«الأمتار الأخيرة» فى نهاية النفق الليبى
«الأمتار الأخيرة» فى نهاية النفق الليبى
بقلم ــ عبدالمحسن سلامة
يستوقفنى دائما مشهد الختام فى مسيرة المجاهد الكبير عمر المختار الذى جسده الفنان العالمى الرائع أنتونى كوين فى فيلم «أسد الصحراء عمر المختار» حينما وقف شامخا كالجبال على منصة الإعدام فى الساحة المفتوحة التى تضم أعدادا كبيرة من الليبيين الذين توافدوا لدعمه ومساندته.
وقف بثبات وثقة لا يخشى حكم الإعدام، وبعد تنفيذ الحكم الجائر ضده وقعت النظارة من على وجهه، ليقفز طفل ليبى صغير مسرعا نحوها ويلتقطها فى مشهد معبر عن حيوية الشعب الليبى وقدرته على استمرار نضال أحفاد عمر المختار للحفاظ على وطنهم ووحدتهم وسيادة دولتهم.
تذكرت ذلك المشهد حينما كنت أتابع مؤتمر باريس الذى عقد فى الأسبوع قبل الماضى، وتحديدا حينما ألقى الرئيس عبدالفتاح السيسى كلمته أمام المؤتمر مخاطبا الشعب الليبى قائلا: «يا أحفاد عمر المختار، لقد حان الوقت لكى تستلهموا عزيمة أجدادكم، الذين بذلوا الغالى، والنفيس، من أجل الحرية، واستقلال القرار الوطنى، وأن تلفظوا من بلادكم كل أجنبى، ودخيل مهما تغنى بأن فى وجوده خيرا لكم، فالخير فى أيديكم أنتم، إن تجاوزتم خلافاتكم، وعقدتم العزم على بناء بلادكم، بإرادة ليبية حرة».
لا يمكن أن يأتى المستعمر أو الأجنبى بخير أبدا.. تلك هى الحقيقة التاريخية المؤكدة سواء أكانت فى الاستعمار الإيطالى لليبيا الذى أعدم عمر المختار، أو غيره من القوى الاستعمارية التى احتلت الدول العربية عقودا عديدة، ولم تترك سوى الخراب والدمار والانقسامات والفتن بعد انتهاء تلك الحقب الاستعمارية البغيضة.
فى العصر الحديث اختلفت أدوات القوى الاستعمارية وإن ظلت أهدافها كما هى، فهى تتخفى تحت شعارات براقة، لكنها لا تجلب معها سوى الدمار والخراب، كما حدث فى بعض بلدان الدول العربية مؤخرا ومنها ليبيا وسوريا والعراق.
منذ عشر سنوات، وليبيا تغرق فى بحور الفوضى والاقتتال الأهلى بعد أن قامت قوات التحالف «الشرير» بقصف ليبيا، وحظر الطيران «الليبى فى المجال الجوى الليبى». وإعدام الزعيم الليبى الراحل معمر القذافى.
منذ ذلك التاريخ تحولت ليبيا إلى دار حرب بالوكالة عن القوى الإقليمية والدولية، وتحولت أجزاء منها إلى «مأوى» للجماعات الإرهابية بعد أن تم التضييق عليهم فى العراق وسوريا.
لم يكن من المقبول أن تكتفى مصر بموقف «المتفرج» على الأحداث الليبية خاصة بعد أن تصاعدت الأحداث هناك، وكادت تصل الأمور إلى حرب أهلية شاملة.
ليبيا بالنسبة لمصر قضية أمن قومى وإستراتيجى لوجود حدود مشتركة تمتد لما يقرب من الـ 1200 كيلو متر مربع بالإضافة إلى وجود روابط عائلية وتداخل بين القبائل فى المناطق الحدودية منذ آلاف السنين.
تحركت مصر سريعا وأطلق الرئيس عبدالفتاح السيسى مبادرة إعلان القاهرة فى منتصف العام الماضى من قصر الاتحادية بالقاهرة وسط حضور دبلوماسى مكثف من الدول الفاعلة والمؤثرة فى القضايا الإقليمية.
بعدها أعلنت مصر خطوطها الحمراء فى سرت والجفرة التى كانت بمثابة جرس إنذار قوى أعاد تصحيح المسار هناك، وهدأت الأمور بعدها وعاودت جميع الأطراف الداخلية والخارجية حساباتها من جديد.
بعدها عادت أصوات الدبلوماسية تعلو على أصوات الحرب، وكان بيان القاهرة حجر الزاوية فى كل التحركات لأنه جاء امتداداً للجهود الدولية فى هذا الإطار ومكملا لها، ووضع تصورا متكاملا مبنيا على إحياء مخرجات قمة برلين، واستكمال مسار اللجنة العسكرية (5+5) برعاية الأمم المتحدة وما يترتب عليها.
