الخيط «الرفيع» بين التنمية وحقوق الإنسان
الخيط «الرفيع» بين التنمية وحقوق الإنسان
بقلم ــ عبدالمحسن سلامة
هل هناك علاقة بين التنمية وحقوق الإنسان؟!
فكرت فى هذا السؤال بعد عودتى فجر الأربعاء الماضى من أسبوع الصعيد، وزيارتى صباح الخميس الماضى لمركز بدر للإصلاح والتأهيل، والذى أقامته وزارة الداخلية على مساحة 85 فدانًا، ليكون ثانى مركز من نوعه بعد مركز وادى النطرون، ليكونا باكورة هذه النوعية من المراكز التى تنهى عصر «السجون» التقليدية، وتتماشى مع معايير حقوق الإنسان العالمية فى تطبيق عملى للإستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان التى أطلقها الرئيس عبدالفتاح السيسى فى سبتمبر الماضى.
الأمر المؤكد أنه توجد علاقة وثيقة بين التنمية وحقوق الإنسان، فلا يمكن أن تكون هناك حقوق لإنسان جائع، لا يملك قوت يومه، ويفتقر إلى المسكن الملائم، ولا تتوافر لديه الحدود المعقولة من وسائل المعيشة الحياتية التى توفر له الحياة الكريمة، وتضمن له حقه فى الصحة والتعليم وغيرهما من الحقوق الإنسانية.
فى مجال التنمية، فقد شهد الأسبوع الماضى نشاطًا رئاسيًا مكثفًا، وغير مسبوق فى أقصى الجنوب.. فى صعيد مصر.. تلك البقعة الغالية من أرض مصر، التى ظلت عقودا عديدة تعانى «التهميش» مما جعل بعض قراها أكثر القرى فقرا على مستوى الجمهورية، بعد أن انطبق عليها المثل الشائع «البعيد عن العين.. بعيد عن القلب».
إستراتيجية الرئيس عبدالفتاح السيسى جاءت مختلفة، وألغت الفوارق بين القريب والبعيد، ولم تعد هناك مناطق قريبة أو بعيدة، وإنما كل المواطنين سواسية فى كل المناطق الجغرافية، من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب.
لا فرق بين مواطن يسكن فى العاصمة، وآخر يسكن فى أعماق الدلتا أو أقاصى الصعيد، فالكل سواء، والجميع متساوون فى الخدمات ووسائل المعيشة التى تضمن فى حدودها الدنيا الحياة الكريمة للجميع.
الحياة الكريمة ليست شعارا يقال، وإنما هى إستراتيجية متكاملة تقوم على مبدأ عدم التفرقة بين المواطنين، وإنصاف ما يقرب من 60% من سكان مصر الذين يعيشون فى الريف، وظلوا طول القرون والعقود الماضية يعاملون بمنطق «البعيد عن العين»، وبمنطق أنهم مواطنو الدرجة الثانية.
بجسارة بالغة اقتحم الرئيس عبدالفتاح السيسى هذه المشكلة برغم كل الأعباء المترتبة عليها، فهى تحتاج إلى جهد هائل، وأموال طائلة، ورؤية ثاقبة، كى يأتى التنفيذ متسقًا مع هذه الإستراتيجية، ومحققًا أهدافها.
لم يكن أكثر الحالمين والطامحين من أهل الريف يتوقع تبنى الرئيس لهذه الإستراتيجية لما تحتاج إليه من تكاليف ضخمة، غير أن الرئيس فاجأ الجميع بأضخم مشروع قومى عرفته مصر عبر تاريخها الطويل، والممتد قبل 7 آلاف عام.
حدد الرئيس فترة التنفيذ بمدة 3 سنوات، واعتمد بشكل مبدئى 700 مليار جنيه لهذا المشروع العملاق.
دارت عجلة التنفيذ، وتم تقسيم القرى المصرية على 3 مراحل، بحيث تستوعب كل مرحلة ثلث عدد القرى، لتصل فى نهاية السنة الثالثة إلى استكمال الأعمال والتنفيذ فى كل القرى المصرية بلا استثناء.
فى الأسبوع الماضى كان الموعد مع صعيد مصر لينهى «عزلة» الصعيد، ويقتحم مشكلاته بكل قوة، سواء فى مجال الطرق ووسائل النقل، أو فى الكهرباء والطاقة أو الصحة والإسكان، وكذلك التعليم، والزراعة والصناعة.. وغيرها من المجالات.
