درس لبنان القاسى للشعوب العربية!

بقلم: عبدالمحسن سلامة

ربما تكون الحسنة الوحيدة لكارثة لبنان الحالية أنها ألقت بقنبلة ضخمة كاشفة على كل الشعوب العربية الغارقة فى مستنقع الفوضى والاقتتال الأهلى، لكى تفيق من غيبوتها، وتلتف حول دولها الوطنية بعيداً عن الطائفية "المقيتة" والميليشيات "المأجورة" وبارونات الحرب بالوكالة.

كارثة لبنان ليست وليدة اللحظة، وإنما هى عرض لمرض خطير أصاب الجسد اللبنانى بالانقسام، والطائفية، والتدخلات الأجنبية، ورويداً رويداً فقدت الدولة اللبنانية جزءا كبيرا من سيادتها على أراضيها وموانيها ومطاراتها، وأصبح هناك أكثر من رأس للدولة اللبنانية.

مفهوم السيادة للدولة أول ما يعنى هو أن يكون لهذه الدولة جيش واحد، وشرطة واحدة، وسيطرة كاملة للدولة على أراضيها ومطاراتها، وموانيها، وبحارها وأجوائها.

دون ذلك تظل سيادة الدولة منقوصة، وغير مكتملة، وهو ما يؤدى إلى وقوع كوارث، وأزمات ضخمة كتلك التى تعرض لها لبنان مؤخراً.

كارثة ميناء لبنان هى الكارثة الأضخم التى حلت بالعاصمة اللبنانية بيروت، ويشير بعض الخبراء إلى أنها ربما تكون أضخم ثالث انفجار على مستوى العالم بعد انفجارى هيروشيما ونجازاكى من حيث قوة التفجير، ودويه الهائل.

أعتقد أن الربط بين كارثتى هيروشيما ونجازاكى من جهة، وانفجار "مرفأ" لبنان من جهة أخرى، جاء نتيجة تزامن وقوع الانفجار الرهيب فى "مرفأ" لبنان بإحياء الذكرى الـ 75 للقصف النووى لـ "هيروشيما" الذى أحيته مدينة "هيروشيما"يوم الخميس الماضى.

صحيح الفرق بين أعداد الضحايا ضخم، لكن ربما صوت الانفجار وشدته هو الذى جمع بين انفجار "مرفأ" لبنان، وانفجار أول قنبلة نووية فى هيروشيما، والتى راح ضحيتها ما يقرب من 140 ألف شخص.

قوة الانفجار وشدته، يجب أن تكون هى "جرس" إعادة وحدة لبنان وسيادته، وإنهاء عصر "المحاصصة" البغيض الذى يستند إلى مرجعيات طائفية، والذى تزامن مع نهاية الحرب الأهلية التى شهدتها لبنان رغم التوصل إلى اتفاق الطائف بعد ذلك.

كان اتفاق "الطائف" يهدف إلى انهاء الحرب اللبنانية، ونجح فى ذلك، غير أن أطراف الصراع فى لبنان رسخت بعدها مفهوم الطائفية وتحولت الطوائف إلى "دويلات" داخل الدولة اللبنانية.

لا يعقل أن يكون هناك أكثر من جيش فى لبنان، وأكثر من شرطة وإن لم يكن بشكل رسمى وإنما بشكل عملى، نتج عنه مناطق نفوذ متعددة وأصبح هناك من يسيطر على أجزاء من الموانى، والمطارات, والحدود, وهو أمر بالغ الخطورة لأنه لا يمكن أبدا أن تستقيم مع تلك الأمور استقرار الدولة اللبنانية.

صرخة غضب ضخمة أطلقها الكثير من أبناء لبنان الرافضين الطائفية والمحاصصة، وإذا كانت هناك جدية فى التعامل مع الأزمة اللبنانية فلابد من الاستجابة لتلك الصرخة المنادية بالوحدة والسيادة للدولة اللبنانية وحدها وإبطال مفعول الميليشيات والطوائف على جميع الأصعدة.

أعتقد أن "العريضة" الإلكترونية التى قام بالتوقيع عليها نحو 40 ألف مواطن لبنانى، مطالبين بعودة الانتداب الفرنسى للبنان ماهى إلا رسالة "يأس" من الحالة المأساوية التى يعيشها الشعب اللبنانى تحت نفوذ الطوائف المتصارعة "سرا" والمتعايشة "علنا" حفاظا على مصالحهم الخاصة واستمرار وجودهم.

المؤكد أن الموقعين على عريضة الانتداب هم أول الرافضين لذلك الانتداب، ولكل أشكال التدخل فى السيادة اللبنانية، لأنهم فى حقيقة الأمر حينما فعلوا ذلك فعلوه بدافع اليأس من معالجة الأوضاع الحالية التى لا تختلف كثيرا عن الانتداب الأجنبى من وجهة نظرهم على الأقل.

الشعب اللبنانى مثل غيره من الشعوب العربية شعب حر محب للحياة، ورافض لكل أشكال التمييز والطائفية ويريد أن يتحرر من تلك القيود البغيضة التى أوقعه فيها بارونات الحروب بالوكالة، وملوك الطوائف والعشائر.

