عواصف الربيع العربى تهب على واشنطن بعد عشر سنوات!
بقلم: عبدالمحسن سلامة
انتابني شعور متناقض وأنا أتابع أحداث اقتحام مبنى الكونجرس الأمريكى، واحتلاله، ونهبه، وسلبه، وتعطيل جلساته مساء الأربعاء الماضى، فها هى أمريكا تكتوى ربما "بشظية واحدة" من شظايا الربيع العربى الذي هب على المنطقة فى مثل هذه الأيام من نحو 10 أعوام، وأدى إلى تخريب المنشآت العامة والخاصة، وحرق المتاحف والأقسام والمراكز، واقتحام السجون، وتعطيل البلاد والعباد فترات امتدت إلى شهور وسنوات، ولاتزال بعض الدول تعانى حتى الآن من آثاره، وهى الدول التي "غرقت" فى وحل هذه العواصف، ولم تخرج منها حتي الآن مثل ليبيا وسوريا واليمن.
مصدر الشعور بالتناقض يرجع إلى رفض كل أشكال العنف والتخريب والتدمير فى أى من دول العالم المختلفة، الولايات المتحدة الأمريكية أو غيرها، لكنه فى الوقت نفسه ربما تكون الحسنة الوحيدة لتلك الأحداث هو أن يشعر الأمريكيون بالآم الشعوب الأخرى التى لاتزال ترزخ تحت نيران الفوضى والخراب والتدمير، فى وقت كانت فيه إدارات أمريكية سابقة تؤيد أعمال الفوضى الخلاقة فى دول المنطقة العربية وتغازلها ، وحتى الإدارة الأمريكية الحالية رغم تحسن موقفها فإنها تكتفي بموقف "المتفرج" علي مشاهد "البؤس" في تلك الدول التى لاتزال غارقة فى "مستنقع الفوضى" حتى الآن.
ربما يكون ما حدث من همجية، وفوضى، وأعمال تخريب في العاصمة الأمريكية واشنطن، واحتلال مبني الكونجرس "جرس تنبيه" للإدارة الأمريكية الجديدة لوقف "التشجيع الأمريكى" لأعمال الفوضى فى الدول الأخري تحت أى مسمى وتغيير ذلك إلى دعم حلول الدولة الوطنية فى الدول التى لاتزال غارقة فى الفوضي والعنف.
لقد اضطرت عمدة واشنطن ميوريل باوزير إلى فرض حظر تجوال فى العاصمة، وقالت في تغريدة عبر "تويتر" طلبت فرض حظر تجوال علي مستوى المدينة في مقاطعة كولومبيا بدءا من الساعة 6 مساء يوم الأربعاء 6 يناير حتي الساعة 6 صباح يوم الخميس".
لم ينته حظر التجول إلا بعد وصول تعزيزات أمنية مكثفة إلى محيط مبنى الكونجرس ووقوع صدامات عنيفة مع المتظاهرين أدت إلى مقتل 4 متظاهرين بالرصاص فى الأحداث الدموية قبل أن تتمكن القوات الأمنية من إخلاء مبنى الكونجرس، وإنهاء حالة الفوضى والانفلات فى الشوارع المحيطة بمبنى الكونجرس.
لم تستطع واشنطن بمفردها السيطرة على الأحداث وإنما استعانت بالولايات الأخري، وقدم حاكم ولاية ميريلاند لاري هوجان الدعم إلى واشنطن، بعد أن تلقى مكالمة مفاجئة من وزير الجيش الأمريكى زايان لكارثى الذى استنجد به طالبا قدوم أفراد الحرس الوطنى فى ميريلاند في أقرب وقت ممكن.
استجاب حاكم ميريلاند وأرسل تعزيزات من قوات الحرس الوطنى وقوات الشرطة لمساعدة القوات الأمنية في واشنطن ليستكملوا الانتشار حول مبنى الكونجرس، وتوفير الأمن فى العاصمة الأمريكية التى شهدت أسوأ ليلة في تاريخها على الإطلاق، ومن المقرر أن تستمر تلك القوات حتى نهاية الشهر الجاري لحين انتهاء إجراءات تنصيب الرئيس المنتخب جو بايدن.
عاشت واشنطن تجربة مريرة ألقت بظلالها الكئيبة على دول العالم المختلفة ووقع حلفاء أمريكا وخصومها بين الصدمة والحزن والتنديد، ووصفوا ما حدث بأنه مشاهد صادمة فى واشنطن وأن هذه المشاهد أثارت قلقا وخوفا كبيرين لدى معظم المراقبين.
هذه المشاهد والأحداث طرحت العديد من التساؤلات حول اخفاق الأجهزة الأمنية فى حماية "الكونجرس" مما أدى إلى وقوع 4 قتلى وإصابة 14 شرطياً واعتقال العشرات.
الرئيس الأمريكى المنتخب جو بايدن وصف ما حدث بأنه "أسوأ الأيام فى تاريخ أمريكا، وأنه اعتداء على التاريخ، وعلي أهم المقدسات، وعلى إرادة الشعب"، بل أنه وصف الدين اقتحموا الكونجوس بانهم "غوغائيون وإرهابيون محليون".
شعر "بايدن" بالألم بعد أن أصابت النيران أصابع يديه فأطلق سهامه النافذة تجاه المحتجين ووصفهم بالغوغائية والإرهاب.
بغض النظر عن الإتفاق والاختلاف مع تلك الأوصاف التى أطلقها بايدن على المتظاهرين والمحتجين، إلا أنه يجب أن تظل تلك التجرية فى الوعى الجمعى للرئيس الأمريكى المنتخب، ولكل زعماء وقادة أمريكا قبل التسرع فى إصدار التصريحات التى تشجع على أعمال الفوضى والانفلات في الدول الأخري.
