حدود العلاقة بين مسئولية «الدولة» والتزامات «المواطن»

حدود العلاقة بين مسئولية «الدولة» والتزامات «المواطن»

بقلم ــ ‬عبدالمحسن‭ ‬سلامة

هل ينبغى أن تكون هناك حدود للعلاقة بين مسئولية «الدولة» تجاه مواطنيها، والتزامات «المواطن» تجاه دولته؟

أعتقد أنه من المهم طرح هذا التساؤل لزيادة الوعى بالتداخل الشديد بين مسئولية الدولة والتزامات المواطن فى إطار ترسيخ مفهوم الشراكة بين الدولة والمواطن من أجل بناء مجتمع متقدم وحضارى يليق بمصر والمصريين.

دار هذا السؤال فى عقلى، حينما كنت أتابع مداخلة الرئيس عبدالفتاح السيسى خلال إطلاق مشروع تنمية الأسرة المصرية يوم الاثنين الماضى، وأنا جالس بين الحضور.

الرئيس أشار إلى زيارته الأخيرة لبلجيكا ضمن القمة الأوروبية ــ الإفريقية، وكان قد التقى العديد من المسئولين الذين تناقشوا فى قضايا عديدة، من بينها ملف حقوق الإنسان.

ولأن الرئيس يجيد الدخول إلى «صلب» القضايا المطروحة دون «لف أو دوران» فقد بادر المسئول الذى كان يتحدث إليه بالسؤال عن حجم الناتج القومى لدولته وعدد سكان هذه الدولة.

المسئول أجاب أن عدد سكان دولته 10 ملايين نسمة، وإجمالى الناتج المحلى نحو 500 مليار دولار.

توقف الرئيس عند إجابة المسئول الأوروبى، ورد عليه على الفور أن عدد سكان مصر نحو مائة مليون نسمة أى عشرة أضعاف عدد سكان تلك الدولة الأوروبية، وحتى تكون المقارنة عادلة فلابد أن يكون الناتج القومى المصرى عشرة أضعاف ناتج تلك الدولة، بما يقرب من 5 تريليونات دولار، لأنه فى تلك الحالة فقط تكون المقارنة مستحقة بين الدولتين فى مختلف المجالات.

الرئيس أوضح أن الدولة المصرية تريد أن تقدم الأفضل دائما فى مجال حقوق الإنسان وغيره من المجالات لكن تظل عقبة الإمكانات المحدودة والتى تقابلها زيادة سكانية «هائلة» و«غير منضبطة» تعرقل ذلك الهدف، مما يجعل من الصعب تحقيق كل الأهداف التى تتمناها الدولة لمواطنيها.

من هنا تبرز أهمية التوقف عند حدود العلاقة بين مسئولية «الدولة» والتزامات «المواطن»، وما هو الشكل الأمثل لتلك العلاقة؟!.

الأمر المؤكد أن هناك تداخلا شديدا بين مسئولية الدولة والتزامات المواطن، لأن مسئولية الدولة «واجبة» و«مؤكدة» لكنها لن تنجح أبدا إذا غابت التزامات المواطن.

نقطة البداية تبدأ من تشكيل الأسرة المصرية، وضرورة حرص طرفى الأسرة «الزوج والزوجة» على تكوين أسرة ملائمة لظروفهما المعيشية والاقتصادية، لكى يستطيعا من خلال أسرتهما توفير التعليم والصحة ومتطلبات الحياة الأخرى لعناصر الأسرة القادمين إلى الحياة من الأبناء والبنات.

للأسف الشديد هذا المفهوم مازال «غائبا» عند الكثيرين، مما ينتج عن ذلك أسرة ضعيفة اقتصاديا، ومفككة اجتماعيًا، وغير قادرة على الوفاء باحتياجات أفرادها الغذائية، والصحية والتعليمية والحياتية.

من المهم أن يتناسب عدد أفراد الأسرة مع ظروف الزوجين الاقتصادية والسكنية والمعيشية لأنه من غير المقبول ولا المعقول أن تعيش أسرة مكونة من خمسة أفراد مثلا فى حجرة واحدة أو حتى حجرتين، وفى الوقت نفسه لا يفى دخل الزوج بمتطلباتهم الحياتية.

النتيجة الطبيعية لذلك هى حدوث مشكلات التسرب من التعليم، وانتشار أمراض سوء التغذية، وعدم القدرة على تلقى العلاج الملائم، وانتشار عمالة الأطفال وغيرها من المشكلات الأخرى.

الناتج القومى للدولة ــ أى دولة ــ هو إجمالى الناتج القومى لأفرادها ومواطنيها فى الأساس وبعدها تأتى الاستثمارات الأجنبية أو غيرها من العوامل، وبالتالى كلما كان ناتج الأفراد كبيرا انعكس ذلك على إجمالى الناتج القومى، والعكس صحيح.

المشكلة أن الكثيرين مازالوا يتعاملون مع قضية تنظيم الأسرة باستهتار شديد، ومفاهيم خاطئة، واستسهال غير مبرر، مما نتج عنه تلك المعادلة الصعبة التى يتضاعف فيها عدد السكان بدرجة تفوق أضعاف نمو الناتج المحلى.

خلال الفترة من (1982 إلى 1991م) زادت مصر بنحو 17.7 مليون مولود بمتوسط 1.8 مليون مولود سنويا.

أما الفترة من (2002 إلى 2011م) فزادت مصر بنحو 20 مليون مولود، بمتوسط مليونى مولود سنويا.

وخلال الفترة من (2012 إلى 2021م) زادت مصر بنحو 25 مليون مولود بمتوسط 2.5 مليون مولود سنويا.

