفاقدة" الشرعية، وأدخلتها ضمن إطار الحل السياسى، ليختار الشعب الليبى بنفسه بعد ذلك النظام السياسى الذى يريده.
فى التوقيت نفسه، أطلق الرئيس عبد الفتاح السيسى محددات الموقف فيما عرف بـ"الخطوط الحمراء" فى سرت والجفرة، التى شرحها الرئيس أمام مشايخ وأعيان القبائل الليبية يوم الخميس الماضى، موضحا أنها دعوة للسلام وإنهاء الصراع، ووقف القتال، والبدء فورا فى تنفيذ مبادرة إعلان القاهرة، إذا كان السراج ومن يدعمه جادين فى السلام، وراغبين فى إنهاء معاناة الشعب الليبى.
مجلس النواب الليبى أعلن من قبل دعوته الجيش المصرى للتدخل إذا استمر العدوان التركى والميليشيات المتعاونة معه فى محاولاتهم لتغيير خطوط المعادلة الحالية، وهو الموقف الذى أكده مجلس مشايخ وأعيان القبائل الليبية يوم الخميس الماضى، وأعلنوا فيه كامل تفويضهم للرئيس عبد الفتاح السيسى والقوات المسلحة المصرية للتدخل لحماية السيادة الليبية، واتخاذ كل الإجراءات اللازمة لتأمين مصالح الأمن القومى للبلدين، ومواجهة التحديات المشتركة.
هكذا توافقت مواقف المؤسسة العسكرية الليبية المتمثلة فى الجيش الليبى الذى يسيطر على أغلب الأراضى الليبية مع موقف مجلس النواب الليبى المنتخب، وكذلك موقف مجلس أعيان وقبائل ومشايخ ليبيا، فى رسالة موحدة ضد العدوان التركى، لعل وعسى أن "تفيق" القيادة التركية من غيبوبتها وتوقف عدوانها الصارخ على الشعب الليبى، وتكف عن ممارسة سياسة "حافة الهاوية" التى أوقعت تركيا فى عزلة دولية خانقة، وكشفت عدوانية النظام التركى للشعوب العربية دون مبرر سوى انحياز هذا النظام للجماعات الإرهابية والفوضوية، ومحاولة النظام التركى المستميتة تمكين تلك الجماعات "المرفوضة" من رقاب الشعوب العربية، وهو الأمر المستحيل حدوثه، بعد أن استوعبت الشعوب العربية الدرس ولن تسمح باستمراره أو تكراره.