فرق ضخم بين "المصداقية" المصرية و"الأكاذيب" الإثيوبية

بقلم: عبدالمحسن سلامة

تعودت إثيوبيا على "الكذب"، وأصبحت "تكذب" كما تتنفس، لا فرق فى ذلك بين سياستها فى الداخل، كما حدث ويحدث فى إقليم "تيجراى"، وبين سياستها الخارجية فى التعامل مع أزمة "السد"، الذى وضعت حجر أساسه منذ عشر سنوات، وبالتحديد فى 2 أبريل 2011، حينما كانت مصر "مأزومة" داخليا بسبب أحداث 25 يناير 2011 التى خلفت ضبابا كثيفا حول أولويات العمل الوطنى حينذاك، ووسط ذلك الضباب الكثيف، الذى أسدل ستائره على الشأن العام فى مصر، استغلت إثيوبيا الموقف، وشرعت فى وضع حجر أساس السد، وطوال السنوات العشر الماضية ظلت إثيوبيا "تكذب" و"تراوغ"، وتظهر عكس ما تبطن دون أفق واضح للخروج من ذلك المأزق حتى الآن.

الوثيقة الوحيدة التى وقعت عليها إثيوبيا طوال تلك السنوات العشر - ومع ذلك تحالفاتها- هى اتفاقية "إعلان المبادئ" فى الخرطوم يوم 23 مارس 2015، والتى وقع عليها زعماء الدول الثلاث التى حددت مسارات التفاوض، ووضعت آليات للوصول إلى حل مقبول يضمن حقوق دولتى المصب (مصر والسودان) فى حصتهما المقررة فى مياه النيل التى هى بالنسبة للدولتين بمثابة "الحق فى الحياة"، وفى الوقت نفسه يحقق مطالب إثيوبيا فى التنمية وتوليد الطاقة الكهربائية.

قبل إعلان المبادئ وبعده كانت إثيوبيا ولا تزال تصدر للعالم أجمع أنها لن تمس حصتى مصر والسودان، وأن "السد" سوف يكون أداة من أدوات التعاون بين الدول الثلاث.

فى هذا الإطار وتأكيدا لحسن نيات مصر؛ ذهب الرئيس عبد الفتاح السيسى إلى البرلمان الإثيوبى مخاطبا الشعب الإثيوبى بعد توقيع اتفاق إعلان المبادئ بعدة أيام، ليؤكد لهم أن الشعب المصرى يحمل رسالة محبة ومودة وأياد مدودة بالخير إلى الشعب الإثيوبى، قائلا: "كما لبلدكم الشقيق الحق فى التنمية، وفى استغلال موارده لرفع معيشة أبنائه، فإن لإخوانكم المصريين أيضا الحق ليس فقط فى التنمية، ولكن فى الحياة ذاتها.. وفى العيش بأمان على ضفاف نهر النيل، الذى أسسوا حوله حضارة امتدت منذ آلاف السنين ودون انقطاع".

وأضاف: "إن هذه الحضارة التى أقامها المصريون أدركت منذ القدم قيمة النهر العظيم، فكان يوم وفائه عيدا.. وخاطبه المصريون بالشعر والغناء كأنه يسمع ويعى مدى ارتباطهم به"، مشيرا إلى أن "ذلك التخليد ليس إلا تعبيرا بسيطا عن محورية النيل الذى كان ولا يزال المصدر الوحيد للمياه.. بل وللحياة لكل المصريين، الذين يعيشون على جانبيه ويتعلقون به.. وتقوم حياتهم فى الوادى الضيق الذى يشق نهر النيل وسط صحراء شديدة الجفاف تمثل نحو 95% من مساحة مصر".

دعا الرئيس عبدالفتاح السيسى نواب الشعب الإثيوبى إلى "العمل مع الشعب المصرى وباقى دول حوض النيل من أجل تجاوز الخلافات والنقاط العالقة"، منوها إلى ما ذكره رئيس مجلس الوزراء الإثيوبى حينذاك ميليس زيناوى خلال زيارته القاهرة عندما ذكر أن نهر النيل يعد بمثابة الحبل السرى الذى يربط مصر وإثيوبيا، وهو ما يؤكد أن تدفق مياه النهر من المنبع إلى المصب ما هو إلا حصص إلهية قدرها الله لنا جميعا.