صحيح تخلصت واشنطن من آلامها بسرعة، وأقر الكونجرس فوز بايدن رسمياً ليصبح الرئيس الـ 46 للولايات المتحدة الأمريكية، لكن كانت الفاتورة هذه المرة غالية الثمن بعد مقتل وإصابة واعتقال العشرات، والأخطر اهتزاز صورة الديمقراطية الأمريكية التى كانت تحاول تصديرها باعتبارها النموذج والحلم لباقى دول العالم.
منذ عشر سنوات مضت اندلعت ثورات ما عرف بثورات الربيع العربى، والذى انطلق فى البداية من تونس فى 17 ديسمبر 2010 ثم هبت الرياح الساخنة بعد ذلك على مصر في 25 يناير 2011، وبعدها ليبيا وسوريا واليمن، ثم بعد ذلك الجزائر، ولبنان، والسودان.
نجحت مصر وتونس والجزائر، وربما السودان فى عبور النفق المظلم، بينما لاتزال ليبيا وسوريا واليمن ولبنان تلعق جراحها، وتراوح مكانها فى وقت تقف فيه الدول الكبري ومن بينها الولايات المتحدة الأمريكية "متفرجة"، وربما متورطة في عدم الرغبة الجادة لإنهاء مأساة شعوب تلك الدول، تاركة إياها نهباً "للغوغائيين والإرهابيين" بحسب تعبير بايدن علي مقتحمي الكونجرس.
عشر سنو،ات كاملة أدت إلي إخفاقات بالجملة فى العديد من الدول نتيجة ما لحق بها من أضرار اقتصادية وأمنية وسياسية.
تونس التي اندلعت منها الشرارة الأولى لاتزال حتى الآن تعيش فوق صفيح ساخن بسبب الأزمة السياسية التى تعيشها البلاد منذ سنوات وأدت إلى تأزم الوضع المعيشى والاجتماعي فى حين تشهد الطبقة السياسية انقسامات حادة منذ انتخابات 2019 في ظل أوضاع اقتصادية صعبة ومؤلمة وارتفاع نسبة البطالة إلي أكثر من 15%.
نفس الحال فى الجزائر والسودان ولبنان، وإن كان وضع تلك الدول أفضل كثيراً من الدول التى لا تزال غارقة فى توابع ثورات الربيع العربى مثل ليبيا وسوريا واليمن.
كان المخطط يستهدف إدخال الدول العربية جميعها من المحيط إلى الخليج، إلى نفق الفوضى والاقتتال الأهلى والعنف، غير أن قيام ثورة 30 يونيه 2013 فى مصر أوقف المخطط الشرير وأعاد رسم خريطة المنطقة من جديدة.
نجحت ثورة 30 يونيه 2013 في مصر فى إزاحة الإخوان وداعميها من المشهد، بعد أن شهدت البلاد موجة عنيفة من الفوضي والانفلات، وصل إلى حد الاقتتال الأهلى فى الشوارع، وإسالة الكثير من الدماء.
أعادت ثورة 30 يونيه رسم المشهد ليس فى مصر وحدها من جديد، لكنها نجحت في وقف موجات العنف والفوضي فى المنطقة كلها، وتحملت مصر وحدها عبء مقاومة الإرهاب نيابة عن دول العالم العربى، ودول العالم، ونجحت فى كسر شوكة الإرهاب والإرهابيين.
نجاح ثورة 30 يونيه انعكس بالإيجاب على الدولة المصرية التى حققت نجاحات اقتصادية وأمنية وسياسية هائلة في فترة زمنية قصيرة.
كان التحدى الأول هو تثبيت استقرار الدولة، وكسر شوكة الإرهاب، وعادت الدول المصرية أقوى مما كانت، وتراجعت العمليات الإرهابية إلى أدنى مستوياتها بعد تجفيف منابعها، والضربات الموجعة التى نالتها خلال الفترة الماضية.
انعكس استقرار الدولة على استكمال مؤسساتها التشريعية والنيابية والدستورية، ولأن الاقتصاد يرتبط دائما بالاستقرار، فقد دارت عجلة الاقتصاد المصرى، ونجح برنامج الإصلاح الاقتصادى، وانخفضت معدلات البطالة، ونال الاقتصاد المصري ثقة، المؤسسات الاقتصادية الدولية، وحافظ على تصنيفه الائتماني، ورغم جائحة كورونا "اللعينة" فقد كان الاقتصاد المصرى من ضمن أفضل اقتصادات عالمية حققت نموا إيجابيا خلال الجائحة بعد الصين.
هذه النجاحات وغيرها أعادت تغيير المشهد من جديد فى المنطقة العربية لتنتقل من حالة "السيولة" و"الفوضى" إلي مرحلة "التئام الجراح" ومحاولة التخلص من آثار الفوضي والإرهاب التى كانت تستعد لاجتياح المنطقة بأكملها.
يبقي بعد ذلك أن يكون هناك دور إيجابى ملموس للإدارة الأمريكية الجديدة فى دعم مؤسسات الدول الوطنية، وعدم التدخل فى شئونها، ومساعدة الدول التى لاتزال غارقة فى بحور الفوضي مثل ليبيا وسوريا واليمن ولبنان، على التعافي السريع خلال المرحلة المقبلة بعد أن اكتوت أمريكا بنيران الفوضي واضطرارها إلى اللجوء إلى حظر التجول والتدخل العنيف قبل أن تعود الحياة إلى طبيعتها من جديد.