مصر تغسل وجهها من العشوائيات
بقلم: عبد المحسن سلامة
الزمان: 6 سبتمبر 2008
المكان : منطقة الدويقة فى منشية ناصر
المشهد الأول :حالة من الهرج والمرج، والصراخ والعويل، بسبب انهيار صخرة عملاقة فوق مساكن المنطقة.
الصخرة أدت إلى هدم العديد من المنازل فوق رءوس أصحابها.
أعداد القتلى تتزايد باستمرار، ووصلت أعداد الضحايا إلى مايقرب من 100 قتيل ومئات الإصابات.
حالة من الغضب سادت بين سكان المنطقة، وكان الغضب يزداد أكثر مع انعدام الأمل في العثور على المزيد من الجثث التى كانت مطمورة تحت الأنقاض ويصعب العثور عليها.
السكان يصرخون بسبب تكرار المأساة وعدم وجود حل جذرى لهم، حيث لم يكن حادث الانهيار هو الأول من نوعه، وإنما سبقته حوادث أكثر بشاعة، مثلما حدث فى عام 1993 والذى راح ضحيته المئات من القتلي والمصابين.
الخبراء ضاعت تحذيراتهم أدراج الرياح بعد أن حذروا من خطورة بناء المنازل فى تلك المنطقة الصخرية الرخوة القابلة للانهيار مما أدى إلى ازدياد اتساع علامات الاستفهام بسبب عدم الاستماع إلى تحذيرات الخبراء، وتجاهل هذه التقارير.
اكتفت الإدارة المسئولة فى أعقاب حادث 1993 بتثبيت وتهذيب بعض المناطق الصخرية الآيلة للسقوط، اعتقادا منهم بأن هذا هو الحل, إلا أن المأساة تكررت وحدث الانهيار الجديد، فوق رءوس السكان فى عام 2008، وتضاعفت أعداد القتلى والمصابين.
ملحوظة: لم تكن منطقة الدويقة ومنشية ناصر هى المنطقة الوحيدة التى يلقي فيها المواطنون مصرعهم نتيجة السكن فى عشوائيات خطرة، وإنما كانت المأساة تمتد إلى 357 منطقة على مستوى الجمهورية تضم نحو 242905 وحدات سكنية.
كان السكان فى تلك المناطق يتعرضون للموت تحت أنقاض منازلهم، نتيجة انهيارها لأسباب متعددة، منها الانهيارات الصخرية، أو الحرائق، أو الهزات الأرضية، أو السيول، أو غيرها من الأسباب.
الزمان: بعد مرور 12 عاما، وبالتحديد مع اقتراب نهاية عام 2020.
المكان: كل المناطق العشوائية الخطرة التى كانت منتشرة فى 357 منطقة فى الدويقة، وتل العقارب، وغيط العنب، وعشش الصفيح واليهودية، وغيرها من تلك المناطق فى طول البلاد وعرضها.
المشهد الثانى: عمارات شاهقة أنيقة ترتقع إلى أكثر من 10 طوابق العمارات تضم وحدات سكنية مجهزة بالأثاث والفرش الجديد، وبها مصاعد حديثة، ومياه نظيفة وصرف صحn، وغاز، وتليفونات، وكل الخدمات الموجودة فى أرقى المناطق.
العمارات مقامة وسط مجمع سكنى ضخم يضم المحلات التجارية، والمدارس، والمساجد والكنائس، والحدائق العامة، والمراكز الصحية المتقدمة، ومراكز الشباب.
وسط المساكن مواطنون قدموا من مساكنهم القديمة يملأهم الفرح والزهو، غير مصدقين أن الأحلام يمكن أن تتحول إلى واقع حقيقى على الأرض.
تنطلق الزغاريد، والابتسامات والضحكات القوية النابعة من القلب في أرجاء المكان وداخل الشقق المجهزة للسكن الفورى بعد أن قدموا اليها بـ «شنطة ملابسهم» فقط لاغير.
ذهبت إلى د.عاصم الجزار، وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية الجديدة في مكتبه بهيئة المجتمعات العمرانية وسألته: هل تخلصت مصر من وصمة «عار» العشوائيات الخطرة التى كانت تهدد حياة السكان وتجعلهم دائما في مرمى الخطر والأحزان؟!
أجاب: تم إعداد أول خريطة قومية للمناطق العشوائية الخطرة وغير الأمنة سنة 2010 بمعرفة صندوق تطوير المناطق العشوائية، غير أنه لم يتم الاهتمام بتلك الخريطة ووضعها محل التنفيذ إلا عام 2014 حينما طلب الرئيس عبد الفتاح السيسى تحديث تلك الخريطة طبقا لبرنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية الذى يحدد تلك المناطق بأنها تفتقد للسكن الملائم، وتفتقد إلى المساحات الكافية للمعيشة، وكذلك تفتقد للخدمات، وخاصة مياه الشرب والصرف الصحى، وليس بها حيازات آمنة، وتحتوى على مساكن متصدعة أو مهدمة، ومبنية فى مناطق جيولوجية خطرة مثل الدويقة ومنشية ناصر، أو مبنية على مخرات السيول، أو أسفل خطوط الضغط العالى، أو علي حرم السكك الحديدية.
