إنجاز العصر فى ريف مصر
بقلم: عبدالمحسن سلامة
لأننى واحد من أبناء الريف المصرى ـ وأفتخر بذلك ـ فقد توقفت طويلا أمام المشروع القومى العملاق الذى أطلقه الرئيس عبد الفتاح السيسى لتطوير كل القرى المصرية التى يبلغ عددها أكثر من 4500 قرية فى كل محافظات الجمهورية وكذلك التوابع التى تتبع هذه القرى، بهدف تحسين جودة الحياة لما يقرب من 58% من عدد السكان فى مصر، وتحقيق التنمية الشاملة لكل القرى المصرية.
المبادرة التى أطلقها الرئيس أثناء مشروع الاستزراع السمكى بشرق بورسعيد هى أهم مبادرة فى الريف المصرى فى العصر الحديث منذ أيام محمد على، ودون أدنى مبالغة أو تهويل.
الحاكم المصرى الوحيد الذى اهتم بالريف المصرى وأحواله هو محمد على حينما أطلق أضخم مشروع لإنشاء الترع والمصارف والقناطر.
نجح محمد على خلال فترة حكمه التى امتدت بين عامى 1805 إلى 1848 فى إنشاء 44 قنطرة و37 ترعة و14 جسرا لحماية النيل ما كان له أكبر الأثر فى تطوير منظومة الرى فى مصر وتحقيق طفرة هائلة فى الزراعة المصرية، وتحويلها من الرى بالحياض الذى لم يكن ينتج إلا محصولا واحدا فى السنة إلى الرى الدائم للزراعة على مدار العام.
كان الريف المصرى قبل محمد على يعتمد على نفسه ذاتيا ويسير بقوة الدفع الذاتى زراعيا، حيث لم يكن الفلاح يستطيع الزراعة سوى مرة واحدة فى العام بحسب مواسم الفيضانات.
بعد عصر محمد على استمر الريف المصرى على ما هو عليه طوال عقود طويلة، وحتى الآن باستثناء بعض الأعمال المتفرقة هنا أو هناك بعد ثوة 23 يوليو خاصة فيما يتعلق بمشروعات الكهرباء ومياه الشرب.
بعيدا عن قطاعى الكهرباء والمياه ظل الريف المصرى يعانى الإهمال وللأسف وضعته الحكومات المتعاقبة فى نهاية سلم الأولويات، فكانت النتيجة "ترهل" القرى وانتشار التعديات والعشوائيات فى معظمها، وضعف وانهيار الخدمات فى كل القرى بلا استثناء.
فى قطاع الكهرباء مثلا رغم أنه أحسن حالا من باقى الخدمات فى الريف فإن هناك مشكلات كثيرة تراكمت فيه خاصة ما يتعلق بخطوط الضغط العالى الهوائى وتداخله مع الكتل السكنية، وكذلك انتشار الخطوط الهوائية المؤدية إلى المولدات الكهربائية والخارجة منها.
أما فيما يخص مياه الشرب فهناك نسبة قليلة من القرى التى يوجد بها مشروع متكامل لمحطات مياه الشرب التى تتم معالجتها بشكل قياسى فى حين تنتشر الآبار الارتوازية فى معظم القرى الأخرى التى ترتبط بشبكات المياه العمومية والتى ترتفع بها نسبة الملوحة، وعدم توافر الاشترطات الصحية.
بعيدا عن خدمات الكهرباء والمياه تتفاقم باقى المشكلات والخدمات, وتأتى مشكلة الصرف الصحى فى مقدمة المشكلات التى تعانى منها القرى المصرية والتى تنعكس بدورها سلبيا على باقى القطاعات الخدمية.
يبلغ عدد القري التى يوجد بها مشروعات للصرف الصحى (تعمل أو تحت التنفيذ) نحو 911 قرية تقريبا بنسبة لا تتجاوز 19% من عدد سكان القرى فى حين أن هناك 81% من القرى لاتزال محرومة من خدمات الصرف الصحى بشكل كامل.
الحرمان من خدمات الصرف الصحى يعنى ببساطة قيام أهالى هذه القرى بتسيير أمورهم بقوة الدفع الذاتى، حيث يقومون بحفر "طرنشات" أسفل مساكنهم، ويتم "كسح" تلك الـ "طرنشات" وإلقاء ناتج الكسح فى الترع والمصارف.
إلى جوار كارثة الصرف الصحى فى الريف فإن معظم القرى لا تملك سوى طريق واحد مرصوف لكنه يعانى كثرة المطبات، وتآكل طبقة الرصف، برغم أنه الطريق الرئيسى الذى يربط بين هذه القرى وبعضها البعض أو بينها وبين المركز الذى تقع القرية فى نطاقه.
ربما تكون القرى التى تملك مثل هذا الطريق الرئيسى من القرى المحظوظة، لأن هناك العديد من القرى الأخرى لا تملك مثل هذا الطريق، ومازالت تعتمد على الطرق غير المرصوفة التى يطلق عليها الأهالي "المدقات".
تزداد المشكلات تعقيدًا فى معظم قرى الصعيد "الجوانى" وبعض قرى الدلتا، مثل بعض قرى محافظات البحيرة، والشرقية، وكفرالشيخ.. وغيرها من المحافظات المترامية الأطراف، والتى تنهار الخدمات فيها إلى أدنى مستوى فى القرى التى تقع فى أعماق تلك المحافظات.
