مصر بين مكافحة الفساد وحقوق الإنسان
بقلم: عبدالمحسن سلامة
تنص المادة 218 من الدستور على أنه "تلتزم الدولة بمكافحة الفساد، ويحدد القانون الهيئات والأجهزة الرقابية المختصة بذلك، وتلتزم الهيئات والأجهزة الرقابية المختصة بالتنسيق فيما بينها فى مكافحة الفساد، وتعزيز قيم النزاهة والشفافية، ضمانا لحسن أداء الوظيفة العامة والحفاظ على المال العام، ووضع ومتابعة تنفيذ الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد بالمشاركة مع غيرها من الهيئات والأجهزة المعنية، وذلك على النحو الذى ينظمه القانون".
هذا النص الدستورى الواضح والقاطع تحول إلى عهد جديد فى الحرب على الفساد أعلنه الرئيس عبد الفتاح السيسى خلال الاحتفال باليوبيل الذهبى لهيئة الرقابة الإدارية، مؤكدا أن "مصر لن تقبل بالفاسدين ولن تصمت على الفاشلين".
كانت البداية حينما أطلق الرئيس منذ 6 سنوات وبالتزامن مع اليوم العالمى لمكافحة الفساد المرحلة الأولى من الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد 2014: 2018 مما دعا الأمم المتحدة إلى الإشادة بما تقوم به مصر من جهود فى مكافحة الفساد، وأدرجت الإستراتيجية الوطنية كإحدى أهم الممارسات الناجحة لمصر فى مجال الوقاية من الفساد ومكافحته.
نجحت هذه الإستراتيجية فى تحقيق أهدافها والحد من الفساد ومطاردة الفاسدين مما جعل الرئيس يطلق المرحلة الثانية منها 2019: 2022 فى ختام فعاليات منتدى إفريقيا لمكافحة الفساد بشرم الشيخ لتستمر الجهود المصرية فى استئصال تلك الآفة الخطيرة والمدمرة.
تبلغ تكلفة فاتورة الفساد العالمية حوالى 2,6 تريليون دولار بما يساوى 5% من إجمالى الناتج العالمى، وهى تكلفة باهظة يتحملها الاقتصاد العالمى نتيجة القصور فى معالجة تلك الظاهرة الخطيرة.
من هنا جاء التزام مصر بمكافحة الفساد للتخفيف من آثار تلك الفاتورة "الكارثية" على الاقتصادات الوطنية، وأيضا انطلاقا من الفهم المصرى العميق للارتباط بين مكافحة الفساد وحماية حقوق الإنسان، حيث يعتبر الفساد انتهاكا خطيرا لحقوق المواطن الطبيعى لصالح فئة من المواطنين الذين تنتفخ "كروشهم" بالمال الحرام على حساب باقى أفراد المجتمع.
المفهوم المصرى لحقوق الإنسان مفهوم متكامل يأتى فى مقدمته ضرورة توفير الحياة الكريمة واللائقة للمواطنين، وهو ما حرص الرئيس على توضيحه فى باريس خلال المؤتمر الصحفى مع الرئيس الفرنسى "ماكرون" بقصر الإليزيه، حينما أشار إلى اهتمام الحكومة المصرية بحماية حق 100 مليون مصرى فى الحياة الآمنة والكريمة وتوفير فرص العمل لهم بسهولة ويسر، وحماية كل أفراد الشعب المصرى من المصير المجهول الذى تعيشه دول مجاورة وشقيقة مثل ليبيا واليمن وسوريا والعراق ولبنان وأفغانستان.
فى الأسبوع الماضي، وبالتحديد يوم الأربعاء الموافق التاسع من ديسمبر المخصص لمكافحة الفساد فى العالم كله، كانت مصر على قلب رجل واحد فى مكافحة الفساد، حيث كانت الحكومة بكاملها مع الجمعيات الأهلية، والمجلس القومى لحقوق الإنسان، يشاركون هيئة الرقابة الإدارية احتفالها بهذا اليوم من أجل نشر الوعى المجتمعى به، وتعميق قيم النزاهة والشفافية على مختلف الأصعدة، وفى كل المجالات.
اللافت للانتباه فى ذلك اليوم هو الحرص من جانب هيئة الرقابة الإدارية على مشاركة كل فئات المجتمع فى فعاليات مكافحة الفساد بدءا من الفساد الرياضى ومرورا بالفساد الإدارى فى المحليات والأجهزة الحكومية، وانتهاء بالفساد الاقتصادى سواء كان فسادا شخصيا أو له صفة العمومية.
تجاوزت الرقابة الإدارية المفهوم الضيق لمكافحة الفساد المتمثل فى تعقب قضايا الفساد وكشفها إلى مفهوم أوسع وأشمل يوازن بين القضاء على الفساد وتعقب كل أشكاله وصولا إلى فكرة الوقاية من الفساد، ومنع وقوعه، باعتبار ذلك هو الهدف الأسمى والأهم لوقاية المجتمع من أخطار الفساد.
هذا المفهوم يحتاج إلى مشاركة فعالة من جميع المواطنين وهو ماعبر عنه د.مصطفى مدبولى رئيس مجلس الوزراء خلال الاحتفال، حينما أكد أنه "ينبغى ألا يغيب عن أذهاننا أن جهود مكافحة الفساد، لن تؤتى ثمارها إلا من خلال مواطن مدرك، يدعم مؤسسات الدولة والأجهزة الرقابية"، مشيرا إلى أن "مكافحة الفساد دور مجتمعي، يقع على عاتق الجميع، فالضرر الذى يقع على المال العام، يمس جيب كل مواطن"، لذلك فإن "الشراكة المجتمعية هى السبيل للحفاظ على الموارد وصون مستقبل وحقوق الأجيال القادمة".
