الدبلوماسية الاقتصادية تهزم كورونا فى العام الأصعب اقتصاديا!

بقلم: عبد المحسن سلامة

ربما يكون عام 2020 هو العام الأصعب اقتصاديا فى القرن الحادى والعشرين بسبب تداعيات جائحة كورونا، كما كان الكساد أو الانهيار الكبير الذى وقع فى العام 1929 هو الأسوأ فى القرن العشرين، والذى استمر نحو عقدين من الزمان فى الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضى.

بدأ الانهيار الكبير فى أمريكا ثم انتقل إلى أوروبا، ومنها إلى كل دول العالم بلا استثناء. كان تأثير هذا الانهيار مدمرا على كل الدول تقريبا الفقيرة منها والغنية، وانخفضت التجارة العالمية ما بين 50 و70%. كما انخفض متوسط دخل الفرد وعائدات الضرائب، وتضررت قطاعات ضخمة مثل الزراعة والتعدين، وتشردت عائلات بأكملها، وصارت تنام فى الأكواخ، وتبحث عن قوتها فى أكوام القمامة.

فى القرن الحادى والعشرين، كان 2020 على موعد مع جائحة كورونا التى ضربت الاقتصاد العالمى فى مقتل، وأثقلت كاهل أعظم الاقتصادات العالمية، وعرقلت عجلة الحياة، وعطلت الكثير من الأعمال والأنشطة.

هذه المرة انطلقت الجائحة من الصين ثم انتقلت إلى أمريكا وأوروبا ثم إلى باقى دول العالم، شرقه وغربه، بلا استثناء.

فى افتتاح اجتماعات الخريف لصندوق النقد والبنك الدوليين بالعاصمة الأمريكية (واشنطن)، توقعت مديرة صندوق النقد الدولى، كريستينا جورجيفا، أن تصل خسائر الاقتصاد العالمى جراء جائحة كورونا إلى نحو 28 تريليون دولار على مدى خمس سنوات، وأن ينخفض النمو إلى نحو سالب 4.4٪ هذا العام وعلى مدى السنوات الخمس المقبلة.

انعكست تلك الأزمة الطاحنة على كل دول العالم، بما فيها مصر التى كانت تسير بخطوات عملاقة فى مجال النمو الاقتصادى، الذى كان من المتوقع أن يصل إلى أكثر من 6٪ ‎خلال العام الحالى، بعد أن تحققت فى موازنة 2019/2020 نجاحات اقتصادية ضخمة، لتحتل مصر المركز السادس عالميًا بنسبة نمو 5.6٪ فى تلك السنة، ونجحت فى خفض معدل الدين من 108٪ من إجمالى الناتج المحلى إلى 90٪ خلال عامين فقط. وكانت موازنة 2020/2021 تستهدف وصول خفض معدل الدين إلى 79٪، وزيادة معدل النمو، ليصل إلى 7٪.

جاءت «كورونا» وألقت بظلالها الكثيفة على المشهد العالمى كله والاقتصاد المصرى بالضرورة كجزء من الاقتصاد العالمى، لتعيد تغيير المشهد بأكمله، وتعيد ترتيب الأولويات من جديد.

على الرغم من تلك الظروف الصعبة وغير المسبوقة، نجح الاقتصاد

المصرى فى مواجهة الجائحة نتيجة الإصلاحات الضخمة التى ساعدته على الصمود. وبحسب تقرير «آفاق الاقتصاد العالمى»، الصادر عن صندوق النقد الدولى فى أكتوبر الماضى، فإن الاقتصاد المصرى هو الاقتصاد الوحيد فى المنطقة الذى حقق معدل نمو إيجابيا فى ظل تلك الأزمة. وقد رفع التقرير توقعاته لنمو الناتج المحلى الإجمالى لمصر إلى 3.5٪ مقابل توقعاته السابقة التى كانت تقف عند حدود 2٪، فى تقرير يونيو الماضى.