كارثة الطائفية التى احلت بالمنطقة العربية، يغذيها أطراف خارجية، ويعاونها أطراف داخلية "مأجورة".

هذه الكارثة تحولت إلى نيران جهنمية كالتى انطلقت من انفجار "مرفأ" بيروت لتلتهم دولا عربية عديدة، بدءا من لبنان والصومال، ومرورا بالعراق وسوريا وليبيا، وانتهاء باليمن.

كان المخطط الشيطانى يهدف إلى إغراق كل دول العالم العربى فى تلك البئر السوداء العميقة، وكانت ثورات الربيع العربى وتحويلها إلى خريف لا يطاق أبرز تجليات ذلك المخطط الشيطانى الرهيب.

نجحت مصر بأعجوبة فى النجاة من ذلك المصير "الحالك" بعد قيام ثورة 30يونيو، والتفاف الشعب حول جيشه وشرطته، رافضا التقسيمات الطائفية والمذهبية، وكل التدخلات الأجنبية.

"لملمت" مصر جراحها بسرعة بعد 30 يونيو، لتعود الدولة المصرية أقوى مما كانت، وعادت هيبة كل مؤسساتها.

نجح الجيش المصرى فى فرض سيطرته على كامل التراب المصرى، وسقطت أوهام ولاية داعش فى سيناء، وتم دحر كل الجماعات الإرهابية، وقطع كل خطوط التمويل والاتصال مع كل الجهات الخارجية المتآمرة.

الجيش المصرى الآن هو تاسع أقوى جيوش العالم، وهو الجيش الأقوى عربيا وإفريقيا.

التجربة المصرية فى التحول من حافة الانهيار إلى الانطلاق والتطور، أشادت به كل المؤسسات العالمية، وتكفى الإشادة الأخيرة التى أعلنتها مؤسسة "جى بى مورجان" الدولية، التى أكدت أن مصر هى الدولة الوحيدة بالشرق الأوسط وإفريقيا التى اختتمت بنجاح الدورة السنوية لمراجعة التصنيف الائتمانى، واحتفظت بثقة جميع مؤسسات التقييم العالمية الثلاث: "ستاندرد آند بورز"، و"موديز"، و"فيتش" خلال فترة من أصعب الفترات التى شهدها الاقتصاد العالمى.

احتفظ الاقتصاد المصرى بثقة المستثمرين فى ظل "جائحة" كورونا، حيث تم تثبيت التصنيف الائتمانى لمصر مع نظرة مستقبلية مستقرة للاقتصاد المصرى.

التجربة المصرية فى تقوية جميع مؤسسات الدولة الوطنية، والإصلاح الشامل لكل النواحى الاقتصادية والعسكرية والسياسية، هى طوق النجاة لإخراج لبنان وغيره من الدول العربية من مأزقها لتعود دول قوية فاعلة ومؤثرة، لها السيادة الكاملة على حدودها وأراضيها وموانيها ومطاراتها، وأجوائها.

ميزة التجربة المصرية أنها لا تتدخل فى الشئون الداخلية للدول الأخرى، لكنها تدافع عن الدولة الوطنية، وتساند مؤسساتها الشرعية، وترفض كل أشكال النفوذ للجماعات أو الميليشيات والطوائف أيا كان اسمها أو هويتها مادامت بعيدة عن سيادة الدولة الوطنية.

الموقف المصرى فى ليبيا هو ترجمة عملية لكل ذلك، لأن مصر تدافع عن سيادة الدولة الوطنية فى ليبيا، وتساند الجيش الليبى فى بسط نفوذه على كامل الأراضى الليبية، وترفض أن يكون للميليشيات، وبارونات الحرب والدول الأجنبية أى دور فى الأراضى الليبية، وتطالب فى الوقت نفسه بضرورة أن تقوم كل الميليشيات والجماعات المسلحة بتسليم أسلحتها إلى الجيش الليبى باعتباره المؤسسة العسكرية الوحيدة المنوط بها حفظ الأمن والاستقرار على كامل الأراضى الليبية.

من يساند الميليشيات والجماعات المسلحة فى ليبيا، لهم نفس أجندات وأهداف من يساندون الفوضى والخراب فى لبنان والصومال والعراق واليمن وسوريا.

نفس الأهداف، وأن اختلفت الأسماء والدول، فجميعهم يستهدفون استمرار الأوضاع "المأزومة" فى العالم العربى، ليظل عاجزا ومنكسرا، وتظل كل دولة غارقة فى صراعاتها المذهبية والطائفية، لتكون غير قادرة على النهوض وتحقيق طموحات وآمال شعبها.

أتمنى أن يكون صوت انفجار "مرفأ" بيروت ببشاعته بداية صحوة للشعب اللبنانى وكل الشعوب العربية "الغارقة" فى مستنقع الاقتتال الأهلى والفوضى لكى تفيق من غيبوبتها، وتلتف حول دولها الوطنية بعيدا عن الميليشيات والجماعات المسلحة وبارونات الحرب بالوكالة على الأراضى العربية.

 

Back to Top