توطين صناعة الدواء.. قضية أمن قومى
بقلم ــ عبدالمحسن سلامة
منذ 59 عامًا كانت الخطوة الأولى التى خطاها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر حينما أصدر قرارًا بالبدء فى توطين صناعة الدواء فى مصر عام 1962.
طوال الـ 59 عامًا الماضية خطت مصر خطوات كبيرة، فى هذا المجال نتج عنها تحقيق الاكتفاء الذاتى بنسبة 93% تقريبًا, إلا أن هذه النسبة تتحول إلى 72% تقريبًا إذا تم احتساب الاستهلاك على أساس القيمة الفعلية لأسعار الأدوية، والفارق هنا يظهر نتيجة ارتفاع أسعار المنتجات الدوائية الحديثة المستوردة.
للأسف الشديد تراجع الدواء المصرى طوال الـ 4 عقود الماضية، وبعد أن كان الدواء المصرى هو المسيطر على سوق الدواء فى إفريقيا والعالم العربى تراجع لمصلحة دول أخرى فى المنطقة تنافس الآن بقوة، وتبلغ صادراتها الدوائية أضعاف صادرات مصر.
هذا العام، وبالتحديد فى شهر إبريل الماضى دشن الرئيس عبدالفتاح السيسى المرحلة الثانية فى تاريخ صناعة الدواء المصرى، حينما قام بافتتاح أول مدينة متكاملة لصناعة الدواء فى مصر، وهو الحلم الذى بدأت فكرته عام 2014، من أجل تحقيق طفرة دوائية ضخمة تستهدف توفير احتياجات السوق المصرية من الأدوية بكل أنواعها، خاصة تلك الأدوية المستحدثة، وأدوية السرطانات والهرمونات ومشتقات البلازما، وغيرها من الأدوية الحديثة تمهيدًا لتحقيق أكبر نسبة من الاكتفاء (من حيث القيمة والوحدات).
أعتقد أن جائحة كورونا أكدت الأهمية الإستراتيجية لتوطين صناعة الدواء واعتبارها قضية أمن قومى وإستراتيجى، حيث أغلقت كل دولة على نفسها فى بداية الجائحة وأصبح من لا يملك دواءه معرض للهلاك والفناء.
من هنا، تأتى أّهمية الخطوات التى أطلقها الرئيس عبدالفتاح السيسى لتدشين المرحلة الثانية من مراحل توطين صناعة الدواء فى مصر واستهدفت استكمال البنية التحتية والتشريعية اللازمة لتحقيق فلسفة توطين الدواء.
أمس أطلقت مؤسسة الأهرام مؤتمرها الثانى لتوطين صناعة الدواء بعد تأجيله فى العام الماضى نظرًا لهجوم جائحة كورونا، وما استتبع ذلك من إلغاء للمؤتمرات والمعارض.
على مدى العديد من الجلسات التحضيرية تمت مناقشة كل التحديات التى تواجه مشكلات توطين صناعة الدواء بدءًا من مشكلة المواد الخام، ومرورًا بالبنية التحتية وانتهاء بالبنية التشريعية وما يتعلق بها من القوانين واللوائح التنفيذية، وقبل كل ذلك وبعده الاهتمام بتنمية الموارد البشرية باعتبارها أهم العوامل المؤثرة فى توطين صناعة الدواء.
ميزة مصر أنها سوق ضخمة للاستهلاك الدوائى باعتبار أن عدد سكانها يتجاور 100 مليون نسمة، ويتجاوز استهلاكها أكثر من 70 مليار جنيه من الدواء سنويا، وبالتالى فهى سوق واعدة وجاذبة للاستثمارات فى مجال الدواء.
أيضاً فإن مصر لها موقع إستراتيجى مهم يجعلها أكثر قرباً من الأسواق العربية والإفريقية والآسيوية والأوروبية إذا تم توطين صناعة الأدوية واللقاحات بها، بما يسهم فى زيادة حصيلة الصادرات ومضاعفتها خلال المرحلة المقبلة.
للأسف الشديد لا تزال حصيلة صادرات مصر من الأدوية متواضعة إذا تمت مقارنتها بدول أخرى مجاورة حيث تبلغ صادراتها ما يزيد على 5 مليارات دولار سنوياً.
أسباب انخفاض الصادرات عديدة، وهى الأسباب التى تتم معالجتها حالياً من خلال رؤية متكاملة وضعت الحلول لمشكلات التسعير، والتشريعات، والتسجيل، وغيرها من المشكلات التى كانت تقف حائلاً ضد زيادة الصادرات.
حملت هذه النقاط وغيرها إلى د. تامر عصام رئيس هيئة الدواء المصرية وهى الهيئة المنوط بها كل ما يتعلق بشئون الدواء بدءاً من مرحلة التسجيل حتى الاعتماد والطرح فى الأسواق.
سألته : هل ظهور الهيئة ساهم فى زيادة معدلات توطين صناعة الدواء فى مصر ؟
أجاب رئيس هيئة الدواء المصرية د. تامر عصام قائلاً: هيئة الدواء هى التى تقوم بوضع السياسات والقواعد والنظم لكل ما يتعلق بتنظيم وتنفيذ ورقابة إنتاج وتداول المستحضرات والمستلزمات الطبية والمواد الخام، والتحقق من جودتها وفاعليتها ومأمونيتها فى إطار الرقابة على المنتجات المصرية.
أيضاً تقوم الهيئة بوضع قواعد المعلومات عن كل ما يخص المستحضرات والمستلزمات الطبية والمواد الخام. وكذلك تنظيم ورقابة إنتاج كل هذه المواد وضمان جودتها، ووضع الضوابط والإجراءات التى تنظم فحصها، وتنظم عمليات الاستيراد والتصدير والتسجيل والتسعير والرقابة والتفتيش.
