مصر «القلب الصلب» للشرق الأوسط وإفريقيا

 

بقلم ــ عبدالمحسن سلامة

بعد 11 يوماً من سفك الدماء نجحت مصر فيما فشل فيه الآخرون، واستطاعت وقف العنف، وسفك الدماء فى الأراضى الفلسطينية بعد جهود دبلوماسية خارقة حازت إعجاب دول العالم، وأسفرت عن اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل، والفلسطينيين، أقره مجلس الوزراء الإسرائيلى الأمنى المصغر ، ووافقت عليه الفصائل الفلسطينية جميعها.

جهود ماراثونية جبارة بذلها الرئيس عبدالفتاح السيسى قبل التوصل إلى هذا الاتفاق الذى جعل العالم يتنفس «الصعداء» بعد معارك دامية استمرت 11 يوماً راح ضحيتها أكثر من 300 شهيدا من الجانب الفلسطينى، وأكثر من 1900 جريح بينما بلغ عدد القتلى الإسرائيليين حوالى 12 قتيلاً، وعشرات المصابين.

أيام وليال ثقيلة وصعبة أرقت ضمير العالم الحى، وفشل مجلس الأمن فى الاجتماع عدة مرات، لإقرار وقف إطلاق النار بسبب الفيتو الأمريكى، والتعنت الإسرائيلى، إلا أن مصر لم تهدأ طوال تلك الفترة، حتى نجحت فى جهودها ودخل الاتفاق حيز التنفيذ صباح أمس الأول الجمعة.

تحركت مصر على جميع الأصعدة الثنائية والأممية، واستخدمت كل أوراق نفوذها على الساحة الإقليمية والدولية من أجل حقن دماء الفلسطينيين، وأعلنت موقفها الواضح، والصريح بضرورة إنهاء العنف، ووقف سفك الدماء، والالتزام بمبدأ حل الدولتين، وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.

كانت الجهود المصرية واضحة وقوية، وجاءت القمة الثلاثية التى عقدها الرئيس عبدالفتاح السيسى فى باريس مع الرئيس الفرنسى ماكرون والملك الأردنى عبدالله لتؤكد وجهة النظر المصرية، والتى أعلن خلالها الرئيس عبدالفتاح السيسى المبادرة المصرية لدعم إعادة إعمار غزة بمبلغ 500 مليون دولار.

كانت الرسالة المصرية واضحة وقوية، بأن الفلسطينيين ليسوا وحدهم، وأن مصر كانت وستظل «القلب الصلب» للقضية الفلسطينية، ولكل دول العالم العربى من المحيط إلى الخليج.

كثفت مصر من اتصالاتها يوم الخميس الماضى بعد أن نجحت فى التوصل إلى مسودة اتفاق لوقف نار غير مشروط بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، ثم جاء اتصال الرئيس الأمريكى جو بايدن بالرئيس عبدالفتاح السيسى ليثمن هذا الاتفاق، ويشيد بالدور المصرى الكبير فى هذا الإطار، واتفق الرئيسان على ضرورة التوصل إلى حل جذرى شامل للقضية الفلسطينية يضمن حقوق الشعب الفلسطينى المشروعة والطبيعية كسائر شعوب العالم، فى إقامة دولته وفق المرجعيات الدولية، ومن ثم إنهاء حالة العنف والتوتر المزمنة فى المنطقة وتحقيق الأمن والاستقرار بها.

بعد اتصال الرئيس الأمريكى تلقى الرئيس عبدالفتاح السيسى اتصالا هاتفيا آخر مهما من «انطونيو جوتيريش» الأمين العام للأمم المتحدة والذى أكد فيه الرئيس ثوابت الموقف المصرى إزاء ضرورة إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية يفضى إلى إقامة الدولة الفلسطينية، وفق مقررات الشرعية الدولية فى هذا الصدد، واتفقا على ضرورة وقف التصعيد ضد الفلسطينيين فى غزة، والضفة، ووقف إطلاق النار تمهيداً لإعادة مسار المفاوضات بين الجانبين لتحقيق السلام المنشود وفق المرجعيات الدولية.

نجحت الجهود المصرية المكثفة ووافق مجلس الوزراء الإسرائيلى الأمنى المصغر على وقف إطلاق النار وقبول المقترح المصرى، والذى وافقت عليه الفصائل الفلسطينية هى الأخرى، ليدخل الاتفاق حيز التنفيذ صباح يوم الجمعة فى تمام الساعة الثانية صباحا بتوقيت القدس، الواحدة صباحاً بتوقيت القاهرة.

مرت الساعات القليلة السابقة على دخول الاتفاق حيز التنفيذ ثقيلة، وصعبة على كل الأطراف، وكل الشعوب العربية، والمهتمين فى أنحاء العالم خشية حدوث تدهور يؤدى إلى تأخير تنفيذ الاتفاق.

تابعت ـ كما تابع غيرى من المهتمين ـ عبر قنوات التليفزيون المحلية والعالمية تلك الساعات الصعبة، ورصدت محاولة كل طرف أن يسجل «آخر لقطة» قبل التهدئة.. لكن كانت العمليات الأخيرة قبل موعد تنفيذ وقف إطلاق النار من النوع «المحسوب» مما كان يبشر بنجاح الجهود المصرية، وأن الاتفاق سوف يدخل حيز التنفيذ فى التوقيت المحدد له.

 

كانت العمليات الأخيرة عبارة عن غارات إسرائيلية محدودة على بعض المناطق الزراعية، فى حين ردت فصائل المقاومة الفلسطينية «برشقات» صاروخية محدودة على المناطق الإسرائيلية المتاخمة لغلاف غزة دون أضرار مادية ملموسة كما كان يحدث قبل ذلك.

