الإصلاح النقدى بوابة العبور للإصلاح الهيكلى

بقلم: عبد المحسن سلامة

فى مثل هذا التوقيت من العام الماضى كانت الحكومة تستعد لإطلاق الموازنة الجديدة (2020/2021) متضمنة العديد من الخطط للإصلاح الهيكلى بعد نجاح خطط الإصلاح النقدى والاقتصادى، غير أن "كورونا" قفزت فجأة، ودون سابق إنذار لتربك المشهد عالميا ومحليا، وضربت بعنف الاقتصاد العالمى، وعرضته لأزمة صعبة وقاسية لم يمر بها منذ ما يقرب من المائة عام حينما تعرض العالم للكساد أو الانهيار الكبير في عشرينيات القرن الماضى.

دخول "كورونا" على الخط أربك الحسابات الاقتصادية، وقلب الموازين، وبدلا من موازنة الإصلاح الهيكلى اضطرت الحكومة إلى إدخال تعديلات طارئة لمواجهة ذلك الضيف الثقيل "كورونا"، بعد أن تأثرت وتضررت قطاعات اقتصادية كبيرة منه، خاصة ما يتعلق بالسياحة، وتحويلات المصريين بالخارج، وغيرهما من القطاعات التى تضررت بشدة من "كورونا"، وأدت إلى تأثير سلبى واسع على الأنشطة الاقتصادية المختلفة.

كان العام الماضى (2020) هو الأصعب اقتصاديا علي المستوى العالمى، وتوقعت مديرة صندوق النقد الدولى كريستينا جورجيفا حينذاك أن تصل خسائر الاقتصاد العالمى جراء جائحة كورونا إلى مايقرب من 28 تريليون دولار، وأن ينخفض النمو إلى نحو سالب 4,4% على مدي السنوات الأربع المقبلة بفعل تأثيرات جائحة كورونا السلبية.

قبل كورونا كانت مصر تسير بخطوات عملاقة فى مجال النمو الاقتصادى بعد نجاح برنامج الإصلاح الاقتصادى، وكان من المتوقع أن يصل النمو الاقتصادى فى موازنة (2020/2021) إلى أكثر من 6%، بعدما وصل إلى 5.6% فى موازنة (2019/2020) ، وهو المعدل الذي احتلت به مصر المركز السادس عالميا فى مجال النمو الاقتصادى.

رغم المفاجآت غير السارة لـ "جائحة كورونا" فقد نجحت التطورات الاقتصادية الهائلة التى حدثت خلال السنوات الخمس الماضية، وكذلك نجاح برنامج الإصلاح الاقتصادى، فى تعزيز قدرة الاقتصاد المصرى علي الصمود فى مواجهة «الجائحة»، وبحسب التقارير الصادرة عن صندوق النقد الدولى، فإن الاقتصاد المصرى هو الاقتصاد الوحيد فى منطقة الشرق الأوسط الذى حقق معدل نمو إيجابيا فى ظل تلك الأزمة، مما جعل مصر ضمن أفضل 3 اقتصادات فى الشرق الأوسط وآسيا الوسطى تحقق هذا النمو الاقتصادى الإيجابى.

خلال مشاركتها فى ندوة استضافتها الجامعة الأمريكية "عن بعد" فى الشهر الماضي أشادت جيتا جوبيناث مديرة إدارة الأبحاث فى صندوق النقد الدولى بما تحقق فى مصر عبر برنامج الإصلاح الاقتصادى الذى نفذته مصر منذ نوفمبر 2016، وأدي إلى تعزيز الاستقرار المالى والنقدى، وبناء غطاء قوى من احتياطى النقد الأجنبى.

هذا النجاح فى رأيها هو الذي عزز قوة الاقتصاد المصرى الكلى، وأوجد المساحة الكافية للحكومة للتحرك بشكل سريع وكفء فى مواجهة أزمة "كورونا"، مما قلل من الآثار الاجتماعية والاقتصادية السلبية الناجمة عنها.