كلام واضح ومحدد لم تحد عنه مصر يوما طوال الفترة الماضية، فالمياه بالنسبة لمصر هى بمثابة الحق فى الحياة، وفى الوقت نفسه؛ فإن الشعب المصرى يقف مساندا للشعب الإثيوبى فى حقه فى التنمية، ويجب ألا يكون هناك تعارض بين حق إثيوبيا فى التنمية، وحق الشعب المصرى فى الحياة.

بعد ذلك تغير رئيس مجلس الوزراء الإثيوبى ميليس زيناوى وحل محله رئيس مجلس الوزراء الحالى آبى أحمد، لكن النهج الإثيوبى لم يتغير فى "المراوغة" و"الأكاذيب".

جاء آبى أحمد إلى مصر فى زيارة رسمية فى يونيو عام 2018 ليطمئن الشعب المصرى، مؤكدا فى خطابه أن إثيوبيا "ليست لديها رغبة أو فكرة بإلحاق الضرر بالشعب المصرى، وإن كنا نؤمن بأننا يجب أن نستفيد من هذا النهر، لكن عندما نستفيد وننمى هذا النهر، لا يجوز أن نقوم بما يضر بالشعب المصرى، ونريد أن تكون الثقة سائدة بيننا فى هذا الشأن".

وأضاف: "نحن رغبتنا فى أن نستخدم حصتنا، وأن نؤكد لكم أن تصلكم حصتكم، وألا يكون هناك شك بيننا، ونحن سوف نهتم ونحافظ على حصتكم، وسنعمل على أن تزداد هذه الحصة، أنا وأخى الرئيس عبد الفتاح السيسى".

وأكد رئيس مجلس الوزراء الإثيوبى أمام الصحافة والإعلام وجموع الحاضرين "لن يكون هناك حقد وخلاف بيننا، لأن هذا لا يفيد الشعبين، إن شعبى وحكومتى ليس لديهم الرغبة فى إلحاق الضرر بمصر، ولكن نريد أن نتعاون فى كل المجالات، وبإمكاننا ـ ليس فقط التعاون فى مجال نهر النيل ـ ولكن فى كل المجالات، وعلى الشعب المصرى أن يعرف أننا نكن له كل الاحترام والمودة، دون إلحاق أى ضرر".

برؤية مدققة فى الخطابين؛ نجد أنه لا فرق بين لغة الخطابين تقريبا، لكن الفرق ضخم وهائل فى المصداقية والتصرفات على الأرض، فمصر أكدت ولا تزال تؤكد الحق الإثيوبى فى التنمية، لكنها فى الوقت نفسه تؤكد أن مياه النيل هى قضية حياة بالنسبة للمصريين.

لم تختلف لغة خطاب الرئيس عبدالفتاح السيسى عن أفعاله فى هذا الإطار، ولا يزال يسعى بكل قوة من أجل الوصول إلى اتفاق قانونى عادل وملزم للأطراف الثلاثة (مصر والسودان وإثيوبيا)، يضمن حق مصر والسودان فى حصتيهما من المياه، وفى الوقت نفسه يتيح الحق لإثيوبيا فى التنمية واستثمار حصتها لمستقبل أفضل للشعب الإثيوبى.

الاتفاق العادل والملزم هو الترجمة الحقيقية للنيات، وهو ما تسعى إليه مصر والسودان حاليا، سواء جرت المفاوضات بشكل مباشر بين الدول الثلاث، أو برعاية إفريقية، أو برعاية أممية.. المهم الوصول إلى اتفاق ملزم وعادل للأطراف الثلاثة.

لا أحد يعرقل التوصل إلى اتفاق سوى إثيوبيا، وهى بذلك تناقض أقوالها وتأكيدات رئيس مجلس الوزراء السابق ميليس زيناوى، ورئيس مجلس الوزراء الحالى آبى أحمد.

