العبور الآمن لـ«صدمة» الحرب الروسية-الأوكرانية

العبور الآمن لـ«صدمة» الحرب الروسية-الأوكرانية

بوضوح وصراحة، أعلن الرئيس عبدالفتاح السيسى، أكثر من مرة، وفى أكثر من لقاء، آخرها الخميس الماضى فى أكاديمية الشرطة، أنه لا توجد أزمة غذاء أو سلع فى مصر، وأن المخزون «السلعى» الإستراتيجى آمن، ولا يدعو للقلق، لكن فى الوقت نفسه هناك أزمة اقتصادية عالمية، وأن هذه الأزمة لها انعكاساتها على الاقتصاد المصرى، مثله فى ذلك مثل باقى الاقتصادات العالمية.

كان لابد من إعداد خطة للعبور الآمن لصدمة الحرب الروسية ــ الأوكرانية، التى هبطت على العالم فجأة، ودون سابق إنذار، خاصة أنها جاءت بعد أزمة عالمية طاحنة بسبب وباء «كورونا».

أعتقد أن قرارات البنك المركزى الأخيرة برفع الفائدة، وخفض سعر الجنيه، كانت قرارات ذكية، وتنتظرها الأسواق المصرية، لأنها أدت إلى خلق محفزات جديدة لتجاوز أزمة الحرب الروسية ــ الأوكرانية، وزيادة التدفقات الاستثمارية الخارجية، والحفاظ على معدلات تحويلات المصريين بالخارج التى سجلت فى العام الماضى مستويات قياسية، بلغت نحو 31٫5 مليار دولار.

هذه القرارات شكّلت جسرا للعبور الآمن بالاقتصاد المصرى من تداعيات الحرب الروسية ــ الأوكرانية، التى أدت إلى ارتفاع معدلات التضخم عالميا بنسب قياسية، وانعكست آثارها على الأسواق المحلية، مما كان يتطلب سرعة المواجهة، بما انعكس إيجابيا على استمرار جاذبية الأسواق المصرية أمام المستثمرين الدوليين، وصناديق الاستثمار العالمية.

كان صندوق النقد الدولى قد حذر على لسان كريستالينا جورجيفا، المديرة التنفيذية للصندوق، من أن الحرب فى أوكرانيا سوف تكون لها تبعاتها الخطيرة على الاقتصاد العالمى، خاصة الدول الإفريقية.

وأشارت، فى تصريحاتها، إلى أن الحرب الحالية تعنى الجوع فى إفريقيا، وأنها سوف تؤدى إلى تباطؤ النمو الاقتصادى العالمى، ونتجت عنها صدمة قوية، أدت إلى ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة.

الروبل الروسى تأثر بشدة، وتجاوز سعر صرف الدولار أكثر من 118 روبلا روسيًا، ثم عاود واستقر عند حدود 98 روبلا خلال نهاية الأسبوع الماضى.

لم تتأثر روسيا وأوكرانيا وحدهما، وإنما امتدت الآثار إلى حدوث موجة تضخم عالمية أجبرت البنوك المركزية فى أمريكا، والعديد من الدول الأوروبية على رفع مستويات أسعار الفائدة، فى محاولة منها لمواجهة الصدمة السعرية، والموجات التضخمية.

نجاح خطة الإصلاح الاقتصادى المصرى، التى انطلقت فى 2016، كانت وراء قدرة الاقتصاد المصرى على مواجهة تبعات جائحة «كورونا»، وبعدها صدمة الحرب الروسية - الأوكرانية.

كان الاقتصاد المصرى من الاقتصادات القليلة فى العالم التى حافظت على تسجيل معدل نمو إيجابى، وكذلك نجح فى الحفاظ على معدل التصنيف الائتمانى خلال فترة الجائحة.

فى النصف الأول من العام المالى الحالى سجل الاقتصاد المصرى معدل نمو 9%، وهو أعلى معدل نمو منذ 20 عاما، مما جعل البنك الدولى يتوقع أن يكون الاقتصاد المصرى واحدا من أفضل الاقتصادات العالمية التى تحقق معدلات نمو خلال العام المالى الحالى، لكن جاءت الحرب الروسية - الأوكرانية لتترك آثارها السلبية التى تعمل الحكومة بكل جدية على تجاوزها.

الروشتة المصرية الخالصة خلال جائحة «كورونا»، التى مزجت بين الحفاظ على دوران عجلة العمل والإنتاج، واتخاذ كل الإجراءات الاحترازية فى مواجهة فيروس «كورونا» اللعين فى الوقت نفسه، كانت هى كلمة السر فى القدرة على تجاور أزمة «كورونا»، ومحاصرة آثارها السلبية إلى أدنى حدود ممكنة.

بالطريقة نفسها، وبروشتة مصرية خالصة أيضا، وبذكاء وحكمة، أخذت الدولة المصرية زمام المبادرة، لمواجهة تداعيات صدمة الحرب الروسية ـ الأوكرانية، وقررت اتخاذ العديد من الخطوات فى الأسبوع الماضى من أجل العبور الآمن لتلك الأزمة، التى تمثلت فى خفض مؤقت لقيمة الجنيه، ورفع أسعار الفائدة، بما يتماشى مع معدلات التضخم الحالية.

حينما أقول «خفض مؤقت لقيمة الجنيه»، فهو قول يستند إلى تجربة عملية سابقة، حيث سبق أن قفز سعر الدولار فى بداية مشوار الإصلاح الاقتصادى إلى ما يقرب من 20 جنيها، لكنه تراجع واستقر عند حدود 15 جنيها و70 قرشا، وكان من الممكن أن ينخفض إلى أقل من ذلك، حيث كانت تشير التوقعات إلى انخفاض إلى نحو 13 جنيها لولا أزمة جائحة «كورونا»، وما سببته من متاعب اقتصادية عالمية.