ظل الصعيد معزولا «مكانيًا» فترة طويلة بسبب صعوبة التنقل منه وإليه، مما جعله «طاردًا» للسكان ليتوقف عدد سكانه عند حدود الـ 30% من عدد سكان الدولة رغم أن مساحة محافظات الصعيد تبلغ حوالى ثلثى مساحة الأراضى المصرية.
فى الأسبوع الماضى تم إنهاء عزلة الصعيد «المكانية» بعد افتتاح أضخم شبكة من الطرق والمحاور التى بلغت تكلفتها ما يقرب من 7 مليارات جنيه، بالاضافة إلى تطوير السكك الحديدية والاعلان عن خروج آخر «عربة قديمة» من عربات السكك الحديدية من محطة أسوان فى دلالة رمزية تؤكد تغيير صورة الصعيد النمطية وعودته إلى مكانته الطبيعية فى قلب الدولة المصرية وفى بؤرة اهتمامها، وعودته كمركز إستراتيجى لتنفيذ خطط الدولة فى جميع القطاعات.
الإصرار على تنمية الصعيد ظهر بوضوح أيضا فى إحياء مشروع توشكى، ذلك المشروع الضخم الذى تم إحياؤه مرة أخرى بعد تعثر دام سنوات طويلة حتى أصبح الأمل فيه مفقودا لقسوة الطبيعة هناك، ومناخها الصحراوى العنيف، بالاضافة إلى قسوتها الجغرافية.
هذه الصعوبات جعلت من الحكومات المتتالية التى أعقبت حكومة د. كمال الجنزورى ــ الذى تبنت حكومته فكرة المشروع ـ تنسحب رويدا رويدا من المشروع، حتى كاد هذا المشروع العملاق أن يتحول إلى مجرد ذكريات وتاريخ.
أصر الرئيس عبدالفتاح السيسى على اقتحام تلك المشكلة لأنها تعنى ببساطة إضافة ما يقرب من 500 ألف فدان للأراضى المستصلحة فى مصر، وتخدم كل مواطنى الصعيد بالدرجة الأولى، لارتباطها المكانى بمحافظات الصعيد.
نجحت الدولة فى ترويض التضاريس الصعبة لمنطقة توشكى، وتحول الحلم إلى حقيقة، ودخل حوالى 350 ألف فدان الخدمة، وجار العمل فى استصلاح واستزراع باقى المساحة.
هذا المشروع سوف يستوعب أكثر من 100 ألف من العمالة أغلبهم سيكونون من محافظات الصعيد لقربها المكانى، مما يسهم فى خفض نسب البطالة بين مواطنى هذه المحافظات.
أعتقد أن هذا المشروع سوف يكون بمثابة الرئة الخضراء لمحافظات الصعيد والتى سوف تسهم فى تلبية احتياجات الدولة المصرية من السلع الغذائية خاصة القمح، والتمور، والثروة السمكية، بالإضافة إلى أنها تعد أبرز النماذج على إصرار الدولة على حسن استغلال كل موارد المياه المتاحة خاصة مياه الصرف الزراعى بعد معالجتها طبقا لأحدث المواصفات العالمية.
لم تتوقف عجلات تنمية الصعيد على مشروعات النقل والزراعة لكنها امتدت إلى مشروعات الطاقة وافتتاح أضخم مشروع للطاقة الشمسية فى أسوان.
يوم الاثنين الماضى وأثناء ذهاب الوفد الصحفى إلى محطة بنبان للطاقة الشمسية نظرت من نافذة الأتوبيس المخصص لنا، لفت انتباهى شكل المحطة الذى أعتقدت للوهلة الأولى أنه فرع من فروع النيل الضخمة.
المحطة عن بعد تشبه مياه البحر بلونها الأزرق الصافى، وحينما سألت عن وجود فرع للنيل فى تلك المنطقة أجاب الزملاء المرافقون أن شكل المحطة عن بعد هو الذى يعطى هذا الإيحاء بسبب الألواح الشمسية المتراصة التى تعتبر أكبر محطة للطاقة الشمسية فى مصر وإفريقيا والشرق الأوسط، ورابع أضخم محطة على مستوى العالم.