الأخير أكد أكثر من مرة فى القاهرة والخرطوم، وحتى فى إثيوبيا ذاتها أن إثيوبيا لا تريد الإضرار بالشعب المصرى أو السودانى، وأنه سيعمل على زيادة حصة مصر، بحسب تأكيداته فى خطابه بالقاهرة أمام وسائل الإعلام والصحافة.. لكن ما يحدث على أرض الواقع شىء مختلف تماما عن تلك التصريحات للأسباب التالية:

أولا: إثيوبيا هى التى خالفت وتخالف اتفاقية إعلان المبادئ منذ رفضها تقارير لجنة الخبراء والمكاتب الاستشارية الدولية، لأن هذه التقارير أدانت التصرفات الإثيوبية وفضحت سوء نياتها، وكشفت غياب الدراسات الفنية اللازمة لضمان أمان السد وعدم انهياره، مما يعرض السودان الشقيق للدمار الشامل، ولو كانت إثيوبيا "صادقة" فى أقوالها ونياتها لبادرت بالتعاون مع المكاتب الفنية الاستشارية الدولية، والتزمت بتقارير لجنة الخبراء الفنية.

ثانيا: إثيوبيا تهربت من استحقاقات التوقيع على الاتفاق النهائى الذى تم التوصل إليه برعاية أمريكية ومشاركة البنك الدولى فى العاصمة الأمريكية واشنطن، رغم أنها شاركت فى كل البنود التى تم التوصل إليها، وحينما جاء موعد التوقيع "هربت" بفجاجة، تأكيدا لأسلوبها فى المراوغة والأكاذيب، وعدم رغبتها الجادة فى التوصل إلى اتفاق قانونى عادل وملزم لكل الأطراف.

ثالثا: مراوغة إثيوبيا وأكاذيبها أدت إلى فشل مفاوضات الاتحاد الإفريقى فى دورتيه السابقة والحالية، حيث فشلت جنوب إفريقيا فى إلزام إثيوبيا بالتوصل إلى اتفاق، وكذلك الحال مع الكونغو، التى ترأس الدورة الحالية للاتحاد الإفريقى، واستضافت الجولة الأخيرة من المفاوضات فى العاصمة كينشاسا، حيث رفضت إثيوبيا مختلف المقترحات والبدائل المقدمة من دولتى المصب، والتى تستهدف إعادة إطلاق عملية التفاوض مرة أخرى، والتوصل إلى الاتفاق القانونى الملزم.

رابعا: إثيوبيا رفضت المقترح السودانى بتوسيع دائرة رعاية المفاوضات لتكون رعاية رباعية (الاتحاد الإفريقى، الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبى، وأمريكا)، من أجل ضمان سرعة التوصل إلى حل للأزمة قبل أن تتفاقم، لكن سوء النيات الإثيوبية ظهر بوضوح فى رفض المقترح السودانى، الذى يستهدف حل الأزمة بمشاركة دولية فاعلة، ويفضح المتسبب فى تعطيل المفاوضات طوال الفترة الماضية.

لو أن إثيوبيا جادة وصادقة لأيدت على الفور المقترح السودانى، كما أيدته مصر، لأنه يضمن حقوق الدول الثلاث العادلة دون تغول من طرف على آخر، لكنها تصر على المماطلة والتسويف، والسير فى خطوات الملء الأحادى، كما حدث فى الملء الأول، وتريد أن يحدث فى الملء الثانى دون إدراك للمخاطر على دولتى المصب.

الآن كل الخيارات مطروحة، كما أكد الرئيس عبدالفتاح السيسى يوم الأربعاء الماضى، والكرة الآن فى ملعب إثيوبيا، وعليها أن تلتزم بتعهداتها الواردة فى اتفاقية إعلان المبادئ لدولتى المصب (مصر والسودان)، وهى نفس تصريحات وتعهدات كل رؤساء ووزراء إثيوبيا السابقين، وانتهاء برئيس مجلس الوزراء الحالى آبى أحمد.

لكن تبقى المصداقية والجدية لدى المسئولين فى إثيوبيا على "المحك" لمعرفة مدى قدرتهم على تحويل تلك التصريحات والتعهدات إلى اتفاق قانونى ملزم يحقق الاستفادة لإثيوبيا من النهر، دون الإضرار بدولتى المصب (مصر والسودان).

 

 

Back to Top