أى أن معدل الزيادة فى كل فترة ارتفع عن الفترة السابقة عليه، فى حين شهدت تلك الفترات مشكلات متعددة، خاصة خلال السنوات العشر الأخيرة، بعد أن كادت الدولة تنهار، وانهار معدل النمو الاقتصادى بعد 2011م إلى أدنى معدلاته، ثم ما لبث الاقتصاد المصرى أن تنفس بعد إطلاق برنامج الإصلاح الاقتصادى حتى جاءت كورونا التى ألحقت الكثير من الأذى والأضرار بالاقتصادات العالمية ومنها بالطبع الاقتصاد المصرى.

الطبيعى فى معظم دول العالم انخفاض معدلات النمو السكانى أو على الأقل ثبات تلك المعدلات، لكن الأوضاع فى مصر سارت عكس الاتجاه، فقد زادت معدلات المواليد من 1.8 مليون مولود خلال الثمانينيات والتسعينيات إلى مليونى مولود فى السنوات العشر الأولى فى الألفية الجديدة، ثم قفزت إلى 2.5 مليون مولود فى السنوات العشر الأخيرة.

هكذا سارت المؤشرات السكانية والاقتصادية فى مصر عكس بعضهما البعض لمصلحة الزيادة السكانية على حساب مؤشرات النمو الاقتصادى، فى وقت كان يجب أن يحدث العكس، وهو ما أدى إلى تحميل الدولة بمسئوليات أكثر مما تستطيع احتماله.

الحقيقة الصادمة الأخرى التى أطلقها الرئيس عبدالفتاح السيسى بصراحته المعهودة ورغبته فى أن تتبوأ مصر مكانتها اللائقة بها، كانت تتعلق بمستوى الخريجين، حينما أشار إلى مشروع كانت تتبناه الدولة لتأهيل شباب الخريجين للعمل كمبرمجين، وكان من المقرر أن تتحمل الدولة 30 ألف دولار لتأهيل الخريج الواحد، وهو مبلغ يوازى حوالى 450 ألف جنيه.

رغم ضخامة التكلفة فقد تحمس الرئيس للفكرة، ووجه المهندس ياسر القاضى وزير الاتصالات السابق بالبدء فى إطلاق المشروع.

تقدم أكثر من 300 ألف خريج من كليات الهندسة، والحاسبات وتكنولوجيا المعلومات للالتحاق بتلك الدورات التدريبية.

هنا توقف الرئيس بعض الوقت، وطلب من الدكتور مصطفى مدبولى رئيس الوزراء استكمال القصة، لأن الرئيس يتميز بصراحته الشديدة المعهودة، لكنه فى الوقت نفسه، يحرص دائما على أن تكون كلماته محسوبة بدقة، حتى لا يؤذى أحداً، وفى الوقت نفسه يقوم بتوصيل المعلومة التى يريدها.

شرح د. مصطفى مدبولى أمام الحاضرين القصة، مشيرا إلى أن عدد الذين استطاعوا النجاح فى الاختبارات 111 شخصا.

كنت أسجل ملاحظاتى كعادتى دائما فى المؤتمرات واللقاءات وتوقفت عند الرقم، ولم أستطع كتابته، لأننى لم استوعب الرقم، وهل يقصد رئيس مجلس الوزراء 111 ألفا؟ بما يعنى نحو 40٪ من المتقدمين، أم 111 شخصا فقط.

تدخل الرئيس مستكملا وموضحا أن عدد الناجحين بلغ 111 خريجا فقط، لأن مستوى التعليم ضعيف، وهنا اتضحت الصورة، وكتبت الرقم «111» شخصا فقط.

ذكر الرئيس هذه القصة فى إطار حرصه الشديد على إعادة بناء الوطن والمواطن بالجودة والكفاءة ذات المعايير العالمية.

لن يتحقق ذلك إلا إذا تناسب عدد السكان مع إمكانات الدولة، فإذا كان عدد المواليد يقدر بنحو مليونى مولود سنويا، والكثافة المناسبة للفصل التعليمى الواحد 40 تلميذا فى كل فصل، فمعنى ذلك ضرورة إضافة حوالى 45 ألف فصل سنويا.

بحسبة بسيطة تصل تكلفة إنشاء الفصل الواحد حوالى 500 الف جنيه، بما يعنى ضرورة توفير أكثر من 22 مليار جنيه سنويا لتوفير أماكن مناسبة للتلاميذ بعيدا عن تكاليف التشغيل الأخرى من تعيينات المدرسين والتغذية المدرسية والصيانة وغيرها.

لا يدخل فى تلك الحسبة الاحتياجات المتراكمة من السنوات السابقة التى تصل إلى ما يقرب من 200 ألف فصل.

ضعف الإمكانيات وعدم ملاءمتها الزيادة السكانية الضخمة التى تحدث كل عام فى مصر أدى إلى ضعف مستوى الخريجين بهذا الشكل غير المقبول، والأخطر هو ما يحدث من تسرب للتلاميذ من مراحل التعليم المختلفة، وهو الأمر الذى يترتب عليه انتشار الأمية وعمالة الأطفال وغيرهما من الظواهر السلبية.

أعتقد أنه آن الأوان للمواجهة والمراجعة، بحيث يتحمل المواطن «التزاماته» أولا تجاه أسرته لتقوم الدولة بمسئولياتها بعد ذلك تجاه كل أفراد المجتمع، وتوفير احتياجاتهم الصحية والتعليمية والمعيشية بالجودة والكفاءة التى يستحقها كل المصريين، وبذلك تستقيم المعادلة بين الطرفين «المواطن» و«الدولة» لتنطلق مصر إلى مكانتها اللائقة فى كل المجالات.

Back to Top