من جانبها فقد وجهت هيئة الرقابة الإدارية العديد من الضربات "القاصمة" والمؤثرة ضد الفاسدين خلال العام الحالي، ولم تفرق بين مسئول كبير برتبة رئيس مصلحة الضرائب، أو نائب برلمانى يمتلك حصانة عن دائرة الخليفة والمقطم لتلقيه رشوة، أو مسئولى الأحياء والإدارات الهندسية، أو بعض من قيادات شركات قطاع الأعمال العام فى الغزل والنسيج.
لا تفرقة على الإطلاق بين فاسد كبير أو صغير، ومن هنا تراجعت معدلات حالات الفساد نتيجة التطبيق الصارم لإستراتيجية مكافحة الفساد فى مرحلتها الثانية والمستمرة حتى عام 2022.
إلى جوار تلك الضربات الهائلة على يد الفاسدين، فقد حرص الوزير حسن عبدالشافى رئيس هيئة الرقابة الإدارية على التأكيد على ضرورة ترجمة شعار الجمعية العامة للأمم المتحدة "متحدون على مكافحة الفساد" إلى واقع بهدف رفع الوعى بمكافحة الفساد، مشيرا إلى أن مصر كانت من أوائل الدول التى انضمت إلى اتفاقية مكافحة الفساد إيمانا منها بأن الفساد لم يعد شأنا محليا بل هو ظاهرة عالمية تؤدى إلى عدم استقرار المجتمعات، وتعرض التنمية المستدامة وحقوق الإنسان إلى مخاطر عديدة.
ربط رئيس هيئة الرقابة الإدارية بين مكافحة الفساد وحقوق الإنسان لضمان حق المواطن فى العيش فى بيئة تتسم بالنزاهة والشفافية، مشيرا إلى المفهوم العصرى الذى تتبناه الرقابة الإدارية بشأن مكافحة الفساد من خلال "توفير جميع السبل المانعة لحدوث الفساد وإيجاد نظام إدارى عادل يقدر المجتهد ويحاسب المقصر، ويضمن مناخا ملائما للعمل والانتاج.
ولتأكيد العلاقة بين مكافحة الفساد وحقوق الإنسان فقد تمت ترجمة ذلك إلى بروتوكول تعاون بين هيئة الرقابة الإدارية والمجلس القومى لحقوق الإنسان تأكيدا على الارتباط الوثيق بين حقوق الإنسان ومكافحة الفساد باعتبار أن الفساد يؤثر بالسلب على المساواة والعدالة بين المواطنين.
ولأن كسب ثقة المواطن من أهم الأولويات فى الحرب على الفساد فقد حرص جميع أجهزة الدولة وفى القلب منها الرقابة الإدارية على ضمان تحسين جودة الخدمات بما يسهم فى الارتقاء بالمستوى المعيشى للمواطنين وتحقيق أهداف العدالة الاجتماعية.
ربما يكون الفساد الإدارى الذى كان منتشرا فى الدواوين الحكومية هو الذى جعلنى أتذكر فيلم "الإرهاب والكباب" للمبدع وحيد حامد أثناء متابعتى فعاليات اليوم العالمى لمكافحة الفساد بمقر هيئة الرقابة الادارية، وكيف نجحت الرقابة الإدارية وأجهزة الدولة المعنية فى الضرب بيد من حديد على أيدى كل الفاسدين الكبار والصغار، مما وضع حدا لتلك الظواهر السلبية، والتى كانت تزعزع ثقة المواطنين فى مؤسسات الدولة المختلفة.
وضعت الرقابة الإدارية نصب أعينها مواجهة تلك الظواهر الكريهة فقامت بإعداد منظومة البنية المعلوماتية لربط وتكامل قواعد البيانات القومية دعما لتوجه الدولة نحو التحول الرقمي، واستخدام نظم الذكاء الاصطناعي، وانشاء منصة مصر الرقمية، وهى أداة الحكومة للتخلص من روتين التعامل الورقي، وتقليل زمن أداء الخدمة لصالح المواطنين.
لكل ذلك فقد نجحت مصر ـ طبقا لما أعلنه الوزير حسن عبدالشافى رئيس هيئة الرقابة الإدارية فى الاحتفالية خلال تحقيق قفزة هائلة فى مؤشر عام 2020 الخاص بجاهزية الحكومة للذكاء الاصطناعى الصادر عن مؤسسة "أكسفورد إنسايتس"
حيث تقدمت 55 مركزا دفعة واحدة مقارنة بعام 2019 لتحتل المركز الـ "56" من إجمالى 172 دولة بعد أن كانت فى المركز الـ "101".
انعكس كل ذلك على ماتحقق من إنجازات اقتصادية حظيت بإشادة صندوق النقد الدولي، وكل الهيئات والمؤسسات الاقتصادية العالمية مما أدى إلى نجاح مصر فى التعامل مع جميع الأزمات وأخطرها أزمة "كورونا" التى اجتاحت دول العالم وألقت بظلالها الكئيبة على الاقتصاد العالمي، وأصبحت مصر واحدة من الدول القليلة التى نجحت فى تحقيق معدل نمو إيجابى رغم تلك الظروف العالمية القاسية.
أخيرا تبقى ضرورة الإصرار والمثابرة حتى النهاية فى مكافحة الفساد ليتحول شعار "متحدون فى مواجهة الفساد" إلى شعار جمعى فى ضمير ووجدان جميع المواطنين بلا استثناء.