وأضاف: الهيئة الآن هى الأب الشرعى الوحيد لصناعة الدواء باعتبارها جهة علمية مستقلة تتبع رئاسة مجلس الوزراء مما أعطى الثقة لدى كل الجهات المعنية بصناعة الدواء داخليا وخارجيا، وهو مايسهم فى تحقيق رؤية القيادة السياسية لإنجاز ملف توطين صناعة الدواء.
وأضاف د.تامر عصام قائلا: إن دور الهيئة يتكامل مع دور هيئة الشراء الموحد فى دعم مفهوم توطين صناعة الدواء، ورغم حداثة ظهور الهيئتان، فقد قطعنا العديد من الخطوات المهمة فى هذا المجال.
الآن أصبحت الشركات العالمية مطمئنة على وجود بنية تحتية قوية بسبب الطفرة الهائلة التى تشهدها مصر الآن فى هذا المجال، بالإضافة إلى البنية التشريعية التى كانت معطلة لفترة طويلة، مشيرا إلى أنه طوال الفترة السابقة منذ عام 1962 كان التركيز على نوعية بعض الصناعات الدوائية التى تتعلق بالمستحضرات «الجنيسة» والتى تعتمد على المركبات الكيميائية، أما الآن فقد وجه الرئيس عبدالفتاح السيسى بالدخول إلى مجالات تصنيع مشتقات البلازما، وتوفير صناعة المستحضرات الحيوية.
وقال رئيس هيئة الدواء المصرية: نجحنا خلال الفترة القصيرة الماضية فى تخفيض تكلفة الأدوية المستوردة من 38% إلى 28% ونستهدف أن نصل إلى سد الفجوة تماما عام 2024 إن شاء الله.
سد الفجوة يعنى تغطية الأدوية المنتجة محليا لجميع احتياجات السوق، وهو الأمر الذى يستتبعه زيادة الصادرات بالضرورة، لأن إنتاج المستحضرات الحديثة يفتح أبوابا جديدة للصادرات الدوائية المصرية، والدليل على ذلك أدوية الهرمونات التى كان الإنتاج فيها لا يغطى سوى 29% عام 2017، ثم زاد العام الماضى إلى 77%، وفى العام الحالى ارتفع إلى 89%.
وماذا عن مشكلة فتح «البوكسات» لشركات الأدوية؟ وتفعيل التجارب السريرية للأدوية الجديدة؟
أجاب د.تامر عصام: لم تعد هناك مشكلة فى البوكسات حاليا، لأن احتياجات السوق هى التى تحكم اتخاذ القرار، وأى دواء لابد أن يتم إنتاجه من خلال 3 شركات على الأقل، من أجل توفير الدواء من خلال أكثر من شركة.
أما فيما يتعلق بالتجارب السريرية فقد كانت مصر من الدول القليلة التى لا تقوم بإجراء التجارب السريرية، وقد صدر قانون التجارب السريرية لينهى تلك الأزمة، وفى انتظار صدور اللائحة التنفيذية.
وأشار رئيس هيئة الدواء المصرية إلى صدور اللائحة التنفيذية لقانون مشتقات البلازما فى 7 أكتوبر الماضى، مما أعطى دفعة قوية لاقتحام هذا المجال الذى دشنه الرئيس عبدالفتاح السيسى وتخطو فيه مصر الآن خطوات هائلة وسريعة.
سألت: هل بدأت مدينة الدواء فى الإنتاج وتم اعتماد أدويتها وطرحها فى الصيدليات؟
أجاب د. تامر عصام: لقد احتفلنا فى الشهر الماضى بطرح بعض المستحضرات الدوائية التى أنتجتها مدينة الدواء، وهى الآن تمتلك قدرات تصنيعية هائلة، مما دفع واحدة من أكبر الشركات اليابانية إلى اعتماد شراكة معها لإنتاج بعض المستحضرات الدوائية.
وماذا عن دور الهيئة فى اعتماد لقاحات كورونا؟
أجاب رئيس هيئة الدواء المصرية: الهيئة اعتمدت كل اللقاحات التى وافقت عليها منظمة الصحة العالمية سواء المنتجة من الصين أو روسيا أو الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة، وتم تسجيلها فى مصر قبل استعمالها، وكذلك قامت الهيئة باعتماد تصنيع «سينوفاك» الذى يتم إنتاج 2 مليون جرعة منه أسبوعيا لتغطية احتياجات المواطنين.
انتهت تصريحات د. تامر عصام رئيس هيئة الدواء المصرية وهى الهيئة التى تعتبر «فرس الرهان» فى توطين صناعة الدواء فى مصر خلال المرحلة المقبلة بالتوازى مع شقيقتها هيئة الشراء الموحد حتى يعود الدواء المصرى ملكا متوجا فى الأسواق العربية والإفريقية والعالمية، وتأخذ مصر نصيبها العادل فى تصدير الدواء خلال المرحلة المقبلة.
أعتقد أن المؤتمر الثانى للدواء الذى أقامته «مؤسسة الأهرام» على مدى يومين تحت رعاية د. مصطفى مدبولى رئيس مجلس الوزراء ويختتم أعماله اليوم سوف يكون إضافة قوية لجهود الدولة المصرية فى هذا المجال وللمساهمة فى التغلب على كل المشكلات التى تعرقل تحقيق هذه الأهداف لتحقيق رؤية الرئيس عبدالفتاح السيسى فى توطين صناعة الدواء فى مصر واقتحام مجالات إنتاج الأدوية الحديثة وأدوية الهرمونات ومشتقات البلازما، والمستحضرات الحيوية بما يسهم فى تحقيق الاكتفاء الذاتى وزيادة نصيب مصر من صادرات الدواء إلى مختلف دول العالم.