حينما دقت الساعة الواحدة بتوقيت القاهرة ـ الثانية بتوقيت الأراضى المحتلة ـ كانت الكاميرات تنقل بثاً حياً ومباشراً من الأراضى الفلسطينية وإسرائيل، حيث ركزت وسائل الإعلام على النقل الحى من غزة، والقدس، والخليل، وبيت لحم، والضفة الغربية، وتل أبيب، وغيرها من المناطق الساخنة هناك.

بعد الموعد المقرر بعدة لحظات خرجت المظاهرات الكبرى فى شوارع الضفة الغربية، وقطاع غزة والقدس مكبرين مهللين، فى فرحة عارمة مرحبين بوقف إطلاق النار، ودخوله حيز التنفيذ، فى حين ساد الهدوء شوارع تل أبيب بعد أن خلد السكان للنوم العميق بعد 11 يوماً من الأرق والنوم فى المخابئ.

استمرت تلك المشاهد حتى بزوغ فجر الجمعة، وشارك فيها النساء والأطفال والشباب والشيوخ من كل الفصائل ومن مختلف الأعمار.

أسر بكاملها خرجت للاحتفال فى سياراتهم أو سيرا على الأقدام، مشيدين بدور مصر ورئيسها الرئيس عبدالفتاح السيسى فى التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، فى رسالة واضحة مفادها أن القضية الفلسطينية لن تموت وأنه لا بديل إلا الرؤية المصرية القائمة على حل الدولتين، وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وأن العنف مهما طال فهو غير قادر على كسر إرادة الفلسطينيين أو ضياع حلم دولتهم المستقلة.

أعتقد أن تلك المشاهد التى انطلقت مرحبة بالاتفاق المصرى لوقف إطلاق النار هى الأهم، لأنها تعنى وببساطة ـ أن الدور المصرى نجح ببراعة فى التوصل إلى تفاهمات طال انتظارها، وأن هذا الدور كان دورا شريفا ونزيها، وحقق للفلسطينيين ماكانوا ينتظرونه، وبناء عليه جاء الترحيب والإشادة من كل أطياف الشعب الفلسطينى سواء فى داخل الأراضى المحتلة أو حتى فى المناطق الخاضعة للحكومة الإسرائيلية واعترف مجلس الوزراء الأمنى الإسرائيلى المصغر بأن الاتفاق جاء نتيجة التفاهمات مع مصر.

المشهد الثانى اللافت للانتباه كان طوابير سيارات الإسعاف، وطوابير قوافل المساعدات الإنسانية، الممتدة لعدة كيلو مترات، والتى دخلت للأراضى الفلسطينية عبر منفذ رفح البرى فور وقف إطلاق النار فى إطار «هدية الرئيس عبدالفتاح السيسى للشعب الفلسطينى» للتخفيف من آثار العدوان بشكل عاجل والمساهمة فى توفير الغذاء والدواء للمتضررين من الفلسطينيين .

نجاح الجهود المصرية فى وقف القتال جعل الرئيس الأمريكى جو بايدن يعبر عن امتنانه وتقديره للرئيس عبدالفتاح السيسى والمسئولين المصريين، لقيامهم بالدور الأكبر فى جهود وقف إطلاق النار، مؤكدا أن ذلك يتماشى مع دور مصر التاريخى والمحورى فى الشرق الأوسط، وشرق المتوسط، وإفريقيا، وهو الدور الذى تدعمه الولايات المتحدة الأمريكية ، وتعول عليه لاحتواء التصعيد فى الأزمات المختلفة، ووقف العنف .

فى نفس الإطار عبر «أنطونيو جوتيريش» أمين عام الأمم المتحدة عن تقدير المجتمع الدولى البالغ لمبادرة الرئيس عبدالفتاح السيسى الخاصة بدعم إعادة إعمار الأراضى الفلسطينية بمبلغ 500 مليون دولار من خلال الشركات المتخصصة المصرية، والدور المصرى فى وقف سفك الدماء الفلسطينية ووقف إطلاق النار.

تنفست الشعوب المحبة للسلام الصعداء، وتوالت الإشادات الدولية بالدور المصرى، وقدرته الفائقة على لعب دور «الوسيط النزيه» المتمسك بالثوابت القومية والحقوق الشرعية للشعب الفلسطينى وفق مقررات الأمم المتحدة ومجلس الأمن والقرارات ذات الصلة التى تضمن حق الشعب الفلسطينى فى إقامة دولته المستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.

أمس الأول انطلقت الوفود الأمنية المصرية إلى الأراضى الفلسطينية، وإسرائيل لتثبيت وقف إطلاق النار بين الجانبين، تمهيدا لإعادة إعمار المناطق التى دمرها جيش الاحتلال الإسرائيلى والتى ربما تتجاوز خسائرها خسائر معارك عام 2014، التى بلغت حينذاك ما يقرب من 3٫6 مليار دولار، وهو الرقم المرشح للزيادة هذه المرة بعد استهداف معظم مشروعات البنية التحتية، والمقرات الحكومية.

المهم الآن أن يتكاتف المجتمع الدولى وراء الجهود المصرية ليس لتثبيت وقف إطلاق النار وإعادة الإعمار فقط، وإنما لإطلاق عملية سياسية شاملة ـ بعد إعادة الهدوء ـ لإنهاء العنف إلى الأبد، ولن يتحقق ذلك إلا بالالتزام بالرؤية المصرية القائمة على حل الدولتين، وإقامة الدولة الفلسطينية على الأراضى المحتلة عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية بعيدا عن محاولات التصعيد والعنف الفاشلة التى لا تؤدى إلا إلى مزيد من سفك الدماء وزيادة الاحتقان بين الشعوب.

Back to Top