ما بعد ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان

بقلم: عبدالمحسن سلامة

زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسى فى الأسبوع الماضى إلى اليونان جاءت بعد توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان، التى أقرها البرلمان المصرى فى الثامن عشر من أغسطس الماضى، وصدق عليها البرلمان اليونانى فى السابع والعشرين من الشهر نفسه.

تسمح الاتفاقية لكل من مصر واليونان بالاستفادة القصوى من الموارد المتاحة فى المنطقة الاقتصادية الخالصة، خصوصًا ما يتعلق باحتياطيات النفط والغاز الهائلة فى تلك المنطقة.

كل التقارير الجيولوجية تشير إلى وجود مخزون ضخم فى حوض شرق المتوسط من الغاز الطبيعى، حيث قدرت هيئة المسح الجيولوجى الأمريكية هذا الاحتياطى بنحو 360 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعى، بما تتراوح قيمته إلى ما يقرب من 3 تريليونات دولار.

لم يكن من الممكن الاستفادة من تلك الثروة الهائلة إلا بتوقيع اتفاق ترسيم الحدود بين مصر واليونان، بعد أن سبقه توقيع اتفاق مماثل قبل ذلك بين مصر وقبرص، الذى نتج عنه اكتشاف حقل "ظهر" والذى يعد الحقل الأكبر للغاز فى مصر، وتم اكتشافه فى 2015، وبدأ الإنتاج فى 2017 باحتياطيات تصل إلى 30 تريليون قدم مكعب.

اكتشاف حقل "ظهر" ضاعف ثروة مصر من الغاز الطبيعى، وأسهم فى تحقيق الاكتفاء الذاتى، وزيادة الصادرات، حيث من المقرر أن يتم تصدير الفائض من إنتاجه إلى دول شرق المتوسط والدول الأوروبية.

اكتشاف حقل "ظهر" أسهم فى تسريع وتيرة المباحثات المصرية - اليونانية من أجل إنهاء ترسيم الحدود، وهو ما حدث فى الفترة الماضية.

من المتوقع أن تشهد الفترة المقبلة نشاطًا مكثفا للبحث عن الغاز فى المنطقة بعد توقيع تلك الاتفاقية التى أتاحت البحث والتنقيب فى المناطق الاقتصادية، كما أشارت إلى أنه فى حالة وجود موارد طبيعية، بما فى ذلك مخزون الهيدروكربون، ممتدة من المنطقة الاقتصادية الخالصة لأحد الطرفين إلى المنطقة الاقتصادية الخالصة للطرف الآخر، يجوز التعاون بين الطرفين من أجل التوصل إلى اتفاق بشأن استغلال هذه الموارد.

تماشى مع تلك التطورات تأسيس منتدى "غاز شرق المتوسط"، الذى تم إطلاقه بالقاهرة فى يناير 2019، حيث يقع مقر المنتدى الرئيسى، ويهدف إلى تحسين وتطوير العلاقات التجارية، وإنشاء سوق غاز إقليمية تخدم مصالح الدول الأعضاء من خلال تأمين العرض والطلب، وتنمية الموارد على الوجه الأمثل، وترشيد تكلفة البنية التحتية، وتقديم أسعار تنافسية.

كل هذه الخطوات المهمة أعادت الحيوية والازدهار إلى ملف العلاقات المصرية - اليونانية الذى يضرب بجذوره إلى أعماق التاريخ.

اليونان بالنسبة لمصر دولة مهمة من دول الجوار التى تنتمى إلى شرق المتوسط، وهى أيضا بوابة مهمة إلى دول الاتحاد الأوروبى.

صحيح أن مصر تمتلك علاقات متميزة مع كل دول الاتحاد تقريبا، إلا أن اليونان لها مكانة خاصة فى الاتحاد الأوروبى، وهى بوابة مهمة إلى دول الاتحاد، وعلى الجانب المقابل فإن مصر هى البوابة الأهم إلى دول الاتحاد الإفريقى، وكذلك الدول العربية، ومن هنا تأتى أهمية العلاقات الإستراتيجية بين مصر واليونان، وضرورة تطويرها إلى منطقة تجارة حرة تجمع الثلاثى (مصر، واليونان، وقبرص)، بما يعود بالنفع على الدول الثلاث، ويسهم فى زيادة الشراكة والتعاون بين دول العالم العربى والاتحادين الأوروبى والإفريقى.

أوجه تشابه متعددة بين مصر واليونان، حتى إنك لا تكاد تشعر بغربة كبيرة وأنت تزور اليونان، حيث تتشابه الكثير من العادات والطبائع، وهناك جالية مصرية كبيرة تعيش فى اليونان، يصل تعدادها لأكثر من 30 ألف مصرى يعملون فى صيد الأسماك والعمارة والزراعة، بالإضافة إلى أعداد محدودة من الأطباء ورجال الأعمال.

