مشروع مصر القومى لوقف التعديات والمخالفات
بقلم: عبدالمحسن سلامة
مشهدان لقرية واحدة استوقفا الرئيس عبد الفتاح السيسى خلال افتتاح محور المحمودية وعدد من المشروعات بالإسكندرية فى الأسبوع الماضى.
الأول يتعلق بصورة جوية لقرية مصرية قبل أن تغتالها التعديات، والمساحات الخضراء تظهر كخلفية لها وتحيط بها من جوانب كثيرة.
المشهد الثانى للقرية نفسها بعد عدة سنوات، وقد اغتالت التعديات هذه الأراضى الزراعية، واختفت معها المساحات الخضراء، وتحولت إلى كتل أسمنتية غير "منظمة" وغير "مخططة" لتعلن عن ميلاد منطقة عشوائية جديدة.
هذان المشهدان عكسا حجم التدهور والانفلات وغياب الدولة فى معالجة أزمة التعديات على الأراضى الزراعية طوال أربعة عقود والتى كان من نتيجتها اغتيال مساحات ضخمة من الأراضى الزراعية ربما تزيد على المليون فدان تقريباً من إجمالى حجم المساحة المزروعة فى الأراضى القديمة التى هى من أجود أنواع الأراضى لخصوبة تربتها وبنيتها التحتية القوية من ترع ومصارف.
للأسف لا يوجد رقم مدقق للمساحة التى تم أغتيالها من الأراضى الزراعية على مدى العقود الأخيرة، غير آنه بالمقارنة بالرقم المدقق الوحيد المتاح الآن والذى يرصد حجم التعديات من عام 2011 حتى 2016 والتى بلغت ما يقرب من مليونى حالة تعد نتج عنها تدمير ما يقرب من 100 ألف فدان، فإن أرقام إغتيال الأراضى ربما تفوق المليون فدان، وأكثر من ذلك بكثير.
كارثة اغتيال الأراضى الزراعية لا تتوقف فقط على تدمير مساحات من الأراضى الزراعية من أجود الأراضى لكنها تمتد أيضا إلى تدمير بنية تحتية زراعية من ترع ومصارف وصرف زراعى مغطى تقدر قيمتها بالمليارات، وفوق كل هذا فإن الكارثة الأكبر، تتمثل فى أن تلك التعديات أصبحت هى السبب الرئيسى للعشوائيات الجديدة، حيث تكون من نتيجتها ولادة أحياء عشوائية على أطراف القرى، وداخل عمق الأراضى الزراعية.
هذه الأحياء العشوائية تفتقد كل معايير ومواصفات البناء الحديث، والاشتراطات الصحية والبيئية.
المستفيد الوحيد من تلك الكارثة هم بارونات تجار الأراضى الذين يقومون بشراء الأراضى على أنها أراض زراعية بثمن بخس من المزارعين والملاك، ثم يقومون ببيعها بأسعار مضاعفة إلى البسطاء من أهالى القري، والزاحفين من المدن المزدحمة مثل القاهرة والإسكندرية والمنصورة وغيرها.
ولأن هؤلاء البارونات يبيعون الهواء والشمس للمواطنين البسطاء، ويرفضون ترك مساحات للشوارع، فإن المشترين يضطرون إلى ترك مساحات ضئيلة للشوارع تبدأ من 3 أمتار وتصل إلى خمسة أمتار على أقصى تقدير، مما يجعل هذه المنازل معزولة تقريبا عن الشمس والهواء وتظل مظلمة وخانقة معظم ساعات الليل والنهار.
ظاهرة التعديات على الأراضى الزراعية بدأت في التوسع والانتشار مند تطبيق قانون العلاقة بين المالك والمستأجر فى الأراضى الزراعية رقم 96 لسنة 1992، والذى أصدره مجلس الشعب آنذاك لينهى العلاقة الإيجارية الممتدة فى الأراضى الزراعية، وبموجبه تم إعطاء مهلة 5 سنوات للمستأجر مع تحريك القيمة الإيجارية لتصل إلى قيمتها السوقية، وبعدها تم تسليم الأراضى الزراعية للملاك.
القانون القديم رقم 178 لسنة 1952 كان يعطى المستأجر الحق فى شغل الأراضى الزراعية دون التقيد بفترات زمنية محددة، ورغم أن هذا القانون كان مثار انتقاد من الملاك لأنه يحرمهم من ممارسة حق الملكية على أراضيهم إلا أنه كان بمثابة "الحارس الأمين" على الأراض الزراعية لأنه كان يضمن استمرار الأراضى الزراعية فى مهمتها الأساسية فى الزراعة فلا المالك يمكنه أن يقوم بتجريف الأرض أو تبويرها ، ولا المستأجر يستطيع أن يفعل ذلك.
حينما صدر القانون الجديد كان الملاك محرومين من ممارسة حق الملكية على أراضيهم لفترة أمتدت إلى أربعة عقود لذلك فقد تبارى الملاك خاصة ملاك المساحات الصغيرة فى بيع أراضيهم، وتلقف تجار الأراضى والسماسرة الهدية بسخاء، وبدأت تظهر مكاتب تقسيم الأراضى فى المناطق الزراعية، مما ساهم فى ظهور مناطق عشوائية كثيرة فى كل أنحاء الجمهورية مثل بولاق الدكرور وشبرا الخيمة (أول وثان) وبهتيم، وإمبابة وفى كل محافظات مصر المختلفة بلا استثناء.