لمعرفة آخر التطورات المالية والاقتصادية وإلى أين يذهب الاقتصاد المصرى ذهبت إلى محافظ البنك المركزى طارق عامر وفى جعبتي العديد من التساؤلات وكانت البداية:

هل تغلب الاقتصاد المصري على آثار كورنا أم أن الأمر لم ينته بعد؟!

أجاب: قطعنا الشوط الأصعب خلال العام الماضى، وأعتقد أنه كان الأصعب بكل المقاييس، على الاقتصاد المصرى والعالمى إلا أن الاقتصاد المصرى نجح فى تجاوز تلك الأزمة الطاحنة بأقل أضرار ممكنة، وأكبر دليل علي ذلك أن المواطن العادى لم يشعر بأي أزمات "طاحنة" فى السلع أو الخدمات، ولم يتعرض سوق النقد لأى هزة، بل على العكس سجل الجنيه المصرى ارتفاعا ملحوظا فى مواجهة الدولار فى بعض الأحيان، وحافظ علي استقراره طوال الوقت، واسترد بعضا مما فقده قبل ذلك.

هذه المؤشرات كلها تشير إلى استقرار الاقتصاد المصرى، وقدرته علي الصمود فى مواجهة "جائحة كورونا" بفعل نجاح خطة الإصلاح النقدى والاقتصادى التى تبناها الرئيس عبدالفتاح السيسي منذ عام 2016، وانعكست إيجابيا على حالة الاقتصاد المصرى.

أضاف: رغم كل ذلك مازال التحدى قائما لأن "كورونا" لم تنته، وفقدنا موارد كثيرة أبرزها حصيلة السياحة التى كانت تبلغ حوالي 30٪ من حصيلة النقد الأجنبى بما يوازي 18 مليار دولار تقريبا، بالإضافة إلى ارتفاع صادرات قطاع البترول، والتى بلغت ما يقرب من 10 مليارات دولار سنويا رغم تحقيق الاكتفاء الذاتى من الغاز.

رغم كل ذلك نجحت الحكومة فى الحفاظ علي الاستقرار الاقتصادى، ولم تشهد السلع أى طفرات سعرية، واستقر سعر الصرف، وزاد الاحتياطي النقدى، وكل المؤشرات تشير إلى استمرار زيادة حصيلته ليقترب من حاجز الـ 41 مليار دولار قريبا.

سألت: ما هى فلسفة البنك المركزى فى الاتجاه إلى تخفيض أسعار الفائدة، وهل هناك علاقة بين ذلك وبين نجاح الإصلاح الاقتصادى؟

أجاب محافظ البنك المركزى قائلا: من المهم توضيح أن سعر الفائدة فى مصر مازال من أعلى أسعار الفائدة على مستوى العالم، والاتجاه إلى تخفيضه يأتى فى إطار خطة متكاملة لتحقيق أقصى استفادة ممكنة من السيولة المتوافرة، وتحويلها إلى فرص عمل من خلال القطاع الخاص، وهو الأسلوب الأفضل فى استثمار الأموال بشكل عام.

البنك المركزى يستهدف تشجيع القطاع الخاص على الاستثمار، والإنتاج، وخلق فرص عمل جديدة، فى إطار خطة الحكومة للإصلاح الهيكلى، مشيرا إلى ضرورة تكامل الإصلاحات المالية والنقدية والاقتصادية معا، لزيادة القدرة التنافسية للاقتصاد المصرى، ودعم القدرات فى القطاعات الانتاجية المختلفة(الصناعة - الزراعة -التكنولوجيا... إلخ) لأن الإصلاح الهيكلى هو "الضامن" الأساسى لاستمرار النجاح الاقتصادى وارتفاع مؤشرات النمو الاقتصادى بشكل مستمر، ودون ذلك يبقى الإصلاح منقوصا.