تراكم الإهمال على مدى عقود طويلة وممتدة فاقم من مشكلات أهالى ومواطنى القرى المصرية، فلجأوا إلى الحلول الذاتية التى زادت المشكلات تعقيدًا، مثل تلك المشكلات المتفاقمة فى "التوابع" المنتشرة فى كل القرى المصرية بلا استثناء.
قصة التوابع بدأت عشوائيا فى أغلب الأحوال بمنزل واحد أقامه أحد المواطنين في منطقة تبعد عن القرية الأم بعدة كيلومترات، ثم قام بعض المواطنين الآخرين ببناء منازل إلى جوار ذلك المنزل وحوله.
هناك "توابع" كبيرة الحجم ويطلق عليها "العزب والنجوع" وهناك "توابع" صغيرة الحجم ولا يطلق عليها أسماء بعينها.
أغلب هذه التوابع تمتد إليها شبكات الكهرباء وربما يكون توصيل الكهرباء كان أحد أسباب زيادة حجم هذه التوابع، لكن بعيدًا عن الكهرباء لا يوجد فى معظم هذه التوابع شبكات لمياه الشرب أو الصرف الصحى أو باقى الخدمات الأخرى.
لكل ذلك، فإن المشروع القومى الذى أطلقه الرئيس عبدالفتاح السيسى بتطوير القري المصرية هو إنجاز العصر بكل ما تحمله الكلمات من معان فى الريف المصرى، لأنه سوف يعالج كل تلك المشكلات المتراكمة عبر عقود طويلة وممتدة.
المشروع ضخم وعملاق ويستهدف تغيير وجه الحياه فى الريف المصرى، وتبدأ مرحلته الأولى فى 1500 قرية مصرية موزعة على 50 مركزًا وتصل توابع تلك القرى إلى 11 ألف تابع تقريبًا، بهدف حل مشكلات تلك القرى وتوابعها، وتحسين جودة الحياة للمواطنين فيها بدءًا من تبطين الترع والمصارف، ومرورًا بإدخال مياه الشرب النقية وإقامة مشروعات الصرف الصحى، وتجديد شبكات الكهرباء المتهالكة وحل مشكلات الضغط العالى "الهوائى"، وانتهاءً بتجديد وتحديث المدارس والمستشفيات ورصف الطرق والمداخل والمخارج، وتطوير مناطق الإنتاج الزراعى والحيوانى وإنتاج الألبان وإقامة صناعات تتلاءم مع نوعية الإنتاج الزراعى والحيوانى والبيئى فى تلك المناطق.
هى ثورة تنموية بمفهومها الشامل لإعادة تغيير وجه الحياة بالكامل فى تلك المناطق.
طبقاً لما أعلنه الرئيس عبدالفتاح السيسي فإن المشروع يستهدف قرى مصر بكاملها خلال 3 سنوات وتبلغ تكلفته أكثر من 515 مليار جنيه.
المؤكد أن التكلفة سوف تتضاعف بعد العمل على أرض الواقع لأن المشروع يعيد صياغة المشهد بالكامل فى الريف، ويستهدف تحويله إلى قرى عصرية حديثة تليق بالمواطن المصرى الذى يعيش فيها ويستهدف رفع كفاءة خدمات الرى والصحة والتعليم والبنية التحتية بكل مشتملاتها، ووضع قواعد للنمو السكنى والعمرانى.
حلم تطوير القرى المصرية وتوابعها بدأ منذ عام 2019 حينما أطلق الرئيس عبدالفتاح السيسي مبادرة مشروع تنمية القرى الأكثر فقرا وكانت عبارة عن 1000 تجمع ريفى، وهو ما دفع الرئيس إلى تعبئة وتوحيد جهود جميع مؤسسات الدولة لتنفيذ المشروع القومى العملاق لتطوير القرى المصرية بكاملها ودون استثناء، بهدف التدخل العاجل لتحسين جودة الحياة لمواطنى الريف المصرى.
يستفيد من هذا المشروع فى مراحله الثلاث الممتدة خلال الثلاثة أعوام المقبلة نحو 58 مليون مواطن مصرى، أى أن ما يقرب من 58% من سكان مصر سوف يستفيدون بشكل مباشر من هذا المشروع العملاق.
إعادة صياغة الريف المصرى من جديد سوف يسهم فى وقف الهجرة الداخلية من القرى إلى عواصم المحافظات وكذلك إلى محافظات القاهرة الكبرى التى تستقبل أعداداً هائلة من المهاجرين إليها هرباً من قسوة الحياة والظروف فى تلك المناطق.
لن تتوقف آثار هذا المشروع القومى العملاق عند ذلك الحد فقط لكنه سوف يكون له أكبر الأثر على حركة الاقتصاد الوطنى ونموه بمعدلات كبيرة ومتصاعدة نتيجة تحريك عجلة الإنتاج الصناعى والزراعى المحلى.
كل هذا سوف يسهم فى إحداث طفرة اقتصادية هائلة، وخلق ملايين من فرص العمل للأيدى العاملة فى مختلف المجالات بشكل مباشر أو غير مباشر .