ولأننى واحد من أبناء الريف المصرى فقد كنت شاهد عيان على تدمير الأراضى الزراعية، حيث كان التعدى يقاس باليوم، فما تشاهده من أراض زراعية اليوم ربما يتحول إلى مساكن وكتل أسمنتية غداً.
ظللت مهموماً بهذه القضية منذ بداية عملى فى الصحافة فى منتصف الثمانينيات وكتبت فيها مئات التحقيقات والتقارير الصحفية منذ صدور قانون العلاقة بين المالك والمستأجر رقم 96 لسنة 1992 والذى كان البداية الحقيقية لتدمير الرقعة الزراعية بشكل منهجى ومنظم، ولم تفلح كل محاولات الحكومات المتعاقبة بعد صدوره فى كبح جماح تعديات الأراضى الزراعية إلا فى عصر حكومة د. كمال الجنزورى الذى أصدر الأمر العسكري رقم (1) لسنة 1996 والخاص بتطبيق أحكام القانون العسكرى على التعديات الزراعية والذى نجح فى ترويض التعديات على الأراضى الزراعية طوال فترة تطبيقه.
بعد صدور الأمر العسكرى تغير الحال وتوقفت التعديات لفترة، حيث كانت المحافظات تقوم بالإزالة الفورية دون اللجوء لتحرير محاضر صورية غير مؤثرة.
فجأة وبدون مقدمات تم إلغاء هذا الأمر العسكرى لسبب غير مفهوم ليخرج المارد من القمقم من جديد ليدمر الأراضى الزراعية ويغتالها دون هوادة وكانت مواسم الانتخابات التشريعية والمحلية هى الباب الملكى لتكريس الفساد والمخالفات وإهدار القوانين والقرارات.
غابت الدولة منذ ذلك الحين، وتسابق المحافظون فى دغدغة مشاعر المخالفين بتوصيل المرافق إلى المنازل المخالفة لتتسع رقعة الهجمة الشرسة وسط صمت المسئولين وفساد المحليات وتواطؤ الجمعيات الزراعية.
بعد ذلك أصبح موظفو حماية الأراضى فى الجمعيات الزراعية هم رعاة الفساد والتعديات وأصبحوا مليونيرات وشركاء لبارونات تجار الأراضى على حساب ملاك الأراضى الزراعية الذين يبيعون الأراضى بثمن بخس وكذلك على حساب المشترين من البسطاء الراغبين فى شراء قطعة أرض لإقامة مسكن عائلى بسيط.
انتشرت المبانى والمساكن العشوائية التى لاتزيد على 100 متر بما فيها مساحة الشارع مما يضطر المشترين إلى إقامة مساكن عشوائية ضيقة وشوارع "أضيق" بعيدا عن خطوط التنظيم، والاشتراطات الصحية والبيئية.
استمرت لعبة القط والفأر والمتابعات الهزلية من جانب الحكومات المتعاقبة التى أعقبت حكومة د. الجنزورى حتى قامت ثورة 25 يناير ومعها اندلعت الفوضى، وانتشرت التعديات بشكل عنيف وغير مسبوق وكما لم يحدث من قبل بعد أن غابت كل أشكال المتابعات وغابت الدولة بكل أجهزتها لتسجل التعديات الرقم الأضخم فى تاريخها وتصل إلى مليونى حالة تعد خلال الفترة من 2011، وحتى 2016.
الرئيس عبدالفتاح السيسى ومنذ أن أعاد هيبة الدولة ومكانتها ومؤسساتها أطلق جرس إنذار ضخما وصاحبه مشروع قومى عملاق يمكن تسميته المشروع القومى لوقف التعديات والعشوائيات والمتضمن إقامة أضخم مشروع إسكانى لكل الفئات وفى نفس الوقت وقف التعديات والمخالفات بكل أشكالها.
خلال الأسبوع الماضى جدد الرئيس تحذيره من التعدى على الأراضى الزراعية حتى لا تتحول القرى إلى كتل عشوائية إذا لم يتم الحفاظ على الرقعة الزراعية بها، وتطبيق قواعد التنظيم والبناء المخطط فى الريف.
لابد من تكاتف الدولة والمواطن وراء هذا المشروع القومي لوقف التعديات والعشوائيات بعد أن أصبح ضرورة ملحة، وإلا ذهبت كل الجهود التى تبذلها الدولة المصرية الآن فى حل مشكلة العشوائيات أدراج الرياح، وفشلت كل محاولات إزالة هذه الوصمة من على جبين مصر خلال السنوات المقبلة.
استمرار التعديات على الأراضى الزراعية يعنى ببساطة تحويل 4709 قرية على مستوى الجمهورية يسكنها 57,2% من إجمالى سكان مصر إلى مناطق عشوائية خلال العقد المقبل على أقصى تقدير.
أخيراً تبقى ضرورة الالتزام الحديدى بوقف كل أشكال التعديات والمخالفات على الأراضى الزراعية، وتطبيق قواعد التنظيم على كل القرى والمدن بكل صرامة، وبعدها يمكن فتح الباب للبناء المخطط فى القرى بما يضمن منع إقامة عشوائيات جديدة، وفى الوقت نفسه تخصيص رسم معين على كل متر يخصص لصالح صندوق جديد خاص باستصلاح الأراضى بحيث نضمن تعويض الفدان الواحد من الرقعة الزراعية بخمسة أضعافه فى الأراضى الصحراوية، وبهذا يتحقق مبدأ ضرب عصفورين بحجر واحد وهما منع العشوائيات، وتعويض الرقعة الزراعية المهدرة.