قلت: لكن انخفاض سعر الفائدة يثير الذعر لدى قطاع من المواطنين يعتمدون على عوائد مدخراتهم بشكل أساسى فى معيشتهم، كما حدث فى شهادات البنك الأهلى مؤخرا، فهل هناك رسالة لطمأنة هؤلاء؟

قال: ما حدث من شائعات حول هذا الموضوع لم يكن له ما يبرره على الإطلاق، وما حدث كان يتعلق بشهادات بنك الاستثمارات القومى الذى تعاد هيكلته الآن وهى نوعية من الشهادات التى كان يصدرها البنك الأهلى نيابة عن بنك الاستثمار القومى.

إصلاح بنك الاستثمار القومى كان يقتضى وقف إصدار هذه الشهادات، وهو ما حدث، حيث لن يتم تجديد هذه الشهادات التى تنتهى مدتها، أما أسعار الفائدة الحالية على الشهادات والودائع، فلم يحدث لها تخفيض جديد سواء فى البنك الأهلي أو فى البنوك الأخرى.

سألت: هل هناك مبادرات جديدة من البنك المركزى لدعم القطاع الإنتاجى فى إطار خطط الإصلاح الهيكلى ؟!

أجاب طارق عامر: البنك المركزى أطلق العديد من المبادرات خلال الفترة الماضية - التى لاتزال سارية - لمواجهة تبعات "جائحة كورونا" وكذلك دعم القطاعات الإنتاجية، وهى مبادرات تخص العديد من القطاعات الإنتاجية والخدمية معاً، وكلها مبادرات مدعومة بسعر فائدة يتراوح من 5% إلى 8%.

الشركات والمنشآت المتوسطة والصغيرة والمتناهية الصغر هى التى تستفيد من مبادرة الـ 5% وهى موزعة على القطاعات الصناعية، والزراعية والتجارية والخدمية فى محافظات مصر المختلفة (القاهرة والأقاليم)، بإجمالي عدد مستفيدين مليون و 200 ألف عميل حتى نهاية ديسمبر الماضى.

أما فيما يخص مبادرة الـ 8% فقد تمت إتاحة مبلغ 433 مليار جنيه، وبلغ ما تم استخدمه 180 مليار جنيه حتى الآن لشركات القطاع الخاص الصناعى، وقطاع الطاقة الجديدة والمتجددة، والقطاع الزراعي، وقطاع المقاولات المنتظمة، بهدف تمويل شراء آلالات والمعدات، وخطوط الإنتاج، وشراء الخامات ومستلزمات الإنتاج.

هذه المبادرات نجحت فى الحفاظ على دورة الإنتاج بالشركات والمصانع، وانتظام حركة العمل، وعدم تسريح العمالة، كما حدث فى العديد من دول العالم المتقدمة اقتصادياً مثل إسبانيا التى ارتفعت فيها نسبة البطالة فى المرحلة العمرية من 18 إلى 28 سنة إلى 70% بسبب تداعيات جائحة كورونا.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل أن البنك المركزى يتدخل عند الضرورة من أجل إيجاد حلول مصرفية مقبولة للعملاء المتعثرين، كما حدث فى قطاع السيراميك مؤخرا، ومحاولة إيجاد حلول مقبولة تضمن استمرار المصانع فى دورة الإنتاج وضمان تسديد التزاماتهم المالية دون إرهاق فى الوقت نفسه.

أعتقد أن نجاح البنك المركزى خلال الفترة الماضية فى إطلاق العديد من المبادرات قد ساهم فعلياً فى التخفيف من آثار كورونا إلى أدنى حد ممكن، لكن تبقى قدرة الحكومة خلال المرحلة المقبلة علي إطلاق خطة الإصلاح الهيكلى وتحويل الاقتصاد الوطنى من اقتصاد شبه ريعى إلى اقتصاد إنتاجي يعتمد على قدراته الذاتية محليا، وزيادة عوائد صادرات القطاعات الإنتاجية، بما يؤدى إلى استكمال قصة النجاح الاقتصادى المصرية التى أبهرت العالم رغم كل المصاعب والتحديات فى عام "كورونا الاستثنائى".

 

Back to Top