تم حصر تلك المناطق، وتصنيفها إلى مناطق خطورة من الدرجة الأولى، وهى المعرضة للانهيارات الصخرية، والسيول، وحوادث السكك الحديدية، ومناطق خطورة من الدرجة الثانية، وهى التى تمت إقامتها باستخدام مخلفات البناء أو إقامتها علي مدافن القمامة والمنشآت المتهدمة والمتهالكة.
إلى جوار ذلك هناك مناطق خطورة من الدرجة الثالثة وهى التى تفتقد إلى مياه الشرب النظيفة والصرف الصحى، أو التى تقع في نطاق تأثير التلوث الصناعى أو تحت خطوط الكهرباء.
أخيرا هناك مناطق خطورة من الدرجة الرابعة، وهى تلك المناطق المقامة على أراضي أملاك الدولة والأوقاف.
بلغ إجمالى كل تلك المناطق 357 منطقة تضم 242905 وحدات سكنية وخلال السنوات الست الماضية نجحت الدولة فى الانتهاء من أعمال تطوير 296 منطقة، وجار الآن تنفيذ أعمال تطوير الـ 74 منطقة المتبقية.
وأضاف د. عاصم الجزار قائلا: الآن هناك 13 محافظة خالية تماماً من العشوائية الخطرة وغير الآمنة وهى (الدقهلية ـ الغربية ـ البحيرة ـ الشرقية ـ المنوفية ـ كفر الشيخ ـ السويس ـ بورسعيدـ سوهاج ـ قنا ـ الأقصر ـ الفيوم ـ شمال سيناء)،.
بنهاية العام الحالي 2020 ستنضم باقى المحافظات المصرية إلى تلك المحافظات، لتكون مصر خالية لأول مرة من المناطق العشوائية الخطرة وغير الآمنة بالكامل، وبذلك تغسل مصر وجهها المشرق من تلك "الوصمة" التى ظلت تلاحقها طوال أكثر من أربعين عاماً.
سألته عن تكاليف هذا المشروع القومى الضخم ؟
أجاب وزير الإسكان: تكاليف القضاء على المناطق العشوائية الخطرة كانت باهظة، حيث بلغت نحو 61 مليار جنيه، بما فيها سعر الأراضى المقام عليها المشروعات السكنية الجديدة.
>> وماذا عن أهم ملامح التجربة المصرية فى تطوير المناطق الخطرة وغير الآمنه، وكيف استطاعت الدولة كسب ثقة المواطن فى تلك المناطق رغم التراث السيئ فى التعامل معه ؟
أجاب د. عاصم الجزار: أعتقد أن الجدية هى السلاح الأول الذى نجحت به الدولة فى كسب ثقة مواطنى تلك المناطق، وحينما شعر المواطن بالإنجاز الحقيقى على الأرض، وتحول حلمه إلى واقع شعر بالأمن والطمأنينة، واستجاب لدعوة الخروج من تلك المناطق الخطرة إلى مسكنه الجديد، بعد آن كان مهدداً بالموت تحت صخرة، أو صعقاً بأسلاك الضغط العالى، أو تجرفه السيول هو وأسرته ومتعلقاته.
أيضا نجحت التجربة المصرية فى إرساء قواعد العدالة الاجتماعية، تلك الفريضة التى غابت أكثر من أربعة عقود كاملة عن سكان تلك المناطق، فكانت المساكن الحديثة الراقية التى تطل على النيل فى سوهاج، ودمياط أو على بحيرة مريوط فى الإسكندرية، أو المواقع المتميزة الأخرى فى جميع المناطق الجديدة.
>> هل هناك علاقة بين قرار وقف البناء المؤقت، وعدم عودة العشوائيات مرة أخرى؟
أجاب وزير الإسكان: علاقة أكيدة ومباشرة، فوقف البناء فى بعض المحافظات ليس هدفا فى حد ذاته، وإنما هو وسيلة لضمان عدم تسلل العشوائيات مرة أخرى إلى حياتنا، فكان لابد من وقفة لاعادة تنظيم الأمور، ووضع النقاط على الحروف، لضبط قواعد البناء، بحيث تصبح رخصة البناء بمثابة شهادة ميلاد للمبنى، ويتم إعطاؤها على مراحل، وبموجب ما يتم تنفيذه فى المرحلة السابقة، يتم السماح بالمرحلة اللاحقة بحيث تختفى مخالفات البناء للأبد من مدن وقرى مصر بلا استثناء، حتى لا تتحمل الأجيال القادمة " الفاتورة" الباهظة التى تحملتها الدولة الآن لإصلاح الأخطاء السابقة.
وكشف د. عاصم الجزار عن أنه سيتم إنشاء إدارة مركزية للتراخيص بعيدة عن المحليات تكون مهمتها إصدار تراخيص البناء ومراقبة التنفيذ.
أخيرا يبقى تأكيد خصوصية التجربة المصرية فى إزالة العشوائيات الخطرة بصفتها أحد الروافد المهمة فى تحقيق العدالة الاجتماعية، وتوفير مفهوم جودة الحياة لسكان تلك المناطق، والأهم من ذلك وضع الضمانات اللازمة حتى لا تتكرر تلك المأساة مستقبلا، من خلال وضع الضوابط اللازمة فى تراخيص البناء فى كل مدن وقرى مصر بلا استثناء، وبلورة ذلك فى القواعد الجديدة المتوقعة خلال الأيام القليلة المقبلة إن شاء الله.