طابا رمز الإرادة والحلم والأمل

نشر بالأهرام الأحد 20 مارس

طابا رمز الإرادة والحلم والأمل

على الرغم من أنها مدينة صغيرة لا تتجاوز مساحتها 508.8 فدان، ويسكنها نحو 5 آلاف نسمة، فإنها كانت رمزا للإرادة المصرية فى استحالة التخلى عن شبر واحد من الأراضى المصرية أو حتى حبة رمل واحدة.

احتلتها إسرائيل فى 1967، واستردتها مصر فى 1989، وما بين التاريخين جرت مياه كثيرة، وكانت البداية نصر أكتوبر العظيم فى 1973.

نصر أكتوبر هو كلمة السر لكل ما تحقق من إنجازات بعد ذلك، بعد أن نجح الجيش المصرى فى كسر شوكة العدو الإسرائيلى، وإنهاء أسطورة الجيش الذى لا يقهر، ليفتح الباب واسعا أمام تحركات السلام التى قادها الزعيم الراحل أنور السادات ببراعة، ليصبح بحق بطل الحرب والسلام.

ولأن إسرائيل كيان مراوغ وعنيد، فقد حاولت التهرب من اتفاقية السلام والتزاماتها بالجلاء عن كامل الأراضى المصرية، وانسحبت من كل الأراضى باستثناء مدينة طابا، لعل وعسى تتوه وسط زحام الأحداث ونشوة استرداد باقى أراضى سيناء المباركة.

كانت اتفاقية السلام تنص على أن المرحلة الأخيرة للانسحاب الإسرائيلى من سيناء تتم فى آواخر 1981، إلا أن إسرائيل افتعلت أزمة طابا، وأنكرت العلامة 91 الخاصة بطابا، ليس هذا فقط، بل إنها بدأت فى تنفيذ بعض المشروعات فيها على طريقة «وضع اليد»، فقامت بافتتاح فندق وبعض المشروعات السياحية الأخرى، وأدخلت قوات حرس الحدود الإسرائيلية إلى طابا، باعتبارها أرضا إسرائيلية.

هنا تحركت الإرادة المصرية، ورفضت تلك الممارسات الإسرائيلية، وظهرت عقيدة الجيش المصرى الثابتة حينما وقف الرئيس المصرى الراحل حسنى مبارك أمام إحدى المذيعات الأجنبيات، ردا على سؤالها عن أزمة طابا، وفاجأها قائلا: «هل يمكنك التخلى عن أحد أطفالك؟».

كانت المذيعة تسأل عن طلبات مصر فى مقابل التنازل عن طابا لإسرائيل.

الرد كان حاسما وقاطعا، ولا يقبل التأويل أو المزايدات، ومن هنا بدأت رحلة التحكيم الدولى التى قبلت بها إسرائيل نتيجة الموقف المصرى الحاسم والقاطع.

لم تكن رحلة التحكيم هينة أو يسيرة، لكنها كانت صعبة ومعقدة، وتم تشكيل لجنة قومية عليا، للدفاع عن طابا، برئاسة د. عصمت عبدالمجيد، وزير الخارجية الراحل، وعضوية 24 خبيرا، منهم 9 خبراء قانون، واثنان من علماء الجغرافيا والتاريخ، و8 من العسكريين وخبراء المساحة العسكرية، و5 من كبار الدبلوماسيين.

بدأت جلسات التحكيم فى ديسمبر 1986، واستمرت تقريبا لمدة عامين، حتى صدر الحكم لمصلحة مصر فى 29 سبتمبر 1988، ووقع الحكم وحيثياته فى 230 صفحة.

حسم الحكم مصرية طابا، وعلى الرغم من ذلك، فقد حاولت إسرائيل المماطلة والتسويف، لكن صلابة الموقف المصرى وقفت حائلا أمام تلك المحاولات، وتم التوقيع من الجانبين المصرى والإسرائيلى على اتفاقية الانسحاب الإسرائيلى من طابا، وتحدد موعد الانسحاب 15 مارس 1989، وتعديل خط الحدود إلى شاطئ خليج العقبة عند العلامة 91.

بعد 22 عاما من الحرب والسلام والتحكيم الدولى، عادت طابا إلى أرض الوطن الأم آمنة مطمئنة كعودة الطفل إلى حضن أمه، وتلا ذلك تعويض إسرائيل عن إقامة المنشآت السياحية التى تم تغيير أسمائها من «العبرية» إلى «العربية».

كنت من بين المحظوظين الذين رافقوا أوائل الوفود المصرية المدنية فى الدخول إلى أرض طابا بعد تحريرها واستردادها.

رافقت قافلة طبية نظتمها نقابة الصيادلة، برئاسة د. مصطفى إبراهيم، آنذاك، وضمت أطباء فى تخصصات متنوعة، والأدوية اللازمة لعلاج الأهالى، وزارت القافلة التجمعات البدوية الموجودة فى منطقة طابا، والمناطق المجاورة لها.

كان استقبال «أهالينا» فى طابا استقبالا حافلا، وكأنهم كانوا متلهفين على كل ما هو مصري، وكانوا ينتظرون لحظة عودتهم إلى أحضان مصر بـ«فارغ الصبر»، وكانوا يسارعون بتقديم واجب الضيافة، والترحيب بكل أعضاء القافلة من الأطباء والصيادلة والصحفيين وكل المشاركين.

لحظة لا يمكن أن تسقط من الذاكرة، لأنها تؤرخ لكل معانى الإرادة المصرية، والعزيمة التى لا تلين فى الحفاظ على تراب مصر ومقدرات شعبها.

