"المشرق الجديد".. خطوة فى مواجهة التحديات العربية

بقلم: عبدالمحسن سلامة

فى وقت تتكاثر فيه الذئاب لالتهام الجسد العربى "العليل" والمغموس فى أوجاعه نتيجة ما يعانيه من مؤامرات وفتن داخلية وخارجية وأيضا نتيجة ما يعانيه من الفوضى التى عصفت بالمنطقة عقب موجات الخريف العربى الحارق منذ نحو عقد من الزمان.

فى هذا الجو العربى المشحون بالتوتر والانقسام تسطع شمس "المشرق الجديد" بين مصر والعراق والأردن، ليكون نواة أولية لتجمع عربى أكبر وأكثر اتساعاً يتيح تدفقات رأس المال والتكنولوجيا بين البلدان الثلاث على نحو أكثر حرية، وبما يحقق التكامل والتعاون الاقتصادى بين الدول الثلاث كبداية لتعاون عربى أشمل وأوسع خلال المرحلة المقبلة.

القمة الثلاثية التى عقدت خلال الأسبوع الماضى فى العاصمة الأردنية "عمان" هى القمة الثالثة لهذا التجمع الوليد خلال الفترة القليلة الماضية، والتى أكدت وجود إرادة سياسية لدى قيادات الدول الثلاث، لتفعيل التعاون والتكامل فى مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية، بهدف صياغة مستقبل مشرق مشترك يستطيع مجابهة التحديات الداخلية والخارجية على السواء.

القمة الثلاثية الأخيرة جاءت وسط تحديات غير مسبوقة داخلية وخارجية، أبرزها ما يتعلق بمحاولات بعض الدول الأجنبية للتدخل فى الشأن العربى، وتحدى أزمة كورونا وما فرضته من تراجع فى أداء الاقتصاد العالمى والإقليمى.

الرئيس عبدالفتاح السيسى أكد خلال القمة استعداد مصر لتقديم تجربتها وخبرتها فى جميع المجالات إلى الأشقاء فى الأردن والعراق، مشيراً إلى أن مصر مستعدة لإقامة مشروعات تنموية مشتركة مع البلدين يتم تنفيذها وفقا لجدول زمنى محكم يكون لها مردود مباشر وسريع على عملية التنمية والحياة المعيشية للمواطنين، إلى جوار تعزيز مسارات التعاون السياسى والأمنى.

المشروعات الاقتصادية تتعلق بالطاقة، والربط الكهربائى، والبنية الأساسية والغذاء، فضلاً عن التشاور والتنسيق بشأن مستجدات الأوضاع السياسية والأمنية فى المنطقة، وجهود مكافحة الإرهاب .

العراق من جانبه، وعبر رئيس الوزارء مصطفى الكاظمي، يسعى إلى تكثيف التعاون مع محيطه العربى عبر بوابة التعاون الثلاثى المصرى ـ العراقى ـ الأردني، ودعم العلاقة مع دول الخليج العربى خاصة المملكة العربية السعودية والإمارات والبحرين.

الكاظمى حمل إلى القمة الثلاثية "مشروع المشرق الجديد" وفق النسق الأوروبى، والذى من خلاله تكون هناك حرية أكبر لحركة رأس المال، والتكنولوجيا بين الدول الثلاث وهو ما أكده فى حواره مع صحيفة الـ "واشنطن بوست" خلال زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية .

هذه الرؤية تعنى ببساطة إزالة الحواجز والقيود أمام حرية تدفق رءوس الأموال بين الدول الثلاث لتعميق التعاون الاقتصادى فى مختلف المجالات، وكذلك تبادل الخبرات التكنولوجية فيما بين الدول الثلاث.

فى السياق نفسه، أكد الملك عبدالله الثانى، ملك المملكة الأردنية الهاشمية ضرورة التركيز على قضية الأمن الغذائى بين الدول الثلاث على اعتبار أنه أكبر تحد فى عام 2021 مما يستدعى توحيد الجهود وتبادل الخبرات لتفادى تلك الأزمة.

الملك عبدالله أشار كذلك إلى أن "الأحداث المتسارعة فى منطقتنا، والتدخل من بعض الأطراف الخارجية، تستدعى التنسيق الوثيق والعمل المشترك" فى إشارة واضحة لما يحدث فى ليبيا وسوريا ولبنان خاصة فيما يتعلق بدور تركيا وإيران وغيرهما ممن يحاولون العبث بالمقدرات العربية، وتشجيع الفوضى وعدم الاستقرار فى تلك المنطقة.

أعتقد أن توقيت القمة الثلاثية مهم لأنه جاء فى إطار محاولة إعادة التوازن إلى المنطقة العربية فى ظل أزمات وخلافات وتحديات غير مسبوقة ووجود مشروعين قوميين استعماريين لتركيا وإيران للسيطرة على مقدرات المنطقة العربية، والعبث بها لمصلحة هذين المشروعين اللذين استغلا حالة الضعف العربي، وانكفاء الدول العربية على مشاكلها الداخلية، ليقدما البديل من وجهة نظرهما للسيطرة على مقدرات العالم العربى، والعصف باستقرار المنطقة.