على الرغم من تلك الأزمة، فقد حافظ سعر الجنيه على استقراره طيلة أزمة «كورونا» إلى أن جاءت صدمة الحرب الروسية ــ الأوكرانية، فكان من الخطر الانتظار طويلا، وضرورة التحرك العاجل والمخطط، لمواجهة تلك الأزمة قبل استفحال آثارها.

لكل ذلك يمكن القول إن خفض سعر الجنيه هو خفض «مؤقت» مرتبط بمواجهة أزمة «طارئة»، والرغبة فى تجاوزها بأقصى سرعة ممكنة، ومن أجل الحفاظ على مكتسبات الاقتصاد المصرى الأخيرة، الذى أصبح من الاقتصادات الناشئة الجاذبة عالميا، خاصة أنه نجح فى الخروج من مأزق جائحة «كورونا» بأقل أضرار ممكنة، وحافظ على معدلات نموه الإيجابية.

الإجراءات العاجلة والسريعة تضمنت كذلك إعلان الحكومة المصرية اللجوء إلى صندوق النقد الدولى، لطلب الدعم من أجل التخفيف من تأثيرات الحرب الروسية ــ الأوكرانية، والتفاوض بشأن برنامج جديد للدعم والمشورة الفنية والتمويل الإضافى.

ولثقته فى الإجراءات والإصلاحات الاقتصادية المصرية، فقد رحب صندوق النقد الدولى على لسان سيلين آلار، رئيسة بعثة صندوق النقد الدولى لمصر، بالتفاوض حول برنامج الدعم الجديد لمصر من أجل مواصلة تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادى الشامل، وخلق الوظائف، وتحقيق الاستقرار الاقتصادى والمالى.

كما رحبت رئيسة بعثة صندوق النقد الدولى لمصر بالإجراءات التى اتخذتها مصر، خاصة فيما يتعلق بتوسيع شبكة الحماية، وتوجيهها لمستحقيها، وتطبيق المرونة فى سعر صرف الجنيه، الذى كان عاملا ضروريا لاستيعاب الصدمات الخارجية، وحماية هوامش الأمان المالية خلال هذه الفترة من عدم اليقين.

التوصل إلى تفاهم واتفاق مع الصندوق هدفه مواجهة الصدمات السعرية لأسعار الطاقة والسلع فى العالم، حيث ارتفعت قيمة واردات البترول إلى ما يقرب من مليار دولار شهريا، وبإجمالى نحو 12 مليار دولار سنويا، بعد الارتفاع الجنونى فى أسعار البترول، وبزيادة أكثر من 100٪، مقارنة بالأسعار السابقة والتى لم تكن تتجاوز 500 مليون دولار شهريا، وبإجمالى نحو 6 مليارات دولار سنويا.

بنظرة بسيطة إلى واردات بند واحد فقط، ألا وهو بند البترول، نجد أن تكاليفه ارتفعت من 6 مليارات دولار سنويا إلى أكثر من 12 مليار دولار. ولأنه من الصعب أن تنعكس تلك الزيادة بشكل مباشر على المواطنين، كان لابد من اتخاذ الإجراءات التى قام بها البنك المركزى، المتمثلة فى خفض سعر الجنيه، ورفع أسعار الفائدة، وكذلك قيام الحكومة بالتفاهم والاتفاق مع صندوق النقد حول برنامج تمويلى جديد، لامتصاص تلك الصدمات المفاجئة وغير المتوقعة نتيجة اندلاع الحرب الروسية ــ الأوكرانية.

على الرغم من كل ذلك، تسير خطط تنمية المحافظات، و«حياة كريمة» فى الريف، والمشروعات القومية المختلفة فى طريقها المعتاد، ودون تأجيل أو تباطؤ، وهو ما أكده الرئيس عبدالفتاح السيسى خلال تفقده طلاب أكاديمية الشرطة فجر الخميس الماضى، مشيرا إلى أنه لا توجد أدنى مشكلة فيما يخص توافر السلع، وكل احتياجات المواطنين، وفى الوقت نفسه فإن الدولة تسير فى كل مخططات التنمية مثل مخطط تنمية القرى المصرية، ومضاعفة النمو العمرانى من 7% إلى 14% من أجل استيعاب الأعداد المتزايدة من السكان، وإيجاد فرص عمل جديدة.

يبقى بعد ذلك دور المواطن، وضرورة تحمل مسئوليته فى إيقاف النمو السكانى العشوائى، وإعادة التوازن بين معدلات النمو السكانى والنمو الاقتصادى، وترشيد الزيادة السكانية الرهيبة التى تلتهم كل معدلات النمو الاقتصادى بلا ضوابط.

إلى جانب مواجهة الزيادة السكانية، من المهم كذلك ترشيد الاستهلاك، خاصة ونحن مقبلون على شهر رمضان المعظم، بما يتوافق مع عبادة الصوم، وفى الوقت نفسه تقليل الضغط على المعروض من السلع فى الأسواق.

أخيرا.. فإنه من المؤكد أن الاقتصاد المصرى سوف ينجح فى تجاوز صدمة الحرب الروسية ــ الأوكرانية، كما نجح قبل ذلك فى تجاوز أزمة الإصلاح الاقتصادى فى 2016، وتجاوز جائحة «كورونا»، بعد أن أصبح مؤهلا للتعامل مع الأزمات، وقادرا على امتصاصها، وتجاوز كل آثارها السلبية بأقصى سرعة ممكنة ــ إن شاء الله.

Back to Top