هذا التقرير يجعل مصر ضمن أفضل 3 اقتصادات فى الشرق الأوسط وآسيا الوسطى التى حققت نموا اقتصاديا إيجابيا فى 2020 الذى أوشك على الرحيل.

أيضًا جاء تقرير مؤسسة «فيتش» للتصنيف الائتمانى ليؤكد أن مصر فى طريقها لتحقيق أعلى معدل نمو حقيقى فى الناتج المحلى الإجمالى بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بين 2020 و 2024، مما أدى إلى انخفاض معدل البطالة إلى 7.3٪ فى الربع الثالث (يوليو ــ سبتمبر) 2020 مقارنة بـ 9.6٪ فى الربع السابق (أبريل ــ يونيو) من العام نفسه.

هذا النجاح لم يكن ليتحقق إلا برؤية واضحة وقوية وضعها الرئيس عبدالفتاح السيسى للإصلاح الاقتصادى، وأطلقها مع بداية توليه المسئولية، وأعقبها بإطلاق برنامج متكامل للإصلاح الاقتصادى فى 2016، يتضمن معالجة لجوانب الاقتصاد الكلية، وتشجيع النمو الاحتوائى، وإيجاد فرص عمل جديدة، وتحرير سعر الصرف.

فى هذا العام الصعب نجحت الحكومة المصرية، برئاسة د. مصطفى مدبولى، فى مواجهة أصعب أعوام القرن الحادى والعشرين على الإطلاق، بعد أن هبطت «كورونا» كالصاعقة وزلزلت قواعد الاقتصاد العالمى، ولا تزال «تهزه» بعنف حتى الآن، على الرغم من بوادر الأمل التى ظهرت أخيرا بعد بدء إنتاج اللقاحات، لمواجهة هذا الفيروس اللعين.

هذه النجاحات الاقتصادية المهمة صاحبها ما يمكن أن يطلق عليه الدبلوماسية الاقتصادية، التى قادتها د. رانيا المشاط، وزيرة التعاون الدولى، بهدف بناء شراكات تنموية مع الأقطاب الاقتصادية العالمية، لتحقيق تعاون إنمائى فعال، وتنمية وتدعيم علاقات التعاون الاقتصادى بين مصر والدول والمنظمات الدولية والإقليمية.

الدبلوماسية الاقتصادية المصرية نجحت فى التغلب على متاعب وأوجاع «كورونا»، والحد من مخاطرها، مما أدى إلى توقيع اتفاقيات للتمويل التنموى خلال العام الحالى تصل قيمتها إلى ٩٫٨ مليار دولار، بواقع ٦٫٧ مليار دولار لقطاعات الدولة التنموية، و٣٫١ مليار دولار لمشروعات القطاع الخاص.

سألت د. رانيا المشاط عن مدلول هذا الرقم على الرغم من الظروف الاستثنائية لهذا العام التى تجتاح العالم كله؟

أجابت: هذا العام كان استثنائيا بكل المقاييس، حيث واجه العالم فيه تحديات لم يواجهها من قبل بسبب جائحة كورونا التى تخطت الحدود الجغرافية، وأودت بحياة الكثيرين، وانتقل تأثيرها إلى الجوانب المالية والاقتصادية والاجتماعية، لكن على الجانب المقابل، فقد أكدت جائحة كورونا أهمية التعاون المتعدد الأطراف، لتصبح الجائحة فرصة للعالم لتصحيح المسار، والعمل بابتكار وأساليب متجددة تساعد على توجيه طاقاته نحو البناء.

وأضافت د. رانيا المشاط قائلة: العالم لا يعرف العواطف، ولولا شعور شركاء التنمية بجدية مصر، وما حققته من إنجازات ضخمة خلال الفترة الماضية، لكان من المستحيل أن تثق الدول والمؤسسات فى الاقتصاد المصرى.