التعاون الثلاثى ليس حديثا، وإنما يمتد لأبعد من ذلك وبالتحديد فى عام 1989 حينما ظهر مجلس التعاون العربى الذى كان يجمع الدول الثلاث إلى جوار اليمن، وبرغم أن الغزو العراقى للكويت، أطاح بهذا المجلس إلا أنه ظل خلفية تاريخية للتعاون الجديد بين الدول الثلاث باعتبارها دولاً مهمة فى المنطقة العربية، يجمع بينها العديد من العوامل المشتركة ولايوجد فيما بينهم "ما ينغص" تلك العلاقة.

العراق فى حاجة إلى العمق العربى ليكون أكثر صلابة وقوة فى مواجهة التدخلات الإقليمية، كما أن الأردن يعتمد على العراق فى المساعدات النفطية، ومصر لديها تجارب وخبرات هائلة خاصة فيما يتعلق بالأداء الاقتصادى ومشروعات البنية التحتية، ومشروعات الأمن الغذائى، والتنمية الزراعية والصناعية، بالإضافة إلى ما حققته مصر من نجاح كبير فى ملف معالجة الإرهاب، وانتزاع فتيل الجماعات الإرهابية وتجفيف منابع التمويل والتسليح لتلك الجماعات "الشيطانية".

تجربة مصر فى الإصلاح الاقتصادي، ونجاحها فى الخروج من أعنف أزمة اقتصادية تتعرض لها خلال العقود الخمسة الأخيرة، جعل من هذه التجربة "نموذجاً ملهما" للكثير من الدول العربية خاصة فى الأردن والعراق وغيرهما من الدول الشقيقة.

نجاح الإصلاح الاقتصادى أسهم فى دعم قدرة مصر على مواجهة وباء "كورونا" واحتفاظ الجنيه المصرى بقوته فى مواجهة الدولار، حيث نجح الجنيه المصرى فى الاحتفاظ بتصنيفه ضمن أفضل عملات الأسواق الناشئة أداء أمام الدولار، مما جعل مجلة "الإيكونوميست" تتوقع استمرار تحسن أداء الجنيه أمام الدولار خلال السنوات المقبلة مقارنة بمستويات ما قبل أزمة كورونا عام 2019.

انعكس نجاح الإصلاح الاقتصادى على كل المسارات الاقتصادية خاصة فيما يتعلق بمشروعات البنية التحتية، والعمل على مضاعفة مساحة المعمور فى مصر من 7% إلى 14%، وكذلك إضافة ما يقرب من المليون ونصف المليون فدان إلى الرقعة الزراعية.

إلى جوار التجربة الاقتصادية الناجحة فى مصر فقد سارت مصر بخطى حثيثة وسريعة فى مجال الأمن، وتقوية الجيش المصرى ليصبح تاسع أقوى جيش فى العالم، والجيش الأول فى الشرق الأوسط وإفريقيا، مما كان له أكبر الأثر فى ضرب معاقل الإرهاب بقوة، وإنهاء خرافة ولاية داعش فى سيناء، وعودة سيناء كمصدر للرخاء والرفاهية والتنمية بعد ربطها بالوطن الأم من خلال أضخم شبكة من الأنفاق والكبارى على مدى تاريخها القديم والحديث.

هذه التجارب وغيرها تضعها مصر على مائدة التعاون الثلاثى (المصرى ـ العراقى ـ الأردنى) ليتحول المشرق الجديد إلى شعلة تنوير هائلة للدول العربية من المحيط إلى الخليج.

الميزة الأهم التى تجمع بين الدول الثلاث أنه لا يوجد فيما بينها عقد تاريخية أو أزمات ضاربة فى الأعماق مما يجعل التعاون فيما بينها مفتوحًا إلى أقصى درجة.

أيضا فإن الدول الثلاث تستشعر خطر التوسع الإقليمى خاصة بعد وقوع دول عربية شقيقة فى فخ الأزمات الإقليمية وبالتحديد ليبيا، وما يحدث فيها من تدخل تركى مرفوض بهدف السيطرة على مقدرات الشعب الليبى وثرواته، وتأجيج الانقسام والتوتر بين أبناء الشعب الواحد، من خلال دعم الميليشيات المسلحة والمرتزقة والدفع بهم إلى جانب حكومة فائز السراج، ومحاولة تركيا المستميتة لعرقلة كل محاولات "لم الشمل" فى ليبيا، التى كان آخرها مبادرة حكومة الوفاق، ومجلس النواب الليبى لوقف القتال فى ليبيا، وهى المبادرة التى ترفضها تركيا وتعمل على عرقلتها وإفشالها.

لكل هذا فإن قمة عمان الثلاثية من الممكن أن تكون نواة لمشرق جديد، وعمل عربى واعد، يصب فى مصلحة كل الشعوب العربية، ويقف بالمرصاد لكل التدخلات الأجنبية بما يسهم فى إيجاد الحلول للمشكلات الإقليمية فى المنطقة، ووقف أحلام الهيمنة والمشروعات الاستعمارية الحديثة والقديمة.

Back to Top