أما الجالية اليونانية فى مصر فقد كانت إحدى أكبر الجاليات الأجنيبة فى مصر حتى قامت ثورة 23 يوليو 1952، ونتيجة قرارات التأميم والمصادرة هاجرعدد كبير من اليونانيين إلى اليونان، فى حين رفضت أعداد أخرى الهجرة، وصمموا على البقاء فى مصر، خاصة فى مدينة الإسكندرية.

يبلغ عدد أعضاء الجالية اليونانية فى مصر نحو 5 آلاف يونانى، ومعظهم من كبار السن الذين ارتبطوا بالحياة فى مصر، ويعدونها وطنهم الثانى، ويذهبون إلى اليونان للسياحة، ثم العودة للإقامة الدائمة فى مصر.

حينما سافرت إلى اليونان قبل ذلك، وبالتحديد منذ نحو عامين، شاهدت عن قرب مدى حب الشعب اليونانى مصر والمصريين، والحديث الذى لا ينقطع عن الذكريات والعادات المشتركة بين الشعبين الصديقين، وهناك الكثير من المحال والمطاعم المصرية التى تقدم الأكلات الشعبية المصرية، خاصة الفول والطعمية والكشرى، والملوخية، وغيرها من الأكلات المصرية الشعبية التى تجد قبولا ورواجا لدى اليونانيين، وفى الوقت نفسه، تشعر الزائر المصرى إلى اليونان أنه يسير وسط شوارع القاهرة، خاصة حينما تسمع أغانى أم كلثوم وعبدالحليم حافظ.

زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسى الأخيرة إلى اليونان، خلال الأسبوع الماضى، جاءت فى إطار العلاقات الثنائية المتميزة بين مصر واليونان التى ارتقت إلى مستوى غير مسبوق من التعاون والتنسيق، جعلها تصل إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية بين الدولتين.

هذه الشراكة الإستراتيجية ازدادت أهميتها فى الفترة الحالية نتيجة التحديات غير المسبوقة التى تواجه المنطقة، فى ظل التحركات التركية المشبوهة التى تحاول الاستحواذ على مصادر النفط والغاز فى المنطقة من خلال توقيع اتفاقيات "باطلة" وغير قانونية مع حكومة فايز السراج الانتقالية، مستغلة فى ذلك الأوضاع المضطربة فى الدولة الليبية، وبدلا من البحث عن حلول تساعد الشعب الليبى فى الوحدة والاستقلال واستغلال موارده، لجأت حكومة أنقرة إلى تعزيز الانقسام فى المجتمع الليبى من خلال محاولة الانتصار لطرف على حساب الأطراف الأخري، من أجل إيجاد موطئ قدم لتركيا فى شرق المتوسط، والاستحواذ على مصادر الطاقة.

ميزة التعاون المصرى - اليونانى - القبرصي أنه أوقف المخطط التركى، خاصة بعد توقيع اتفاقيات ترسيم الحدود بين الأطراف الثلاثة.

ولآن مصر، وأزهرها الشريف، هى حارس الإسلام الحقيقى الوسطى والمعتدل، فقد ركز الرئيس، خلال المباحثات مع الجانب اليونانى، على ضرورة عدم ربط الإرهاب بأى دين أو حضارة أو منطقة جغرافية، مشيرا إلى أهمية إعلاء قيم الاعتدال وثقافة التسامح، والرفض الكامل لتوجيه أى إساءات أو إهانات بحق الرموز الدينية المقدسة، ورفض تأجيج مشاعر الكراهية أو بث روح العداء والتعصب.

على الجانب الآخر، فإن اليونان تتفهم دور مصر فى إيقاف موجات الهجرة غير الشرعية فى إفريقيا إلى أوروبا، حيث لم يتم تسجيل أى حالة هجرة غير شرعية من الشواطئ المصرية إلى أوروبا فى الفترة الأخيرة، وهو الدور الذى يحتاج إلى تفهم أكبر من الاتحاد الأوروبى، والمشاركة فى تحمل تكاليف أعباء هذا الدور.

المصالح المشتركة بين اليونان ومصر كثيرة ومتعددة، وهى ليست مصالح ثنائية فقط لكنها تصلح نموذجا لكل دول شرق البحر المتوسط لمزيد من التعاون فيما بينها فى إطار من التعاون والاحترام لسيادة الدول، وعدم التدخل فى الشئون الداخلية من آخرين، والرغبة فى تعظيم الاستفادة من الموارد الاقتصادية المتاحة لكل دولة، بما يؤدى فى النهاية إلى تعظيم المصلحة المشتركة، وتحقيق المزيد من الطموحات لتلك الشعوب فى مواجهة كل التحديات المشتركة، وحل كل المشكلات العالقة فى ليبيا وسوريا وفلسطين وقبرص على أساس قرارات الشرعية الدولية، التى تضمن حرية تلك الدول فى تقرير مصيرها، وضمان وحدتها واستقلالها.

Back to Top