إعلان القاهرة كان فى يونيو من العام الماضى وحدد المدة الزمنية للفترة الانتقالية المقترحة بـ 18 شهرا أى بعام ونصف العام يتم خلالها إعادة تنظيم مؤسسات الدولة وإطلاق العملية السياسية.
بعد إعلان القاهرة، وإعلان الخطوط الحمراء فى ليبيا تغير المشهد الليبى وأسفر ملتقى الحوار الذى عقد فى فبراير الماضى عن انتخاب عبدالحميد الدبيبة رئيسا مؤقتا لوزراء ليبيا، ومحمد المنفى رئيسا للمجلس الرئاسى الليبى، وبدأت الحياة تدب فى أوصال العلاقات الليبية ـ الليبية (طرابلس ــ بنغازي) ــ وإن كان ذلك على استحياء ــ غير أن هناك الكثير من الخطوات المهمة طرأت على الأوضاع الليبية الداخلية أسفرت عن تقدم كبير على جميع الأصعدة، مما هيأ المناخ لإطلاق العملية السياسية فى مواعيدها المقررة.
كانت الرؤية المصرية ولا تزال تتمحور حول وحدة ليبيا واستقلالها، وحق الشعب الليبى فى اختيار قادته، ورفض أى تدخلات أجنبية فى الشأن الليبى، وإخراج المرتزقة والأجانب من الأراضى الليبية.
هذه الرؤية أصبحت محط اهتمام أنظار العالم، وأصبحت بمثابة «المرجعية» التى اجتمعت حولها الأغلبية الكاسحة من القوى الفاعلة والمؤثرة فى المنطقة والعالم، لأنها رؤية تنحاز إلى دولة ليبيا وشعبها، ولا تنحاز إلى أشخاص أو مصالح ضيقة.
فى الأسبوع قبل الماضى انعقد مؤتمر باريس حول ليبيا بحضور قادة وزعماء دول العالم المهتمة بالشأن الليبى.
خرج البيان الختامى لمؤتمر باريس ليؤكد رفض التدخلات الأجنبية فى الشأن الليبى، وضرورة إخراج المرتزقة من الأراضى الليبية، وكذلك الاتفاق على إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية فى ديسمبر المقبل، وهو ما يتوافق مع الخطوط العريضة لبيان القاهرة.
شدد البيان على أهمية أن تلتزم جميع الجهات الفاعلة الليبية بإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية حرة ونزيهة وتتسم بالمصداقية فى 24 ديسمبر المقبل وفق ما ورد فى خريطة الطريق السياسية والقرارين 2570 و2571 الصادرين عن مجلس الأمن بشأن ليبيا، ومقررات مؤتمر برلين.
الآن دارت عجلة «الأمتار الأخيرة» فى ماراثون أحفاد عمر المختار للخروج من النفق الليبى المظلم الممتد عبر أكثر من 10 سنوات، حيث بدأت مفوضية الانتخابات فى تلقى طلبات الترشح على الانتخابات الرئاسية الليبية.
تقدم أكثر من 20 مرشحًا من مختلف الاتجاهات فى انتظار القول الفصل من المفوضية بعد التدقيق فى البيانات وإحالتها إلى الجهات المختصة للنظر فى صحتها من عدمه، ثم إعلان القوائم الأولية وفتح باب الطعون قبل الإعلان النهائى عن قائمة الأسماء النهائية التى سيتم تضمينها فى ورقة الاقتراع.
بغض النظر عن الأسماء المرشحة، والقائمة النهائية التى سوف تخوض الانتخابات، فليس ذلك هو المهم، وإنما المهم هو اختيار الشعب الليبى، وأن تتوافر له الظروف لكى يختار بحرية من يقود السفينة الليبية إلى بر الأمان بعد عشر سنوات من الاضطراب والقلاقل والانهيار الذى كاد يصل إلى مرحلة الغرق التام.
ربما تكون تلك الأسابيع التى تفصل الشعب الليبى عن الانتخابات وإعلان النتائج النهائية هى أصعب المراحل فى حياة الشعب الليبى، لأنها إما أن تكون بداية لمرحلة جديدة من الانطلاق والوحدة والتقدم للشعب الليبى، وإما ـــ لا قدر الله ـــ تتدهور الأحوال إلى الأسوأ بفعل المرتزقة الأجانب، و«ديناصورات» الداخل المستفيدين من استمرار تدهور الأوضاع الحالية، والمتاجرين بآلام الشعب الليبى ومعاناته، والطامعين فى ثرواته من الداخل أو الخارج.
أحفاد عمر المختار هم وحدهم القادرون على حماية استقلالهم وحريتهم واستكمال المسيرة حتى تصل سفينة الانتخابات إلى بر الأمان.