من أعلى منطقة فى طابا، وبجوار العلم المصرى الذى يرفرف عزيزا خفاقا، تشاهد بالعين المجردة ثلاث دول مجاورة: السعودية والأردن وإسرائيل، حيث تبعد عن ميناء إيلات الإسرائيلى نحو 7 كم شرقا، وتقع فى مواجهة الحدود السعودية فى اتجاه مباشر لقاعدة تبوك العسكرية، وكذلك تقع فى مواجهة الميناء البحرى الوحيد للأردن، وهو ميناء العقبة.

لم تسلم طابا، كغيرها من مدن سيناء، من محاولات أهل الشر والتكفيريين والإرهابيين التى لا تقل «خسة» عن محاولات احتلالها. ففى أكتوبر 2004 وقعت عدة تفجيرات متزامنة فى طابا ونوبيع، استهدفت فندق هيلتون طابا، ومخيمى «أرض القمر» و«البادية» فى نويبع باستخدام 3 سيارات مفخخة، وأسفرت تلك الانفجارات الغادرة عن استشهاد 7 مصريين ومقتل 24 أجنبيا، وإصابة 135 آخرين. كما أسفرت الانفجارات عن تدمير عشرة طوابق كاملة من فندق هيلتون طابا.

هكذا عادت يد الغدر تحاول السيطرة على سيناء وغير سيناء، وللأسف فقد تنامت تلك الظاهرة البغيضة، خاصة بعد 2011، حتى وصل الأمر إلى التهديد بإعلان ولاية «داعش» فى سيناء.

مع بدء ولاية الرئيس عبدالفتاح السيسى بدأت خطة العبور الثانى إلى سيناء، لاستكمال مسيرة العبور الأول فى 1973 الذى كان البداية لاسترداد سيناء بالنصر، ثم فتح الباب للسلام، حتى تحرير طابا، آخر نقطة فى سيناء.

العبور الثانى لا يقل أهمية عن العبور الأول، لأن العبور الثانى هو الذى يحمى العبور الأول، ويحافظ على مكتسباته.

ربما يكون العبور الثانى هو الأصعب، لأنه كان مليئا بالتحديات، وكان يواجه عدوا غير منظور، يرفع شعارات براقة، هو منها براء، ويستخدم كل أساليب الغدر والخسة والوحشية، ومن هنا كانت صعوبة المعركة التى نجح فيها الجيش المصرى مرة أخرى، ليبرهن دائما على قدرته على مواجهة كل التحديات والصعاب بكل أشكالها وأنواعها، سواء أكانت خارجية أم داخلية.

نجح الجيش المصرى بعد إطلاق العملية الشاملة فى استئصال أوكار الإرهابيين فى سيناء وباقى المحافظات، وجفف منابع تمويلهم.

على الجانب الآخر، كانت هناك عملية تعمير كبرى لسيناء فى إطار خطة إستراتيجية لتعمير سيناء، زراعيا وصناعيا وسياحيا وبشريا.

نصيب سيناء العادل من السكان لا يقل عن 6 ملايين مواطن إذا تمت مقارنة عدد السكان بالمساحة، حيث تبلغ مساحة سيناء نحو 6٪ من إجمالى مساحة مصر، التى تبلغ مليون كيلو متر مربع. ولأنها لم تأخذ حظها من الاهتمام الكافى طيلة عقود طويلة، لم يزد عدد سكانها حتى الآن عن 500 ألف نسمة تقريبا.

بدأ العبور الثانى بإقامة أضخم شبكة من الأنفاق والكبارى، وصلت إلى 20 نقطة اتصال ما بين أنفاق وكبارى ومعديات، منها 5 أنفاق تم افتتاحها، فى حين لم يكن هناك قبل ذلك سوى نفق وحيد، هو نفق الشهيد أحمد حمدى، ليصبح عدد الأنفاق الآن 6 أنفاق تربط سيناء بمحافظات القناة الثلاث (نفقان فى الإسماعيلية، ونفقان فى بورسعيد، وأخيرا نفقان فى السويس).

تكلفة الأنفاق الخمسة بلغت أكثر من 30 مليار جنيه فى مدة 6 سنوات، فى حين استمر العمل فى نفق الشهيد أحمد حمدى وحده أكثر من 6 سنوات.

انتهت عزلة سيناء للأبد، لتكون البداية بإطلاق أضخم مشروع لتعمير وتنمية سيناء الذى بلغ حجم إنفاقه حتى الآن نحو 700 مليار جنيه فى مجالات استصلاح واستزراع الأراضى، وإقامة مجتمعات عمرانية جديدة، وكذلك إطلاق أكبر مشروع لمعالجة مياه الصرف طبقا للمعايير العالمية، واستخدامها فى مجال الرى، وهو مشروع محطة تحلية مياه المحسمة، الذى يعمل بطاقة مليون متر مكعب يوميا، وبتكلفة 17 مليار جنيه، لزراعة 50 ألف فدان، ضمن المشروع القومى لزراعة 500 ألف فدان فى سيناء.

الإرادة المصرية الصلبة فى استرداد كامل أراضى سيناء بعودة طابا قبل 33 عاما تحولت إلى عزيمة لا تلين، لتعمير سيناء كجزء عزيز من الأراضى المصرية، فى إطار إستراتيجية الجمهورية الجديدة، للنهوض بكل شبر من أراضى الدولة المصرية، من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، لكى تظل أرض سيناء رمزا للكرامة والإرادة المصرية، القادرة على مواجهة كل الصعاب والتحديات، وتحويل الحلم إلى واقع ينعم به كل المصريين.

Back to Top