الثقة فى الاقتصاد المصرى، وقدرته على التعافى، ونوعية المشروعات التى تتعلق بتحقيق أهداف التنمية المستدامة، كلها أسباب جعلت الاقتصاد المصرى جاذبا وواعدا لشركاء التنمية، مما جعل 2020 عاما متميزا فى تاريخ العلاقات مع المؤسسات التمويلية.

وأوضحت أنه فى ظل جائحة كورونا كان من الصعب السفر إلى الخارج، لحضور المؤتمرات، وعقد المفاوضات، ومع ذلك نجحنا، من خلال منصة التعاون التنسيقى المشترك، فى إيصال احتياجات القطاعات التى تحتاج إلى تمويل مثل الصحة والتعليم والنقل والزراعة، التى كانت محل ترحيب وقبول من الشركاء الدوليين، بعد أن أصبحت التجربة المصرية تجربة يقاس عليها للدول الأخرى.

قلت: سمعنا كثيرا عن الدبلوماسية السياسية، والآن هناك تعبير مستجد عن الدبلوماسية الاقتصادية، فما هو المقصود من تلك الدبلوماسية، وهل كان لها دور فيما حدث من نجاح فى مجال التمويل التنموي؟!

أجابت وزيرة التعاون الدولى: الهدف من الدبلوماسية الاقتصادية هو تحقيق أهداف التنمية المستدامة من خلال التعاون المتعدد الأطراف فى إطار بناء شراكات تنموية، لتحقيق تعاون إنمائى فعال، ودعم علاقات التعاون الاقتصادى بين مصر والدول والمنظمات الدولية والإقليمية.

نجاح الدبلوماسية الاقتصادية يتوقف على ضرورة وضع ضوابط ومعايير للاقتراض الخارجى، والحصول على المنح الأجنبية، وكذلك متابعة الجهات المحلية المقترضة فى الاستخدام والسداد، وأيضا متابعة الجهات المستفيدة من المنح الأجنبية فى الاستخدام.

هذه الأسس جميعها ساعدت على نجاح إدارة العلاقات الاقتصادية لمصر مع المنظمات والهيئات والمؤسسات المالية الدولية والوكالات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة.

سألت: هل نجحت تلك الحزمة الهائلة من التمويلات التنموية فى تحقيق أهدافها والوصول إلى المواطن العادي؟!

أجابت د. رانيا المشاط: وضعت الوزارة تقريرا مفصلا بعنوان «صناعة المستقبل فى ظل عالم متغير»، رصد النجاح الهائل الذى تحقق على أرض الواقع وفى مختلف المجالات، فالمواطن هو محور الاهتمام، والحكومة المصرية جعلت الاستثمار فى المواطن أولوية قصوى، حيث إن الإسهام فى رأس المال البشرى جزء لا يتجزأ من التنمية الشاملة، مشيرة إلى أن كل تلك التمويلات التزمت واستهدفت تحسين حياة الشعب المصرى، وتقديم المساعدات المتعددة فى مختلف القطاعات لملايين المستفيدين.

وأضافت وزيرة التعاون الدولي: تم تنفيذ العديد من المشروعات، بما فى ذلك التعليم والصحة والنقل وتحلية المياه وتمكين المرأة والطاقة وتعمير وتنمية سيناء، فى إطار «رؤية 2030»، وبما يساعد على نمو مصر المستدام فى هذه المجالات وغيرها.

أخيرا، يبقى القول إن ما حدث هو قصة نجاح مصرية فى هذا العام الاستثنائى الصعاب فى القرن الحادى والعشرين، على الرغم من كل المصاعب والتحديات بسبب جائحة كورونا التى أكدت أهمية بناء الدولة الوطنية القوية والحديثة، وفى الوقت نفسه، بثت روحا جديدة فى تفعيل العمل الدولى المتعدد الأطراف، وهو ما نجحت فيه الدبلوماسية الاقتصادية المصرية باقتدار ومهارة

Back to Top