هذه المحطة وحدها تضيف إلى قدرات مصر الكهربائية 14 ضعف قدرة السد العالى.
إنجاز مذهل فى مجال الطاقة النظيفة أضيف إلى قدرات مصر الكهربائية لينهى عصر الظلام الذى هبط على مصر فى غفلة من الزمن، وأدى إلى انتشار ظاهرة انقطاع التيار الكهربائى، وكان صعيد مصر والمحافظات النائية الأخرى هم أكثر المتضررين، حيث كان الانقطاع يمتد لساعات طويلة تصل إلى ما يقرب من 10 ساعات يوميا.
الآن تحول انقطاع التيار المنتظم والدائم إلى مجرد ذكريات نسترجعها بغض النظر عن بعض الانقطاعات المؤقتة التى لاتزال تحدث فى بعض المناطق.
مصر الآن لديها فائض كبير من الطاقة الكهربائية وأصبحنا الآن نقوم بتصدير جزء من هذا الفائض إلى السودان وليبيا والأردن وجار ربط الشبكة المصرية بالشبكة الأوروبية عن طريق اليونان وقبرص، وكذلك ربط الشبكة المصرية بدول الخليج عن طريق المملكة العربية السعودية، وكذلك ربطها بالدول الإفريقية فيما يعرف بخط الربط بين القاهرة وكيب تاون.
لم تقتصر مجالات التنمية فى صعيد مصر على النقل والزراعة والصناعة والطاقة فقط لكنها امتدت إلى الإسكان ليكون افتتاح مدينة أسوان الجديدة هو أفضل ختام لأسبوع الصعيد.
المدينة مقامة على أحدث الطرز المعمارية ولا تبعد عن مدينة أسوان القديمة سوى 15 دقيقة فقط، وهى مدة عبور الكوبرى العملاق الذى يعبر نهر النيل والذى يربط بين المدينتين القديمة والجديدة.
تذكرت على الفور كوبرى «تحيا مصر» العملاق فى روض الفرج وأنا أعبر الكوبرى الذى يربط بين مدينتى أسوان القديمة والجديدة لوجود أوجه تشابه كبيرة بينهما خاصة فيما يتعلق بالتصميمات والقدرة على تسيير السفن السياحية أسفله دون عوائق.
هذه الإنجازات التنموية العملاقة فى صعيد مصر تصب بالضرورة فى مجال حقوق الإنسان لأنها توفر الحياة الكريمة للمواطنين هناك، وفى جميع ربوع الدولة المصرية.
اكتملت منظومة الربط بين التنمية وحقوق الإنسان يوم الخميس الماضى بافتتاح مركز بدر للإصلاح والتأهيل ليكون ثانى مركز من نوعه بعد مركز وادى النطرون فى إطار التطبيق العملى للإستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، التى تهدف إلى حفظ كرامة المواطن المصرى فى دولته، والالتزام بمواثيق حقوق النزلاء فى هذه المراكز وإعادة تأهيلهم وتدريبهم ودمجهم فى المجتمع مرة أخرى..
مركز بدر هو النموذج المصغر لمركز وادى النطرون وهو مخصص للنزلاء من ذوى العقوبات البسيطة التى لا تزيد على 3 سنوات.
المركز يحتوى على مستشفى متكامل لتقديم أفضل نظم الرعاية الطبية للنزلاء، وبه أماكن للرعاية المركزة، ومستشفى للنساء، وحجرات عمليات (صغرى وكبرى)، وقسم لعلاج الإدمان.
استمعنا إلى فقرة غنائية من النزيلات، وشاهدنا معرضا للحرف التراثية واليدوية والفنية من إنتاج النزلاء، وهو ما يسهم فى تأهيلهم وتدريبهم ليكونوا مواطنين أسوياء مرة أخرى وقابلين للدمج فى المجتمع بعد قضاء مدة العقوبة المقررة.
ما حدث من نشاط مكثف وخطوات جبارة فى عام 2021 إنما يؤشر على أن العام الجديد 2022 هو عام الأمل بإذن الله الذى سوف يشهد المزيد والمزيد من الإنجازات ليتحقق الربط الكامل بين التنمية وحقوق الإنسان من أجل حياة كريمة ولائقة لكل المصريين فى كل شبر من الدولة المصرية بعيدا عن «التهميش» و«العزلة» والتفرقة بين منطقة وأخرى.